جامعة الإبداع الأدبي والنقد المعاصر

توقيعة بقلم الألم والضياع في "ضياع" /قراءة نقدية النص: ضياع لست أدري من أنا..!!؟؟ تاه مني الطريق، أتنفس خطايا قومي.. بين ضائع و غريق، أعشت عيني نار الرزايا، و اختفى منها البريق، رجفة الصقيع حبلى.. بجذوة الغربة.. و الجو حريق ****نحن بصدد تقديم قراءة في نص شعري، أحسبه من فن الومضة الشعرية أو التوقيعة كما يطلق عليها الكثير من الباحثين، وقبل أن أبدأ بتشريح النص والكشف عن القوانين التي تحكم آلية التكوين فيه، لا بد أولا من تقديم بطاقة تعريف لهذا الفن، بإيجاز الإيجاز: ******يعني الحديث عن الومضة، أو التوقيعة حديثاً عن النزعة البلاغية الشعرية، وعن تقنية الانزياح، والإيحاء، والتكثيف اللوني، واستنطاق رموز الطبيعة وصورها http://www.diwanalarab.com/spip.php?article33716 و يعرّف الشاعر عز الدين المناصرة التوقيعة بقوله: " قصيدة قصيرة مكثفة تتضمن حالة مفارقة شعرية إدهاشية، ولها ختام مدهش مفتوح، أو قاطع، أو حاسم، وقد تكون قصيدة طويلة إلى حد معين، وقد تكون قصيدة توقيعة إذا التزمت الكثافة، والمفارقة، والومضة، والقفلة المتقنة المدهشة" ويرى بعض النقاد أن الشاعر عز الدين المناصرة واضع مصطلح التوقيعة في منتصف الستينيات في قصيدته " توقيعات". لكن المتتبع لحركة الشعر العربي يرى أن د. طه حسين قد كتب في هذا النوع في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، ونقله إلى العربية نثراً في مقدمة كتابه "جنة الشوك"، ودعا إلى الاهتمام بهذا النوع الأدبي، والإضافة إليه؛ لأنه يحتاج إلى قدر كبير من المعاناة، والتكثيف البلاغي، والمفارقة التي تعد روح التوقيعة أو الأبيجراما – على حد تعبير كولردج https://www.maghress.com/aladabia/9550 وقد جنح الشعر العربي الحديث نحو القصيدة القصيرة، ونحو التكثيف والتركيز. فقد غدت القصيدة تعبيراً عن لحظة انفعالية محددة، وأضحت هذه القصيدة شديدة الشبه بفن التوقيع؛ لتكثيفها، وإيجازها. ولعل أهم أسباب الانتقال إلى القصيدة الومضة أو التوقيعة انتقال الشعر من المباشرة والخطابية إلى الإيحاء، أو الانتقال من الشعر الذي يُلقى أمام متلقين في مهرجانات شعرية لغاية التوعية، والتنوير، إلى الدعوة إلى قصيدة تقرأ في جو خاص. وقد شهد عصرنا تواتراً في الأحداث الساخنة التي لم تعد تسمح بنظم القصائد الطوال، الأمر الذي أدى إلى وجود سمة الانفعالية والتعبير المقتضب والموحي. فظهرت قصيدة الومضة وهي ذات مجموعة من التوقيعات النفسية المؤتلفة في صورة كلية واحدة، وهو أمر يعني أن للصورة أهمية استثنائية في قصيدة التوقيعة. ويتطلب هذا اللون من الشعر المأزوم ذي اللحظة الانفعالية المحددة فطنةً، وذكاءً من الشاعر، ونباهة من المتلقي؛ لأن قصيدة التوقيعة تُبنى بناء توقيعياً، أي بناء صورة كلية للقصيدة من خلال صورة واحدة تقدم فكرة، وانطباعاً بتكثيف شديد. وقد أطلق النقاد مصطلح "التوقيعة" على القصيدة التي تبدو كالوميض، أو البرق الخاطف، وعلى الصورة الشعرية ذات الإشعاع القوي حين تتولد منها إثارة مفاجئة في اللاشعور. إنها تُلتقط في لحظة انبهار ضوئي يكشف جزئيات، وحساسيات ذهنية في غاية الحدة قد تكون ناقدة، أو ساخرة تهكمية." http://www.diwanalarab.com/spip.php?article33716 " ******وبعد هذا التقديم الموجز لفن التوقيعة، أشرع مباشرة في تحليل النص فأقول: يبحث الكاتب دائما عن تخريج المعنى في ما يكتبه، فالشعر هو بوح عن مكنونات الذات الكاتبة في علاقتها مع ذاتها أو في علاقتها مع الذات الجماعية، وفي كل هذا هو بحث عن المعنى وعن معنى المعنى، لأنه خطاب يفترض مخاطبا ضمنيا، ويذكرني هذا السياق بما قاله عز الدين اسماعيل في توقيعته: "منا من يسعى في ملكوت الله ومنا من يبحر في قلبه كل يبحث عن معنى، والمعنى يبحث عن إنسان" (دمعة للأسى ، دمعة للفرح، المعنى، ص 121) فكل من يكتب أو يقرأ يبحث بشكل أو بآخر عن المعنى، ...في حين يبحث الناقد عن المعنى وعن كيفية تشكيل المعنى ومعنى المعنى، و إذا نظرنا إلى الومضة التي بين أيدينا نجد أن البعد النفسي الاجتماعي يطغى على النص الذي يجنح إلى التكثيف و الإيحاء، وتعالج التوقيعة كما يبين العنوان فكرة الإنسان الضائع في متاهات الحياة، وترتبط هذه الحالة النفسية بأوضاع اجتماعية، سياسية مختلفة... وإذا كان المعنى الأولي في القصيدة هو محور الاشتغال في النص، فلن يكون النص بنية مترابطة متكاملة إلا إذا ارتبطت عناصرها وأجزاءها بعضها ببعض لتشكل لنا صورة تامة العناصر ومتوقدة الإشعاع، فالغالب على هذا النص هو الحزن والشعور بالضياع..ولذلك فقد اختار الشاعر قافية مناسبة للمضمون؛ فالقاف حرف يتميَّز بثلاث خصائص: فهو مجهور في هيبة، مستعلٍ في اعتزاز، ومنفتح في أريحيَّة. وهو حرف شديد مجهور قادر على استعاب أكبر دفق شعوري في النص كما اختار الشاعر كلمات يمكن أن نجمعها في حقل دلالي هو حقل الحزن والحيرة" تاه، خطايا، ضائع، غريق، أعشت، نار، رزايا، رجفة ، الغربة، حريق..." وكلها ألفاظ لها دلالة الأسى والحزن والألم والضياع، أما من حيث التركيب، نجد الشاعر يبدأ قصيدته بخطاب استفهامي منفي دلالة ب"ليس" يقول: "لست أدري من أنا؟؟" هذا الخطاب يؤسس للحالة الشعورية التي يعيشها الكاتب في النص، ويأتلف مع العنونة " ضياع" وهي صيغة إفرادية مذكرة نكرة تحمل دلالة التعدد والشمول والاستغراق في الحالة...و الضياع لغة هو مصدر ل"ضاع"، والضياع : "حالة نفسيّة من مظاهرها الحيرة وغياب الهدف والتشتّت الفكريّ والشعور بالوحدة وبالحرمان ....وبالظلم والطغيان وغياب العدل..." https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/% يستثير الشاعر عواطف القارئ من خلال هذا الخطاب الاستفهامي، ثم يبدأ تدريجيا بشرح أسباب هذا الضياع ، فيخبرنا أن الطريق ضاع منه، و أنه يعاني غربة الذات وغربة الروح في الوطن، يقول: أتنفس خطايا قومي.. بين ضائع و غريق" " فيجعل من الخطايا هواء يتنفسه، فكأنه يلازمه أينما كان، على اعتبار عملية التنفس عملية حيوية قائمة في كل لحظة وفي أي زمان ومكان، فالكائنات الحية تتنفس باستمرار، وتشير الاستعارة هنا إلى استفحال الوضع حتى أن الخطايا تنتشر في المجتمع انتشار الهواء في المكان..فلا مجال للراحة أو الهناء، ثم خصص جزءا من باب استيفاء العام منها فقال بين ضائع وغريق...، وهي صور بالغة التأثير على القارئ شديدة التكثيف والإيحاء ثم يتابع الشاعر توسع رقعة المأساة فيقول" أعشت عيني نار الرزايا،" وهو هنا يضيف إشاريا الأعمى والضرير، للضائع والغريق، وأخيرا يختار قفلة مدهشة متقنة التشكيل فيقول: رجفة الصقيع حبلى.. بجذوة الغربة..والجو حريق هكذا تتجلى في النهاية مسببات هذا الضياع إنها غربة الروح وغربة الوطن، عبر تسلسل منطقي للسرد، مع وحدة الصور في النص ....مشاعر الحزن والأسى تطغى على التوقيعة، وصدق العاطفة، وتماهي مع الحالة الشعورية للذات الكاتبة والفتن التي يعانيها ضمن إطار الجماعة....... وتحصل المفارقة في النص في المقابلة بين "جذوة الصقيع" و"الجو حريق"، فالتقاء الأضداد في المقطع الواحد هو اتجاه نحو القفلة الإدهاشية، التي تفسر بشكل أو بآخر الحالة النفسية للشاعر؛ اختلاط مشاعره وضياع الطريق هو ضياع للهدف، للحلم، للأمن، والغربة هي جنين شرعي لهذه المفارقة التي يمكن اعتبارها معادلا موضوعيا لها... ويمكن القول في الأخير أن هذه التوقيعة استطاعت بلغة استعارية كنائية مكثفة، أن تحمل لنا من معاني الضياع والغربة التي يعانيها الشاعر ، على اعتبار الاقتصاد اللغوي فيها،...وأن توقّع بقلم الحزن والألم لقارئ نبيه قادر على استنطاق النص....وفك شفراته واستخلاص معانيه. نتمنى للشاعر المزيد من التألق..

المصدر: عقيلة مراجي
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 61 مشاهدة
نشرت فى 7 أغسطس 2018 بواسطة akilameradji

أَبو فروة الظريف

akilameradji
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

17,887