الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد شرع الله الأضحية لعباده المسلمين عبادة وفرحة ومنسكًا من مناسك أيام عيد الأضحى؛ فأقبل عليها المسلمون، فهي -بحمد الله- من أكثر الشعائر شيوعًا بين عامة المسلمين، وقد أردت بيان حكم التصرف في جلد الأضحية؛ لأن أكثر مسلمي بلادنا لا ينتفعون بالجلد في العادة، فيحتاجون إلى التنبيه على ما يحل وما يحرم من التصرف في الجلد، فإلى البيان:
قال ابن رشد -رحمه الله- في بداية المجتهد "1/537" دار العقيدة: "والعلماء متفقون فيما علمت أنه لا يجوز بيع لحمها، واختلفوا في جلدها وشعرها وما عدا ذلك مما ينتفع به منها، فقال الجمهور: لا يجوز بيعه، وقال أبو حنيفة: يجوز بيعه بغير الدراهم والدنانير: أي العروض، وقال عطاء: يجوز بكل شيء دراهم ودنانير وغير ذلك(1).
وإنما فرق أبو حنيفة بين الدراهم وغيرها؛ لأنه رأى أن المعاوضة بالعروض هي من باب الانتفاع، لإجماعهم على أنه يجوز أن ينتفع به".
ومن فوائد هذا النقل: أن المنع من بيع اللحم محل إجماع، وهو أقوى عند العلماء من بيع الجلد، فأردت التنبيه حتى لا يسيء أحد الفهم في هذه المسألة التي لا يتكرر التنبيه عليها غالبًا.
ملحوظة: نقل ابن حزم -رحمه الله- في المحلى (4/385) عن الشعبي أبي العالية جواز بيع الجلد مطلقًا، وهذا القول بعيد جدًا، لعل قائليه لم تبلغهم السنة.
أدلة النهي عن بيع جلد الأضاحي أو شيئًا منها:
1- روى البخاري (1610) عن علي -رضي الله عنه- أنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمَرَهُ أَنْ يَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ، وَأَنْ يَقْسِمَ بُدْنَهُ كُلَّهَا لُحُومَهَا وَجُلُودَهَا وَجِلالَهَا، وَلا يُعْطِيَ فِي جِزَارَتِهَا شَيْئًا.
وبنحوه رواه مسلم بلفظ قريب (1317)، ورواه غيرهما، وفي رواية: (وَأَنْ لا أُعْطِيَ الْجَزَّارَ مِنْهَا شَيْئًا).
وجه الدلالة من قوله: "وَلا يُعْطِيَ فِي جِزَارَتِهَا شَيْئًا":
دل الحديث على النهي عن إعطاء الجزار أجرته منها، وأظهر علة يمكن إعمالها هنا هو أنه لا يجوز للمضحي التصرف في جلدها أو شيء منها على سبيل المعاوضة، وأما التعليل بمنع كون الأجرة بعض المعمول بعد العمل فبعيد جدًّا، ولا دليل على منع هذا، وحديث النهي عن قفيز الطحان لا يصح؛ رواه الدارقطني البيهقي وقال ابن تيمية "لا أصل له".
فيكون الحديث دالاً على منع دفع الأجرة من الأضحية، وقيس عليه المعاوضات المالية كالبيع سواء أكان بنقد أو بعرض.
وهذا الحديث هو في الهدي، ولكنَّ الأضحيةَ مساويةٌ للهديِ في العلَّة، وهي تعيينها قربة لله في حال مخصوص؛ فيشتركان في وجه الدلالة.
2- عن أبي سعيد أن قتادة بن النعمان أخبره أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنِّي كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ أَنْ لا تَأْكُلُوا الأَضَاحِيَّ فَوْقَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ لِتَسَعَكُمْ، وَإِنِّي أُحِلُّهُ لَكُمْ، فَكُلُوا مِنْهُ مَا شِئْتُمْ) قَالَ: (وَلا تَبِيعُوا لُحُومَ الْهَدْيِ وَالأَضَاحِيِّ فَكُلُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَاسْتَمْتِعُوا بِجُلُودِهَا، وَإِنْ أُطْعِمْتُمْ مِنْ لُحُومِهَا شَيْئًا فَكُلُوهُ إِنْ شِئْتُمْ) (رواه أحمد، وضعفه الأرناؤوط فراجع كلامه مفصلاً)، والذي صحَّ من خبر قتادة هو قوله -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُوا لُحُومَ الضَّوَاحِي وَادَّخِرُوا) "رواه أحمد (11499) و(16213) بسندٍ صحيح".
تنبيه: وقع في حاشية المسند: "إنْ كنت"، ولكن في مطبوعة الأرناؤوط: "إني" فهي أضبط، ووقع في منتقى الأخبار: "فكلوا أنَّى شئتم"، ولكن الذي في المسند ما أثبتُّه.
3- روى الحاكم في المستدرك من طريق زيد بن الحباب عن عبد الله بن عياش عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من باع جلد أضحيته فلا أضحية له)، ومن نفس الطريق رواه البيهقي (19015) باب: "لا يبيع من أضحيته شيئًا ولا يعطي أجر الجازر منها"، قال الحاكم: صحيح مثل الأول -يعني حديث: (مَن وجد سَعةً لأن يضحي فلم يُضَحّ..)- ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي بأن: ابن عياش ضعفه أبو داود، وقال في "مختصر السنن الكبرى" (8/3881، رقم 14910): "عبد الله بن عياش ضُعِّف، وقد أخرجَ له مسلم".
ابن عياش: ضعفه النسائي -وهو من العارفين برواة مصر؛ لنزوله بها مدة سنين- وأبو داود وجماعة، بل قال الحافظ ابن يونس صاحب "تاريخ المصريين" وهو أخبَر الناس برواتهم: "منكر الحديث"، وأما إخراج مسلم لحديثه، فقال الحافظ في التهذيب: "إنما أخرج له حديثًا واحدًا [عن يزيد بن أبي حبيب المصري] في الشواهد لا في الأصول" راجع التهذيب، وكذلك لم يخرج له عن الأعرج، فالإسناد على هذا لا تقوم به حُجَّة.
- يبقى لنا الاستدلال بالحديث الأول الدال على عدم المعاوضة بشيء من الأضحية، وظاهره يشمل بيعَها والتصدقَ بثمنها، أو إعطاءَها الجازرَ والتصدُّقَ بمقابل أجرته.
وقد اختلف أهل العلم في حكم بيع الجلد والتصدق بثمنه:
قال ابن قدامة في المغني (13/136 دار الحديث) عند قول الخرقي: "وله أن ينتفع بجلدها ولا يجوز أن يبيعه ولا شيئًا منها"، "وجملة ذلك أنه لا يجوز بيع شيء من الأضحية لا لحمها ولا جلدها واجبة كانت أو تطوعًا؛ لأنها تعينت بالذبح، قال أحمد: لا يبيعها ولا يبيع شيئًا منها، وقال: سبحان الله كيف يبيعها وقد جعلها لله -تبارك وتعالى-؟ وقال الميموني: قالوا لأبي عبد الله: فجلد الأضحية يعطاه السلاخ؟ قال: لا، وحكى قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَلا يُعْطِيَ فِي جِزَارَتِهَا شَيْئًا).. ثم قال: إسناده جيد، وبهذا قال أبو هريرة، وهو مذهب الشافعي، ورخص الحسن والنخعي في الجلد أن يبيعه ويشتري به الغربال والمنخل وآلة البيت، وروي نحو هذا عن الأوزاعي؛ لأنه ينتفع به هو وغيره فجرى مجرى تفريق اللحم، وقال أبو حنيفة: يبيع ما شاء منها ويتصدق بثمنه، وروي عن ابن عمر أنه يبيع الجلد ويتصدق بثمنه، وحكاه ابن المنذر عن أحمد وإسحاق".
أما أثر ابن عمر الذي أشار إليه ابن المنذر؛ فقد قال ابن حزم -رحمه الله- في المحلى: وروينا عن شعبة عن قتادة عن عقبة بن صهبان قلت لابن عمر: "أبيع جلد بقر ضحيت بها؟" فرخص لي.
هذا سند صحيح لا علة فيه.
تنبيه: يجوز للمضحي أن يقبل التوكيل من الفقير في أن يبيع له الجلد ويعطيه ثمنه، سواء أحدد له السعر أم لم يحدد، وبالتالي سيبيعه له المضحي بسعر السوق.
والتوكيل جائز بالإجماع وأدلته معروفة، ويحصل بقوله: وكلتك ونحوها، أو بالفعل الدال على ذلك.
هل يجوز أن يبيع المضحي الجلد ويعطي الثمن للفقير دون أن يستأذنه أو يستوكله؟
الجواب: سبق أن التوكيل يحصل بقول الفقير أو فعله، وأما تصرف المضحي أو كيل المضحي "الجمعيات الخيرية" ببيع الجلد والتصدق بثمنه فهو في الأصل ليس توكيلاً من الفقير إلا أن يتفقوا معه.
ولكن هنا مسألة مهمة: لو رأى الغني أو وكيله مصلحة في التعجيل ببيع الجلد ونحوه، والاحتفاظ بثمنه للفقير ألا يكون هذا من الإحسان؟
الجواب: اختلف العلماء في تصرف الفضولي وهذه الصورة منها، فالمضحي اعتبر الجلد ملكًا لفلان من الفقراء ووكل نفسه في القبض عنه "دون إذن الفقير"، وهذا تصرف فضولي.
ثم إنه باعه وقبض ثمنه ليدفعه للفقير "وهذا تصرف ثان من الفضولي".
فهل يصح التصرف؟
أولاً: الفضولي هو: من يتصرف في حق الغير بلا إذن شرعي، وذلك لكون تصرفه صادرًا من غير ملك ولا وكالة ولا ولاية.
عن عروة بن الجعد، قال: عرض للنبي -صلى الله عليه وسلم- جلب فأعطاني دينارًا فقال عروة: ائت الجلب فاشتر لنا شاة فأتيت الجلب فساومت صاحبه فاشتريت شاتين بدينار، فجئت أسوقهما أو أقودهما، فلقيني رجل بالطريق فساومني فبعت منهما شاة بالدينار، فجئت بالدينار وبالشاة فقلت: "يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا ديناركم وهذه شاتكم"، قال: (وكيف صنعت؟!)، فحدثته الحديث، فقال: (اللهم بارك له في صفقة يمينه)، فلقد رأيتني أقف بكناسة الكوفة فأربح أربعين ألفًا قبل أن أصل إلى أهلي، وكان يشتري الجواري ويبيع.
قال الأرناؤوط: مرفوعه صحيح، وهذا إسناد حسن من أجل سعيد بن زيد وأبي لبيد وهو لمازة بن زياد وبقية رجاله ثقات".
ورواه البخاري مختصرًا (3642)، (6/731) الفتح، عَنْ عُرْوَةَ: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْطَاهُ دِينَارًا يَشْتَرِي لَهُ بِهِ شَاةً، فَاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتَيْنِ، فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ وَجَاءَهُ بِدِينَارٍ وَشَاةٍ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ، وَكَانَ لَوْ اشْتَرَى التُّرَابَ لَرَبِحَ فِيهِ".
وقد ضعف الحديث الشافعي، ولكن قد أجاب الحافظ في الفتح (6/734) عن الاعتراض، فليراجع.
قال ابن المنذر في الأوسط (11/330) -حاكيًا عن غيره-: "إنما اشترى للنبي شيئًا رآه صالحًا ونظرًا له، فرضي النبي بذلك، ودعا له بالبركة".
وعن حكيم بن حزام بنحو هذه القصة رواه أبو داود (3379) والترمذي (1257) قال: "وقال: حديث حكيم بن حزام لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وحبيب بن أبي ثابت لم يسمع عندي من حكيم بن حزام"، وضعفه الألباني.
قال المطيعي في المجموع (14/162): "وقد استدل بهذا الحديث على صحة بيع الفضولي، وهو الذي يبيع ما لا يملك أو ما ليس مأذونًا في بيعه، وهو قول مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه، والشافعي في القديم، وقوَّاه النووي في الروضة، وهو مروي عن جماعة من السلف، منهم: على وابن عباس وابن مسعود وابن عمر، وإليه ذهب الزيدية، وقال الشافعي في الجديد وأصحابه: إن البيع الموقوف والشراء الموقوف باطلان لحديث: (لاَ تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، وأجابوا عن حديث عروة بما فيه من المقال، وعلى تقدير الصحة فيمكن أن يكون وكيلاً في البيع أيضًا بقرينة فهمها من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال أبو حنيفة: إنه يكون البيع الموقوف صحيحًا دون الشراء، والوجه أن الإخراج عن ملك المالك مفتقر إلى إذنه بخلاف الإدخال"، وللاستزادة في المذاهب راجع الموسوعة الفقهية (32/172).
فحديث عروة دال على صحة تصرف الفضولي في حال عدم اعتراض المالك الأصلي للبيع بالنقض، وهو هنا تصرف فضولي ببيع، أو يقال: إنه اشتراه بنفس الأمر الأول، فإنه اشترى شاتين لا واحدة، ثم باع إحدى الشاتين.
ومن أهل العلم من يطعن في الاستدلال به على تصرف الفضولي، ويجعله بابًا آخر وهو أن الإذن العرفي كالإذن الصريح.
قال ابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين (1/266) دار إحياء التراث: "وقد باع عروة بن الجعد البارقي وكيل النبي ملك النبي بغير إذنه لفظًا واشترى له ببعض ثمنه مثل ما وكله في شرائه بذلك الثمن كله ثم جاءه بالثمن وبالمشترى، فقبله النبي -صلى الله عليه وسلم- ودعا له.
وأشكل هذا على بعض الفقهاء وبناه على تصرف الفضولي، فأورد عليه أن الفضولي لا يَقبض ولا يُقبِض، وهذا قبض وأقبض.
وبناه آخرون على أنه كان وكيلاً مطلقًا في كل شيء، وهذا أفسد من الأول؛ فإنه لا يعرف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه وكل أحدًا وكالة مطلقة البتة، ولا نقل ذلك عنه مسلم.
والصواب أنه مبني على هذه القاعدة أن الإذن العرفي كالإذن اللفظي، ومن رضي بالمشتري وخرج ثمنه عن ملكه فهو بأن يرضى به ويحصل له الثمن أشد رضى، ونظير هذا مريض عجز أصحابه في السفر أو الحضر عن استئذانه في إخراج شيء من ماله في علاجه وخيف عليه، فإنهم يخرجون من ماله ما هو مضطر إليه بدون استئذانه بناء على العرف في ذلك، ونظائر ذلك مما مصلحته وحسنه مستقر في فطر الخلق، ولا تأتي شريعة بتحريمه كثير" اهـ.
وعلى أي من هذين التخريجين للحديث يتم الجواب عن المسألة سواء أقلنا هو تصرف فضولي أم قلنا هو إذن عرفي قائم مقام الإذن اللفظي، فإن الغالب على أهل زماننا صعوبة التصرف في الجلد، وغالبًا ما يُبخسون في أثمانها، وعهدنا الجمعيات الخيرية يواطئ المدابغ على أعلى الأسعار المتاحة، ولا نكاد نعلم أن فقيرًا رأى أنهم قد غبنوا في هذا البيع، مع أنهم يكفونه مؤنة الحمل والنقل والدباغ قبل التلف، وعلى هذا فيقوى -والله أعلم- صحة هذا التصرف الذي قد شاع في الناس، وإن كان الأصل أن ندعو الناس إلى أخذ توكيلات قولية من الفقراء أو غيرهم بالتصرف(2)، ولكن مع صعوبة هذا بالتجربة(*) وتحقق هذه المصالح وعدم الخروج على الحكم الشرعي، فيصح القول بذلك -والله أعلم-.
وإنما نعني للكلام على هذه المسألة أننا وكثيرًا من إخواننا حاولوا مع الجمعيات الخيرية وبعض المضحين؛ فوجدوا الأمر يتعذر ويصعب(*)، وفي الأمر سعة -والحمد لله-.
ولكن يترتب على هذا التخريج بعض اللوازم، منها:
1- لابد قبل تصرف المضحي أو وكيله "الجمعيات الخيرية" أن يعيِّن في نفسه فقيرًا أو مجموعة فقراء حتى يتصرف عنهم، أو على الأقل لو كان سيوزعها على الأسماء المدرجة بكشوف الجمعية أن يكون ذلك على باله، وليس له أن يوزع المال لغيرهم بعد ذلك فضلاً عن أن يضعها في مصارف خيرية أخرى ليس فيها تمليك.
2- أن يبيعها بسعر المثل أو أعلى؛ لأن الوكالة المطلقة تُقيَّد بالبيع بسعر المثل.
3- في حالة نقض أو اعتراض الفقير على هذا البيع يكون الحكم كالتالي:
1- لو أمكن نقض البيع واقعيًا(3) وجب نقضه وإعطاء الفقير أو مجموعة الفقراء الجلد لذلك.
2- لو تعذر الاسترجاع فالواجب قيمة المثل؛ لأن الجلد ليس من المثليات وإنما هو من القيميات؛ فإن كان باع بسعر المثل فلا ضمان وإلا ضمن الفرق.
وذلك لأن من صحَّح بيع الفضولي صححه بشرط الإجازة، فإذا أُجيز مضى، وإلا لم يصح كما سبق في نقل المذاهب.
ومع هذا فالأولى البقاء على الصورة المتفق عليها من أخذ التوكيل مسبقًا، وهنا مسألة قد يكون لها مدخل في التوسعة؛ هل يجوز أن يأخذ التوكيل قبلها بعام؟ بمعنى: في حال توزيع جلد الأضحية أو قيمتها في عام أن يتفق معهم على العام الذي يليه أو أكثر؟
الجواب: نعم يجوز ذلك؛ فالوكالة عقد جائز فيجوز عقده ولو لسنين، ولو لم يحدد المدة وهو الأصل فيها، وتجوز أيضًا مؤقتة.
قال في كشاف القناع (11/135): "وتصح الوكالة مؤقتة: كأنت وكيلي شهرًا، وتصح معلقة".
ولكن يجوز لكل منهما أن يفسخه متى شاء، إلا أن يفسخه في وقت يحصل به الضرر فيُمنع؛ لحديث: (لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني).
وكذا يجوز أن يعلق الوكالة على الزمن فيقول: إذا جاء عيد الأضحى فأنت وكيلي في تقبل جلود الأضاحي وبيعها.
- هل يجوز إعطاء الجلد للمسجد؟
الجواب: إعطاء الجلد للمسجد إنما يكون وقفًا للمسجد، فيحبس الجلد وينتفع به في المسجد، فإن قيل: المساجد لا يحصل الانتفاع فيها بالجلود؟
فالجواب: أولاً: قد رأيتُ -بحمد الله- أحد المساجد القديمة ويصلى فيها على جلود البقر والغنم فوق البساط، وكذا يمكن أن يجعل في الميضأة ونحوها، وأما إذا لم يمكن الانتفاع به فهل يجوز بيعه والانتفاع بثمنه للمسجد؟
سبق الكلام على مذاهب العلماء في التصرف في الوقف في حالة نقص أو انعدام المنفعة.
ولكن يبقى معنا أن يقال: إذا علم المضحي أنه لو وقف الجلد للمسجد يتعذر الانتفاع به وأن الغالب أن قيم المسجد سيبيعه ففي هذه الحالة يمنع من وقفه؛ لأنه في هذه الحالة أشبه بالحيلة على بيع الجلد.
مسألة: هل يجوز أن يلقى الجلد مع القمامة؟!
هذا التصرف يفعله بعض الناس، وهذا غير جائز، بل يجب عليه حفظها والانتفاع بها أو دفعها لمن ينتفع بها؛ لأنها ليست ملكًا له، ولكنها كأنها وقف لله.
قال النووي -رحمه الله- في المجموع (8/392): "قال أصحابنا: وليس له أن يتلف من لحم التطوع بها شيئًا، بل يأكل ويطعم.."، فلا يجوز للإنسان هذا الفعل.
وبهذا يظهر الجواب على شبهة من يقول: أيهما أفضل: إلقاء الجلد أم بيعه والصدقة بثمنه؟
فالجواب: لا يجوز إلقاؤه في القمامة، بل يحفظ ويستعمل وبالتالي تسقط الشبهة.
فائدة: طرق استعمال المتقدمين لجلود الأضاحي:
1- دبغه والصلاة عليه، وقد أورد ابن أبي شيبة في المصنف بعض الآثار (2/331) في ذلك، فعن مسروق: أنه كان يدبغ جلد أضحيته، فيتخذه مصلى ويصلي عليه (4107).
وعن علقمة: أنه كان يدبغ جلد أضحيته فيتخذه مصلى ويصلي عليه (4108).
وعن هلال بن خباب قال: دخلت على عبد الرحمن بن الأسود بالمدائن وهو يصلي في بيته على جلد فرو ضأن، الصوف ظاهر يلي قدميه.
2- اتخاذه سقاء: روى ابن أبي شيبة (24327) عن عائشة -رضي الله عنها- تقول: أتعجز إحداكن أن تتخذ من مسك أضحيتها سقاء في كل عام، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى أو منع من نبيذ الجر والمزفت وأشياء نسيها التيمي، وهوسليمان التيمي الراوي عن أمينة عن عائشة، في "باب في الرخصة في النبيذ ومن شربه"، وقد ضعفه محقق الكتاب "طبعة الفاروق" لجهالة أمينة.
ويتفرع من ذلك الانتفاع به كبساط بعد دبغه(4)، وكذا التصرف فيه بالصدقة ونحوها، ولكن لما شق على الناس ذلك وصار أكثرهم لا يحسنونه احتاجوا إلى التصرف فيها بالبيع؛ فلهذا كان هذا البحث.
روى عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي ظبيان قلت لابن عباس -رضي الله عنهما-: كيف نصنع بإهاب البدن؟ قال: يتصدق به وينتفع به.
3- عمل النعال: عن طاووس أنه عمل من عنق بدنته نعلين لغلامه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نقل ابن حزم في المحلى (4/385) عن عطاء: "إذا كان الهدي واجبًا يتصدق بإهابه، وإن كان تطوعًا باعه -إن شاء-".
(2) أو مساعدتهم بإحضار من يشتري للفقراء ومحاولة رفع سعر البيع.
(3) أعني أن البيع قد يكون باطلاً شرعًا، ولكن لعدم التزام الشرع في زماننا بين الكثيرين حكامًا ومحكومين قد يتعذر فسخ البيع أو تراد البيع.
(4) الدبغ هنا ليس للطهارة، لكن لإزالة الرطوبة فإن جلد الأضحية طاهر ظاهرًا وباطنًا بخلاف جلد الميتة.
ــــــــــــ
- قال فضيلة الشيخ/ ياسر برهامي: ليس في هذا صعوبة -بحمد الله-، وهو أمر مجرب بلا مشقة، أعني قبول التوكيل من الفقراء قبل العيد بمدة.
ساحة النقاش