إنقراض المقامة في الأدب العربي...
الأسباب ..والنتائج
علاء الأديب
سبقت القصة أو الحكاية الشعر في الظهور وقد احتلت مساحة واسعة من اهتمام الناس لفترة طويلة من الزمن لما تتطرق اليه من المواضيع التي تثير اهتمامهم .كالحكايات التي تتحدث عن العادات والتقاليد والبطولات والأساطير والخوارق والسحر والسحرة وإلى أخره مما يستهوي المتلقي انذاك.
في القرن الرابع للهجرة ظهر نوع جديد من أنواع الأدب يعتمد الحكاية محورا له إلاّ إنّ مبدعي هذا النوع قد تعمدوا التصنيع والتأنيق واستخدام النوادر والتاريخ والحكمة .
وقد أطلق على هذا النوع ب(المقامات).
إعتنى أصحاب المقامات بجماليات اللفظ والأسلوب حتى تفوقت لفترة طويلة على الشعر من هذه الناحية.ومع ذلك لم تحظ المقامات حظوة الشعر عند الأدباء وهذا لايعني بأنها لم تكن ذات اهمية بوقتها وحينها . إلا إنّها كنوع من أنواع النثر عانت من سطوة الشعر عليها كما هو حال بقية فنون الأدب النثرية .
يعتبر بديع الزمان الهمذاني (357هـ - 398هـ) أول من صاغ المقامات وابدع فيها وهذا هو المتعارف عليه والسائد رغم أن بعض الباحثين يتهمون الهمذاني باقتباس مقاماته من رسائل شيخ اللغويين أبي الحسين أحمد بن فارس (390هـ). وهناك من يذهب الى أن مقامات الهمذاني مشتقة من أحاديث بن دريد (321هـ).
المقامات في اللغة جمع المقامة والمقامة هي المجلس. والمقصود بالمقامة فی الأدب (قصة تدورحوادثها في مجلس واحد). وهي قصة وجیزة أوحکایة قصیرة مبنیةعلی الکدیة (الاستعطاء) وعناصرها ثلاثة:
1) راویة ینقلها عن مجلس تحدث فیه.
2) مکدٍ (بطل) تدور القصةحوله وتنتهي بانتصاره فی کل مرة.
3) مزحة (نکتة)، (عقدة) تُحاک حولها المقامة؛ وقد تکون هذه المزحة بعیدة عن الاخلاق الکریمة وأحیاناً تکون غثّة أوسَمحة وتبنی المقامة علی الإغراق في الصناعة اللفظیة خاصة والصناعة المعنویةعامة.
والمقامات فنّ الفکاهة وهي روایة الحکایة في حال من المرح مع الاشارة إلی ما یستطیبه الناس عادة من اللهووالجنس والهزؤ والإضحاک والإطراف. والمقامات نفسها مملوءة بالفکاهة، وتظهر الفکاهة في الشعر أیضاً وتکون في الشعر لفتة بارعة أوملحة نادرة أونکتة صائبة أوتعبیراً جدیداً طریفاً، وقد تکون عرضاً لأمور لاتقتضي الإنسان تفکیراً بل یأخذ الإنسان منها بظاهر القول هوناً وفي هذا الباب أخبار المکدین (المتسولین) والطفيلیین، ومثل ذلک الأحاجي، وهي أسئلة علی غیر المنهاج المنطقي تحتاج في الإجابة التي نباهة وذکاء أکثر مما تحتاج إلیه من العقل والمعرفة. وفي المقامات شيء کثیر من هذا کله مبني علی التوریات وراجع إلی أحوال مفردة، وهي المسمیّ "ألغازاً".
ولما تتسم به المقامة عن غيرها من الفنون الأدبيّة الأخرى فإنّ انقراضها في زمننا هذا أدى الى انقراض سماتها التي كانت تستقطب الناس اليها فلم تعد فكاهة المقامات موجودة بغيرها من الفنون الأخرى من أدبنا ولم يعد الإغراق في في صناعة اللفظ شغلا شاغلا لغير اصحاب المقامات ولم تعد المجالس التي تعتبر من مقومات المقامة قائمة كما كانت.
ومن هذا نستنتج بأنّ انقراض المقامة هو انقراض للكثير من جماليات الأدب العربي الذي تراجعت الكثير من فنونه عن مستوياتها وخاصة بعد العولمة التي باتت تأخذ بنا لفقدان الهوية شيئا فشيئا.
إنّ سهولة أن تكون شاعر أو كاتبا في هذا الزمن دون أن تمتلك مزايا الشاعر والكاتب الحقيقية حتما سيأخذك الى السهل من اللغة الفاظا وتعابير وصور . والمقامة هنا لايمكن أن يعتلي صهوتها الاّ من كان يتمتع بقابليات ثرّة في مجال اللغة والنحو والصرف والبلاغة والحكمة والذكاء وسرعة البديهية.
ولا أعتقد بأنّ جيل العولمة يمكن أن يكون جيلا بهذا العمق من المسؤولية التي تحتم إعادة المقامة الى الأدب العربي لأنعاشه إلا مارحم ربّي.
رحم الله زمان الهمذاني .....ومقامات العرب.
ولا سامح الله من أجهزوا على تراثنا الأدبي .
علاء الأديب
تونس
22-3-2016