شعرية المدينة في النص الشعري الحديث: (مختارات شعرية)
لردح من الزمن ظلت البادية مهيمنة على الشعر العربي، فالفرس الأصيل، والليل الطويل، والصحراء برمالها الذهبية، والخمرة في الخيام المنصوبة، والنقع والرقع..ومها البوادي....فكان الشاعر يصور لنا البيئة الصحراوية بكل معالمها مازجا بين تجربته الشعرية وبين تفاصيل المكان ...ومع مرور الزمن دخلت الحضارة، وظهر التقدم في جميع نواحي الحياة...وأفرز لنا هذا التطور قطبين مكانيين: الريف في مقابل المدينة...، وأخذ الشاعر العربي يكتشف فضاءه بعين الشعر...ويقاربه ويسنده ويعريه ويشحنه بتكتلات تعبيرية قادرة على إنماء أفق الخطاب ...فكانت المدينة إحدى روافد الشعر الحديث بكل ما تحمله من أحاسيس الاغتراب والإغراب والغثيان والارتياب والشك...والجوع العاطفي، وبين الحنين تارة والقرف تارة أخرى تأخذنا النصوص الشعرية لرؤية جديدة متجددة للمدينة..
وسأحاول في هذا المقال المقتضب، أن أعرض للقارئ بعض التجارب الشعرية التي تناولت هذا الفضاء المكاني الذي يضج بالأبعاد الحضارية، الفلسفية، الاجتماعية، التاريخية وغيرها.... لكن قبل ذلك أود أن أقف باختصار عند بعض المفاهيم، فما هي المدينة وما هي مسوغات توظيفها في الشعر؟؟: المدينة باختصار هي مستوطنة حضرية ذات كثافة سكانية كبيرة ولها أهمية معينة تميزها عن المستوطنات الأخرى، ويختلف تعريف المدينة من مكان إلى آخر ومن وجهة نظر إلى أخرى. في العصر الحديث قامت العديد من الدول بوضع شروط معينة لتحديد ما إذا كانت المستوطنة مدينة أم لا.
https://ar.wikipedia.org/wiki/
ظهر اهتمام الشعراء العرب بالمدينة قبيل منتصف القرن الماضي ، فكانت موضوعا من الموضوعات التي دار عليها شعرهم ، وربما كان هذا الاهتمام صدى لقصيدة الأرض الخراب للشاعر ت.س. إليوت تلك التي انتقد فيها المدينة وقيمها وعذابات الناس فيها ، وكان من أولى الدراسات النقدية التي تنبهت إلى تناول هذه الظاهرة في الشعر العربي الدراسة التي وردت في كتاب عز الدين إسماعيل"الشعر العربي المعاصر ، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية" عام 1966. وكانت تحت عنوان :"الشاعر والمدينة" ، ثم تلاه إحسان عباس عام 1978 في كتابه" اتجاهات الشعر العربي المعاصر" إذ عقد فيه فصلاً بعنوان :"الموقف من المدينة".
وتوالت الدراسات بعد ذلك ، وكان آخرها ما أنجزه د. زهير عبيدات في كتابه" صورة المدينة في الشعر العربي الحديث"
ھ الذي صدر بدعم من وزارة الثقافة عام 2006 ، ويتكون من ثلاثة فصول: حمل الفصل الأول عنوان الكتاب" صورة المدينة في الشعر العربي الحديث" ، وفي هذا خروج واضح على المنهج العلمي ، والثاني جاء تحت عنوان" التجربة والموقف من المدينة" ، والثالث عنوانه" في البناء الفني".وتعتبر المدينة في الشعر مظهرا من مظاهر الحداثة.وقد بدا الاهتمام بموضوع المدينة منذ القرن الثامن عشر مع شعراء الغرب الذين استلهم منهم شعراءنا المجددين فالمدينة تحولت الى شرط حداثي من شروط تجديد الرؤى بما نها تجاوزت في استعمالها واعادة توظيفها مجرد الدلالة على الفضاء لتغدو مفهوما من مفاهيم الشعر المتطورة والدالة على اهم ما تغير في النظرية الشعرية الحديثة وما طرا من مفاهيم وخصائص جديدة على متصور الشعريةپويتيقوي فقلما نجد شاعرا حديثا في الغرب او الشرق لم يتعرض لمسالة المدينة لكنها تتخذ اشكالا ومعاني ودلالات تتغاير بتغاير الاتجاه الادبي والفني الذي ينضوي تحت لوائه الشاعرhttps://www.alloschool.com/element/23935
هي في التيار الرومانسي تعني الحلم سواء كان الحلم ساحرا فاتنا او كان مرعبا مفزعا وهي في هذا التيار ايضا تعني السجن بالنسبة للانسان والشاعر الذي يحن الى الانعتاق من عهر المدينة ليعود الى احضان الطبيعة الام الخالية من الزيف فالمدينة بالنسبة للشاعر الرومانسي هي مدينة الموت والانحطاط القيمي والاخلاقي والاستعباد والرق والطغيان لكنها قد تعني له ايضا العالم الغامض الفاتن بغموضه
اما بالنسبة الى الشعراء الملتزمين العرب في التيار الواقعي الاشتراكي فان المدينة بالنسبة لهم حلبة للصراع او مسرح للنضال بين قوى الخير والشر وتختزل المدينة اذاك ملامح التجربة النظرية التي يلتزم بها الشاعر بل ان صورة المدينة تستند في ذلك الواقع الاشتراكي الى خلفية سياسية تتغير داخل التيار ذاته بتغير الايديولوجيا او الموقف السياسي الذي يتبناه الشاعر
اما في التيار الرمزي فان المدينة مقوم رئيسي من مقومات الشعرية الحديثة هي تغدو هنا في هذا التيار قناعا جماليا يطور الصورة الشعرية وهو قناع كثيرا ما ينبني على جدلية الظاهر والباطن او العرض والجوهر
http://www.sutuur.com/Literature1/1585-saeda.html
وبعد أن عرجنا على مفهوم المدينة، أنتقل للحديث عن بعض النماذج الشعرية التي استحضر فيها كتابها المدينة كرؤية شعرية، كل حسب رؤيته للواقع من حوله..يقول الشاعر أحمد شوقي في قصيدة سلام من صبا بردي:
سلام من صبا بردى أرق ودمع لا يكفكف يا دمشق
ومعذرة اليراعة والقوافي جلال الرزء عن وصف يدق
وذكرى عن خواطرها لقلبي إليك تلفت أبدا وخفق
وبي مما رمتك به الليالي جراحات لها في القلب عمق
وتحت جنانك الأنهار تجري وملء رباك أوراق وورق
إنه نعي للمدينة ووصف لجراحاتها وأرزاء الزمان والمكان التي سورها البشر بها...فأصبحت المدينة في نظر الشاعر فيض حنين من أيام الصبا ...وخواطر تترجمها القوافي المثقلات بالحزن والأسى...وجراح ونوائب غيرت قداسة المكان في دمشق الحبيبة...
وغير بعيد عن النعي والرثاء...، يستصرخ الشاعر محمود درويش في صيحة محملة بالأماني والتوق لأيام العزة والمنى، فيقول:
"متى تفرجون عن النهر. حتى أعود إلى الماء أزرق
دمشق. ارتدتني يداك دمشق ارتديت يديك
كأن الخريطة صوت يفرخ في الصخر
نادى و حركني
ثم نادى ..و فجرني
ثم نادى.. و قطرّني كالرخام المذاب"
إنه الحلم الغائب في غياهيب الظلم الذي يصنعه الإنسان في حق أخيه الإنسان...فتوارى الأيام الجميلة في ما مضى من الوجه المشرق للحضارة...جمالية النص وشعريته تنبثق من استحضار رمزية المدينة والمقارنة الضمنية بين الماضي الزاهر والحاضر المزري..
ويقول الشاعر في غير مكان مفجرا طاقات الفضاء...ومتجاوزا قد اللغة الشعرية إلى شعرية المدينة في خطاب يعتمد السخرية والتهكم والاستفهام المبطن مخاطبا العقل العربي القومي المتقوقع المتخونع على لسان بائع الصحف الفقير...:
"اليوم تبكون على القدس والقدس لا تبكي على أحد“
"والقدس عاصمة الخيام البعيدة وعاصمة الأموال البعيدة والشهداء البعيدين“
"سأستبدل القدس بالجنة“
"من علّم القدس هذا الجمال. من علّم القدس هذه السخرية؟"
"من يشتري صدر تاريخي وظهر تاريخي وعورة تاريخي بلحظة انتصار واحدة؟“
فقد استطاع الشاعر أن يجعل من المدينة عملة تاريخية يقايض بها أصحاب البديهة...
ويجدر التنويه هنا إلى أن الشاعر قد ذهب في توظيف المدينة مذهبا شعريا يكاد يتفق الباحثون أنه يرقى لأن يكون تيمة في شعره ، فقد استطاع الشاعر أن يعري المدينة من قيمتها الجغرافية ليجعلها هوية وحسا انتمائيا زاخرا بالأبعاد والروابط الفكرية المختلفة..(ينظر للمرجع أعلاه) ، ومن ثمة فإن الشاعر قد استحضر المدينة باعتبارها رؤية شعرية خاصة وليست حيزا مكانيا مجردا، وفي ذلك تفجير لشعريتها في قصائده الراقية..