جامعة الإبداع الأدبي والنقد المعاصر

قراءة نقدية ..رواية " أصابع لوليتا " لواسيني الأعرج لصاحبه: خالد عارف حاج عثمان/سورية

سطوة السرد ,وتقنية السارد في مسرود ناجز شكلاً ومضموناً.
مدخل ....
.....تصاب بالدهشة وأنت تقرأ رواية الأديب الجزائري واسيني الأعرج ..."أصابع لوليتا" ولا تتأتى الدهشة التي يصاب بها القارئ من تحقق جانب واحد في مسرودية الأعرج أو جانبين , أو خاصة واحدة ,أو خاصتين...ولا من تزاحم المواضيع والأفكار في طيات الرواية ,أو تنوع الأساليب الروائية ,فيها , أو تماهي المشوقات التي تسبح في سطور الرواية , أو تلج عوالم الكلمات , وأسرار التخييل البارزة في حرفية التصوير الواقعي الحسي والمتماهي المجرد أو غير ذلك فحسب بل من تتطامن العديد من العناصر والعوامل والشروط المضمونية والأسلوبية الشكلانية التي تعلي من خطاب واسيني , ومسروديته الروائية والحكائية وتجربته الكتابية , وتدفع بالرواية - التي بين أيدينا...أصابع لوليتا- بقوة لتتربع مكانة بارزة في مصاف الرواية العربية والعالمية وبالتالي كما كلّ إبداعات واسيني الأعرج .....

أصابع لوليتا ....فصول الرواية ....
تتألف مسرودية "أصابع لوليتا" -الصادرة في آذار 20122.... من خمسة فصول تنسرح على 463صفحة من القطع المتوسط ,متخذة العناوين التالية :
الفصل الأول : خريف فرانكفورت, الثاني:انتظار على حافة النهر , الثالث :رماد الأيام القلقة,الرابع :صحراء الفتنة والقتلة ,الخامس :فصل في جحيم التيه.يمثل كلّ فصل جزءاً بنيوياً من الرواية ,وعالماً حكائياً وسردياً منها عبر مقدمة ووسط ونهاية " خاتمة " حيث تشي القراءة السريعة للعناوين السابقة بماهيتها, وأحداثها , ووقائعها مشكلّة فضاءاً سردياً للأحداث ومجالاً زمانياً ومكانياً اعتمد عليه الكاتب - الأعرج- لينقل إلينا - نحن القرّاء- الأحداث والوقائع كما وردت , وحدثت, وتمت استعادتها, وتذكّر أبجديتها بحوارها, ولغتها ,ورسمها , وتخيلها,وبالتالي سردها من قبل الشخصية الأهم - الراوي أو الروائي واسيني .....- إذ مبدؤها المكاني والزماني ألمانيا , معرض فرانكفورت للكتاب,حيث الخريف يلّف المدينة بمن وما فيها,والكاتب الضيف منهمك في توزيع إهداءاته على نسخ كتابه المشهور عالمياً نزولاً عند رغبة القرّاء ,وبالرغم من انشغاله بالبحث عن الكلمات المنمقة - وإلى جانبه" إيفا" مترجمة كتبه من العربية إلى الألمانية,والمساهمة بتداول كتبه وشهرته على مستوى العالم ....- يتسلل عطر لذيذ لا يقاوم ...هو يتذوقه...ويعرف صاحبته...إنّه عطر لوليتا ...من هنا: معرض فرانكفورت,وانتظار على حافة النهر- الفصلان اللذان ينسجان البداية ..بداية الرواية,لتتوالى الأحداث صعوداً وهبوطاً, سريعة وبطيئة على مدى فصلي :رماد الأيام القلقة ,وصحراء الفتنة والقتلة وفيهما تمنحنا الرواية مفردات عصيبة وأحداثاً خصبة , وحكايات عديدة لأيام مضت بالنسبة لشخوص تتحرك بين سواد حبر الرواية, وتجري في طرقات وساحات وأزقة وأندية وملاهي باريس الليلية,وجسر نهرها...تتنفس الضياع في المدينة الكبيرة , وتصارع النفي في مدينة النور والثقافة والتنوع والحرية..... وتكافح التشرد , وتناضل من أجل العمل ,والهروب من الماضي الأليم ,والملاحقة , والتهديد بالقتل من قبل مجموعات إرهابية لبطل الرواية " يونس مارينا"....الكاتب الجزائري الذي تلاحقه مجموعات.... من بلاد المغرب لحقته حتى المغترب ....أو المنفى في ألمانيا أو باريس...وهو- مارينا- مابين سفر وترحال دائمين وعليه -أي مارينا- أن ينتبه, ويكون حذراً جداً , ولا يأمن أحداً , ويعلم الأمن المركزي في باريس بتحركاته...حتى لايتم اغتياله من قبل الملاحقين والمهددين...وقد حاولوا ذلك أكثر من مرة... 
في هذين الفصلين يلمح القارئ صعوداً متواتراً نحو قمة هرم المسرود , وبعد الذروة التي تصنعها الأحداث الأليمة التي مرت بيونس مارينا ...حميد أو "حميميد "الكاتب الجزائري , سليل عائلة جزائرية مناضلة ضد الاحتلال الفرنسي: إذ أبوه أحد مناضلي حركة التحرير الجزائري - ورفيق المرحوم الرئيس أحمد بن بيلا ناضل واستشهد- وقد غدا كاتباً مشهوراً وبسبب رواياته , وأفكاره أصبح طريداً للمجموعات الإرهابية في المغرب العربي, وأوربا....ولوليتا...الصبية الحسناء الجزائرية , وعارضة الأزياء ....حبيبة ومعشوقة مارينا , وقارئته النهمة, والمعجبة به شكلاً ومضموناً هي أيضاً محترقة من الداخل ومجروحة في جسدها , وقد اعتدي عليها , واغتصبت من أقرب الناس لها فحملت هذا الجرح -الذي لم يلتئم – ومات معها.....هذه الأحداث وغيرها تشكل خاتمة الرواية التي نسجها السارد- الأعرج- بحرفية متقنة تأخذ بلّب القارئ من أول كلمة فيها وحى آخر حرف في كلمة النهاية 
لقد شكلّ الروائي مسروديته : بدايتها فجعلها مشوقة وكنت أركض -أنا القارئ - منجذباً إليها وأجري حتى أعرف ما يدور في مخيلة مارينا أو حميد .....وكيف سيتابع المقدمة ....إلى وسطها حيث الأحداث تتابع بسرعة, وبجمالية وحرفية عالية يتأزم الصراع فيما بين الشخصيات المكونة للرواية , وبين الشخصية الانسانية نفسها في حالاتها النفسية المختلفة والمتغيرة, ونهايتها الصادمة للقارئ فلوليتا ...الصبية الحسناء التي تضج بالأنوثة والجمال والدلال والغواية وكلّ ما يريده الرجل في الأنثى تفجر نفسها في آخر الرواية في شارع الشانزليزية ويتناثر جسدها الطفولي شظايا صغيرة تمتزج بمطر وثلج الدقائق الأخيرة من مساء الحادي والثلاثين من كانون الأول الباريسي.....على مرأى ونظر يونس مارينا المشدوه , المتعجب والمصدوم غير المصدق ....
أصابع لوليتا....الحدث والبناء الروائيان...
تقوم الرواية على عدد من الأحداث والوقائع والأعمال الصادرة عن شخصياتها لاسيما الرئيسة منها : يونس مارينا - كاتبها وساردها..., ولوليتا,وغيرهما من الشخصيات.....فكما رأينا - يبدأ الحدث بسيطاً : احتفال ثقافي بتوقيع يونس مارينا كتابه الجديد في معرض فرانكفورت للكتاب ....,ثمّ استنشاق عطر , وتساؤله بأنّه ليس غريباً عنه , وأنّه لفتاة... لكنّ الذاكرة تخونه حين يصرّ على تذكرّها,بعدها يسافر إلى باريس ويلتقي لوليتا هناك حيث يقضيان أياماً جميلة ورائعة متنقلين بين أزقتها, وشوارعها,و متاحفها , ومسارحها ,وملاهيها الليلية , وبيته بأثاثه القديم ولوحته العتيقة المسماة " لوحة الذبابة" , والفندق الباريسي الذي تنزل فيه لوليتا, دون أن ننسى الأوقات الحميمية التي قضياها سوية كعاشقين بل كزوجين دون أن يكون بينهما رابط شرعي أو رسمي...تتوالى الأحداث , وتتابع وتتشابك عبر الاستعادة والتذكر والتداخل ونتعرف من خلال الحوار ورسم الأحداث ,وعدسات التصوير الروائية التي يجيدها الكاتب " مارينا " - الراوي- والمنفتحة على أمكنة وأزمنة تعود بنا إلى فترة نضال الجزائر ضد الاحتلال الفرنسي , وجيش التحرير الجزائرية , أيام بطولات رجالات الثورة, بقيادة " الرايس بابانا" أي القائد أحمد بن بيلا....., وسجن هذا الأخير ,واستشهاد والده الثائر المرافق لابن بيلا....,واستقلال الجزائر, وهذه الأخيرة فيما بعد الاستقلال... وخروجه من قريته تحت تهديد وملاحقة المجموعات الإرهابية في المغرب العربي, بعد تعرضه للرموز الدينية في كتاباته, وهروبه إلى فرنسا,وشهرته الروائية التي ذاع صيتها,في أوربا وحقق وأنجز العديد من الروايات, ومن ثمّ قيام " إيفا "الألمانية بترجمتها إلى الألمانية ....وبالتالي ذيوع شهرته في الأمصار ,وبروزه هدفاً للجماعات المتطرفة وخلاياها النائمة في أوربا, واضطرار الجهات الأمنية الفرنسية المركزية إلى متابعته وتحذيره دائماً من هؤلاء,وضرورة التعاون والتنسيق بينه وبين الأمن المركزي الفرنسي....حفاظاً على أمنه وحياته......إذ يعتبر مثل أي مواطن فرنسي ....وله نفس حقوقهم ... هذا الأديب الذي صنعته الصدفة كما يقول عن نفسه : 
"كذبة صنعت مني كاتباً , صدفة قاسية واستثنائية , رمت بي نحو المنافي ,سرقت مني حياة, ومنحتني حياة أخرى ؟ وصدفة أسوأ تضعني الآن على رأس المهددين بالموت" 
الحدث الآخر يحكي قصة لوليتا,وما لاقته في الغربة والنفي القسري بعد أن تورط بها اغتصاباً أعزمن تنتمي إليهم, وإنكار أهلها لهذا, وعدم تصديق والدتها لها,وتعرضها للضرب المبرح من قبل أخيها,واضطرارها للعيش بعيداً عن الجزائر خوفاً من أخيها ,وامتهانها عرض الأزياء لأرقى الدور,وعلى مستوى عالمي,وحياتها اللاهية قبل أن تلتقي بيونس مارينا,وتعلمه بمدى حبّها له ,وعشقها إيّاها .....هذا الحبّ غير المتوازن والمنطقي ...إذ ليس صعباً أن يدرك أحدنا شدة تعلقّ لوليتا بمارينا ...الكاتب والراوي , والجزائري الستيني بينما هي الفتاة الشابة...والصبية الغضة, إنّه الحبّ الأبوي المرتجى للفتاة وقد شخص لها بأنّها وجدته فيه....لكنّ شهوة الحبّ والرغبة بين الاثنين تتخطى الحدود , ويحدث ماحدث: " أنا تمنيت أن يمنحني الله مزيداً من القوة لأحولك إلى عشيق بدل أن تبقى بين عتبتي الخوف : عتبة الكاتب العاشق المتردد, وعتبة الأب الذي يخاف من الانزلاق الأخلاقي بسبب حبّه المجنون لابنته , وأن يغفر لي شهية الليلة لأني أريد أن أنام عارية في حضنك , وأن تتلمس كلّ مساحات جسدي وتوقظ الغافي منها , أريد جسداً حيّاً كلياً وإلاّ فأنت لاتستحقني, وفي هذه الحالة تشبه الآخرين , وربما تشبه والدي الذي أحبّني, فقتل جسدي ...وحوله إلى بركان خامد ولكنّه عودني عليه كلّ من ألقاه ممن هم في سنّي وهم كثيرون , منذ البداية , ولاأرى فيه صورة والدي, أرفضه , هل أنا مريضة ؟...".هذا جزء من حوار بين مارينا ولوليتا يقدم دلالة على ما تعانيه هذه الأخيرة من إرباك , ومعاناة نفسية حقيقية,ومشكلة , ومدى التوجس والخوف الذي سيطر على الكاتب خلال اللقاء الذي انتهى حميمياً فيما بعد...
تزدحم الرواية بالعديد من القضايا الثقافية والاجتماعية والوجدانية والسياسية ,والمنافي والغربة وشقائها, والفن بأجناسه...لاسيما التشكيلي.. والأدب والكتابة وطقوسها والترجمة وأهميتها ...والسجون, والعشق والحبّ والجنس وما يتعلق بعلاقة الرجل مع المرأة,والخيانة الزوجية والفقر , والاحتلال , والاستعمار,والحروب ,والتعصب الديني ,والعلمانية , والإرهاب الدولي ,والعولمة, ,وعصابات مافيا المخدرات ,والحركات الأصولية.....وسفاح الأقارب....والأخلاق....
لقد استطاع الكاتب أن يبني هذين الحدثين , وبقية الأحداث الروائية , ويرتبها, ويقوم بعملية اختيارها , ويقربها من الواقع في سيرورة حكائية سردية متقنة قام بها الراوي- الروائي- كما كان لضميري الغائب أحياناً والمتكلم أحياناً أخرى, والاستعادة والتذكر ,والتداخل بين الأزمنة , وتعدد الأمكنة وسحرها , وبنائية السرد, ونقل الكلام كما ورد على ألسنة الشخصيات ..كان لكلّ هذا أبعد الأثر في إنجاح العملية السردية ,وجعل الخيط بين الحوادث على كثرتها وتشعبها وتفصيلاتها - وقد بدأها من المنتصف راداً كلّ حادثة إلى أسبابها عبر حبكة محكمة ,متينة مترابطة ومتشابكة – يذكرنا بالعديد من روايات نجيب محفوظ- وهذا أفضى إلى سطوة السارد ,وممارسة المسرود سيطرته اللذيذة والمشوقة على المتلقي حتى آخر كلمة فيه ....
أصابع لوليتا....المكان والزمان الروائيان...
تدور أحداث مسرودية " أصابع لوليتا" في بيئة طبيعية مكانية تبدأ من فرانكفورت بألمانيا ,حيث معرض الكتاب ,بداية الحدث ,ثمّ الانطلاق بالحدث إلى مكان رحب آخر ساحر هو باريس بنهرها, وجسره, وشوارعها الواسعة والضيقة , بملاهيها, ومواخيرها وأنديتها الليلية ,وفنادقها وأسواقها, وخماراتها, ومراكز أمنها , وحافلاتها,ومقاهيها ونزلها على تعدد درجاتها,ومتاحفها, ومسارحها ,وصالات العرض التشكيلية والسينمائية, قصورها الفاخرة,والشانزليزية فيها ,إلى جانب الأمكنة المعاشة والمستعادة والمتذكرة الحاضنة لعدد غير قليل من الأحداث الجزئية كالولايات المتحدة والجزائر , والمغرب ودول شرق آسيا كاليابان والصين وأندونسيا....أما الزمان الذي أراده الكاتب,حاضناً للأحداث فهو خريف ألمانيا الساحر بداية الأحداث ووسطها , وشتاء فرنسا البارد والمثلج...نهاية السرد, وقفلة الرواية حيث الليل ...ليل التأمل والتفكير والكتابة ,والاستدعاءات الأمنية , والتحقيقات,و المعارض المواخير , , والشوارع الضيقة, والمقاهي , وغرف المساكنة وقضاء اللحظات الحميمية الحرجة وربما الجريئة .هاهو النداء يأتيه من بعيد من وجه وصدر ماجدالينا الذي سمع نداءاته بينما كان يلبس لوليتا ثيابها وهي ممددة على فراشها:"كلّ الذين يمرون على جسدي ,ينامون معي , يفرغون شهوتهم , ثم ّينسحبون , لا حقّ لهم في صدري فهو ملكي, ارضع, أنت صغيري وحبيبي , وأنا أمك , تحسسهما , لأنك بعد يوم ستفطم منهما , وأعيش في حلم جميل ....ص226لقد وظف الكاتب المكان والزمان و جمالياً , واستفاد منهما في الزينة, وجعلهما وسيلة إقناع وجزءاً من الشخصيات...لقد تأثرت هذه الأخيرة بمكان وزمن الرواية..كما استطاع الكاتب أن يروضهما لصالحه , وصالح واقعية مسروده....وفي وصفهما جعلهما ساحرين شاعريين....
أصابع لوليتا ....الشخصيات والصراع....
يفهم النقاد " شخصيات الرواية " بأنّها مصدر الحوادث ,ومحور الحركة ,تقود الرواية .....وفي مسرودية لوليتا فإن شخصياتها تقوده من منتصفها , إلى بدايتها, ثمّ نهايتها ....وبالنظر إلى الشخصيات فإننا نجد بأن الكاتب استمدها من الحياة , وكوّن ملامحها النفسية والجسمية والاجتماعية وأعاد صوغها بما يتفق وأغراضه الفنيّة والفكرية ...في رواية أصابع لوليتا نلمح أشخاصاً كثيرين ...بعضها رئيسي محوري ,وبعضها ثانوي لكنها مؤثرة في الأحداث وإبرازها.....من الشخصيات المحورية البارزة : الراوي = الروائي= يونس مارينا = محميد الجزائري...ابن أحد أبطال جيش التحرير الجزائري= الكاتب والأديب الذي كان مقدراً له أن يدرس الطب, لكن لوثة الكتابة جذبته إليها , فكتب العديد من الروايات ,وترجمت إلى اللغات المتعددة , وغدا مشهوراً , لكنه ولتعرضه في روايته " عرش الشيطان" إلى المحرمات والرموز الدينية ....أصبح منبوذاً,ولاجئاً ,ومنفياً, ومهدداً , وملاحقاً من المجموعات المسلحة , في الجزائر ,والمغرب العربي, ومن الخلايا النائمة في ألمانيا وفرنسا,وحتى من أقرب الناس إليه....هو - يونس مارينا - ابن القرية الجزائرية,يغير مكانه دائماً , رجل ستيني هادئ ,يمثل ذاكرة وطنية لبلاده , مثقف,ثقافة شاملة ....ذكي, متواضع ,يحمل أفكاراً عديدة ,وله وجهات نظر ثاقبة :يقول" ليس للمرايا ذاكرة"وفي مكان آخر: أن تحب معناه أن تراهن على أغلى شيء فيك ,عواطفك ونبلك وحماقتك, وربما حريتك , أن تكون أباً, يعني أن تنسى أيضاً أنك عشيق امرأة الصدفة التي جاءت وتعرت أمامك ورأيت جروحها التي نزفت طويلاً وأنت لم تكن إلاّ لغة هاربة "ص366 إنّ يونس مارينا هو الحامل للأحداث , يقودها , وينميها, ويرويها , ويعمل على استعادتها, ويجري الجري الذي يجعلك متشوقاً لمعرفة النهاية ....إنّ يونس مارينا محميد- كما تحب أمه جوهرة أن تناديه...هو عصب الرواية ,قدم إلينا شخصية مكتملة , متطورة بعض الشيء مع الحدث,عاش صراعات عديدة خاصة في علاقته مع لوليتا ...صراع الأبوة والحبّ , صراع الواجب والشهوة, صراع الخير والشرّ....لقد رسم بطريقتين - ككل شخصيات الرواية -:تحليلية للعواطف والأحاسيس والأفكار والرؤى, والتصرفات , وتفسير بعضها , و تمثيلية حيث قام الكاتب برسم مارينا وبقية الشخصيات من الخارج , معبرة عن نفسها , وكاشفة عن جوهرها ,وصلاتها بغيرها من شخوص الرواية .....لقد قدم الكاتب نموذجاً جميلاً في رسم الشخصيات إن كانت النامية أم المتطورة وذلك ترك الكاتب لشخصياته أن تتصرف بعفوية وفق إمكاناتها ومكوناتها الفكرية والجسدية والخلقية دون أن يلزمها بأفكاره وهذا ما قرأناه في شخصية لوليتا:" نوة ,أو ملاك ,لاله ,رذاذ المطر, الحبّ ,امرأة الصدفة,شخصية رواية نابكوف " لوليتا كما يحبّ يونس مارينا أن يسميها,الصبية الجزائرية ابنة أحد التجار الكبار,تتعرض للاغتصاب في سن مبكرة من قبل أبيها عندما يكونان في اندونيسيا للتجارة ما يسبب لها,الندوب والجروح النفسية والعقد ,ويجعلها تفكر بالانتحار أكثر من مرة , هي تنتحر كلّ يوم حين ترتمي في حضن الغرباء ,جسدها كالبركان الخامد لا تعرف متى ينفجر, تعمل عارض للأزياء في دور عالمية مشهورة, جميلة ,قارئة نهمة , لكتب يونس مارينا , معجبة به , تتقصد مقابلته تسافر خلفه, تنجح في اللقاء به ,مثقفة ,لها العديد من التجارب الغرامية التي باءت بالفشل وما ذلك إلاّ رداً لما تعانيه من احباطات بسبب تعرضها للاغتصاب من قبل والدها , وعنف أمها وأخيها , واضطرارها للنفي بعد تقديم معروض شكوى بوالدها , وملاحقة أخيها لها , ومن ثمّ امتهانها عرض الأزياء , وقيامها بأكثر من عملية لصالح المجموعات, واختيارها للقيام باغتيال هذا الأخير كما أخبرنا بذلك الكاتب نقلاً عن جهاز الأمن المركزي في باريس وذلك في نهاية الفصل الأخير من الرواية, عندما كان يستعدان للاحتفال بعيد رأس السنة, لكن هل ستقتله؟أم أنّ الحبّ سينتصر وتخالف لوليتا المطلوب ؟:قالت له:" لا أمزح حبيبي.أريد أن أبقى معك قليلاً لأشبع منك. هل تدري أنّك إذا صليت , وناديتني في يوم الحشر وقلت أريد حبيبتي نوّة ستضعني الملائكة بين يديك ؟ص438هذا ما أسرت به له, ثمّ قالت له:لا تقلق حبيبي سنحتفل بأجمل عيد رأس السنة , سأخرج وأعود لك بعد قليل نوراً منفلتاً , شظية نجمة هاربة , في عرس من الألوان المعمية .ص442إنّه الإرهاص بالموت , بالغياب , والعودة نجمة , وهو فيما إذا صلى ودعاها يوم الحشر فستعود إليه ....حبيبة كما كانت !إنّ آخر فصل في الرواية يشي بالنهاية , النهاية الصعبة , نهاية موت الحلم لرجل كهل أحبته صبية حسناء عشرينية ....., ورد يونس مارينا أكثر من تحذير يطالبه بألاّ يخرج , وأن يبقى في البيت , ولا يفتح الباب لأحد حتى لوليتا ....في هذه الأثناء يقرا على شريط التلفاز - بعد رأى الناس في الشانزيليزيه....يسرعون بعد دوي انفجار رهيب.....: "عملية إرهابية " :وقع قبل قليل عمل إرهابي في الشانزيليزيه , ويبدو أن الجانية شابة من الخلايا الإرهابية النائمة التي تحدث عنها برنار سكوار سيني المسؤول عن ملف الإرهاب كانت مكلفة بتفجير نفسها ضد كاتب سياسي لاجئ في بلادنا....ص456لقد انتصر الحبّ على الموت , لم تفرّط لوليتا بيونس مارينا حبيبها ....ففجرت في نفسها كي تتخلص من كلّ ماتكره , جسدها- البركان الخامد- جروحها , ندوبها – آلامها,تاريخها.... وتبقي على من تحب , نعم انتصر الحبّ,والانسانية إذ لم تفجر المقهى الذي طالما أخبرتنا بكراهيتها له ....لقد انتصر فيها الانسان الخيّر على الشرّ...هذا استطاع الكاتب أن يبرزه في هذه الشخصية المحورية .....أما الشخصيات الثانوية فعديدة منها : إيفا الألمانية ذات الأربعين سنة,جميلة,تعمل مترجمة , ترجمت كتب يونس مارينا , وهي سبب شهرته , وذيوع صيته في ألمانيا , فرنسا, اسبانية وغيرها من الدول الأوربية , معجبة بيونس مارينا الأديب وواحدة من اللواتي أغرمن به وقضى معهن لحظات أكثر من حميمية..."عندما نامت على صدره وهي مستلقية بلذة, همست بكلمات سرعان ما اندفنت في عمق الليل: شكراً حبيبي , كنت جميلاً ورائعاً ...ياااااه كم كنت حلواً ونبيهاً.
- وأنت أيضاً كنت مدهشة يا إيفا .ص533 ,مارتا : صاحبة دار نشر ,مرتادو معرض فرانكفورت للكتاب , الرجال المكلفون بأمنه , وهناك بعض الشخصيات التي سمعناها: أمه,والده الرايس بابانا,وغيرهم .....ممن أثرى الناحية الروائية وقاد العملية السردية وجرى بها حتى النهاية .....إنّ المتابع لشخوص الرواية يجد أنّها على قدر كبير من الثقافة والمعرفة , بل بعضها يقترب من البرجوازية الثقافية كمارتا , وإيفا,وقد ترك الكاتب هؤلاء يعبرون عما يجيش في داخلهم من تصرفات , ويقومون بأعمال دون أن يلزمهم بفكره , ومنطقه ....لذلك جاء رسمها واقعياً ينمّ عن ملامحهم, وصادقاً وبالتالي موظفاً لصالح الرواية..عبر إبراز الصراع الداخلي بين هذه الشخصيات التي تمثل الأفكار ,والقيم والثقافات وأنماط التربية , ولعلّ أكثر ما ظهر هذا الصراع لدى يونس مارينا حين كانت عواطفه , وانفعالاته ودوافعه تمزقه بين الانسان الأديب,الكهل, والرجل المحروم وهو بين يدي لوليتا ...الفتاة الشابة أمل الشباب بما تملك من خصائص , وعناصر جسدية جاذبة , كان الصراع بادياً بين شقي الرجل مارينا : الأب , والرجل التي تعتمل فيه شهوة الذكر ....وغالباً ما انتصر الرجل في حالات الهدوء , والروية , والمسؤولية , والأبوية ....في الجانب الآخر تبرز لوليتا الفتاة التي تضج أنوثة , وتمتلئ حسناً وجمالاً, ودلعاً , ورغبة في حبّها لمارينا لكن ما حدث معها في الماضي حفر مسارب عديدة في نفسها, ولا شعورها , وعقلها الباطني ,لقد عاشت الصراع النفسي بقوة منذ اغتصابها...,ونفيها, وكثيراً ما عبرّت عن سخطها بالكلام , والعمل والسلوك , لقد حاولت أن تنسى ما حدث معها بإقامة علاقات حميمية عديدة مع رجال وشبّان كثر و وكانت كلّها تبوء بالفشل , ولم تستطع هذه العلاقات أن تنسيها الجرح النفسي العميق الذي سكنها, ولم تستطع أن تتحرر منه حتى وهي في حضن مارينا- محميد السويرتي- ,وحين يطلب منها أن تغتال هذا الأخير تفجر بنفسها, - وبعيداً عن الضحايا الأبرياء المفترضين - تضحي بنفسها , وينتصر الخير في أعماقها: لنتذكر معه كلمات إيفا الأخيرة تحذره من بعض أنواع النسوة " أنا مثل أية امرأة عادية تعرف بحكم التجربة وحاسة شمّها الحادة , من يريد سرقة مساحتها الخاصة . أخاف عليك من لوليتا...تفاداها حبيبي أنت لا تعرف هذا النوع من النساء. يمكن أن تكون امرأة الأقدار القاتلةص460 أما آخر ما قالته لوليتا لمارينا قبل أن تنطلق إلى الشارع , وترسل له قبلة هوائية أخيرة :" أحبك يعني أن أكون لك حتى اللحظة الأخيرة....لن أطلب من اللّه أكثر من يضعني بين يديك كفاكهة الجنّة , أو كفراشة تحرص العمر كلّه لكي لاتفقد ألوانها الهشة ./ مهبولة ....تمتم مارينا /ص443لكنّ مارينا يقول: في ليلة 1يناير ...أي الليلة , ستكون لوليتا قد أقفلت خمساً وعشرين سنة من عمر لم يكن سهلا, ولكنّها فضلت أن تبتره لأنّها لم ترده أن يستمر أكثر ... هي ذي لوليتا الخالدة التي كانت تسري في دمي. لوليتا التي لم تكتمل بعد . لوليتا التي لم أستطع اليوم أن ألمسها , أن استنشقها , أن أسمعها وأراها...ص459أليس هذا بمثابة رثاء لحبيبة , وحق لها.....إنّه الصراع الذي قاد إلى انتصار الحبّ ...حبّ امرأة الصدفة, لوليتا , أو لو.لي...تا...نوّة ....لاله.....
أصابع لوليتا.....العقدة الذروة والحبكة الدرامية.. رتب الكاتب واسيني أحداث مسروده , وسردها, ونمّاها وطورها بحسب منطق الحياة والواقع المتصاعد , وقد جاءت الحبكة محكمة , مترابطة , - بالرغم من كثرة الاستعادات والتذكر, واستدعاء حوادث سبق وجرت مع شخوص الرواية - لتسير بشكل منطقي ومتصاعد حتى الذروة عندما تصرّ لوليتا على الخروج إلى الشارع في ليلة رأس السنة حيث تنهي حياتها وتموت , بعد قدمت عدة إرهاصات بذلك كمن يودع شخصاً لن يراه ثانية, وبالفعل لقد أرسلت قبلة هوائية لمارينا , وطلبت منه أن يصلي لأجلها كي يفوز بها في الجنة..إنّها الخاتمة للوليتا , ومارينا - المنتظر عودتها كي يحتفلا بعيد رأس السنة - بين مكذب لما سمع وقرأ ومصدق ! 
أصابع لوليتا... فنيّة الرواية: السرد والوصف والحوار 
نجح الروائي الأعرج في شدّنا لقراءة ومتابعة مسروده منذ الكلمات الأولى وحتّى نهاية الأحداث , وهذا ما كان ليحدث لولا الأسلوب الرائع الذي تمّ نسج الرواية من خلاله....لقد استطاع واسيني -عبر سرده- أن ينقل الحوادث من صورتها الواقعية والمتخيلة إلى صورة لغوية مستخدماً الأفعال الماضية في حركيتها ودلالاتها الزمنية على الماضي, وما تحمله من دلالات انفعالية, وعواطف- من حب وحميمية وخوف وقلق وتفاؤل ويأس وكبت وعصاب وغير مما قراناه في تصرف هذه الشخصيات , وكونت منطلقاً لحياتها المعاشة في الواقع والمرسومة تصويراً روائياً لاسيما عندما يقوم الراوي بنقل الحوادث , وما جرى مع شخصيات الرواية , أو استخدام الأفعال في زمني المضارع والأمر عند الحوار ....وهذا ما أكسب السرد الذي رسمه الأعرج بالطريقة المباشرة أثناء نقله, ورواية الحوادث التي جرت معه ومع شخوصه وتأريخها حيوية , وعناصر فنيّة...:...كانت قد ضاعت نهائيا في عمق الحركة ,. ربما عادت إلى وضعها الأول الذي جاءت منه : امرأة الكتاب ليس إلاّ , لوليتا نابوكوف. أما الوصف والعملية التخييلية في الرواية فكان واضحاً اهتمام الكاتب في الاستناد إليها كرافعة فنيّة تزيد من جمالية المسرود ,وتقريبه من القارئ,وقد استخدم لأجل ذلك لغة عربية فصيحة وسليمة, سهلة وغير مقعرة,ملائمة للحدث ,ومصورة للحالة الشعورية التي تنتاب الشخوص, وغنائية وشاعرية , تهتم تراكيبها بالتفاصيل خاصة حين وصف المكان :موجوداته وعناصره وما يحيط به ....أي أدق التفاصيل....والكاتب وإن بدا أميناً للغته العربية الفصيحة إلاّ أنه كان أميناً لبيئته الجزائرية...إذ كثيراً ما أورد العديد من الكلمات بلهجتها الجزائرية ....بل ذهب أبعد من ذلك عندما أصرّ على إيراد أجزاء من النص الروائي باللغة الفرنسية ....ربما إمعاناً في الإعلان عن واقعيته أو ما تقتضيه الأمانة ....ولكن دون أن ينسى الترجمة النصيّة لهذه العبارات..لنقرأ هذا , وهذه اللغة الرائعة التي تنسحب على الرواية كلّها :حفيف القطار يزداد نعومة كلما قويت السرعة أكثر الخارج لم يتغير . مظلم وكأن القطار السريع كان يسير في فضاء سماوي بلا حدود ولا ملامح . مسطح بلا أي نتوء. ص83 وفي مكان آخر يستعير مقطعاً لأغنية جزائرية تغنّى في الأعراس: يالالة يا مولاة الدّار/ سرتك كاس بلار/ نعمرها بال... والريكار/ وخلّ تشتعل فيّ النار لعلّ أكثر ماتبرز جمالية اللغة الروائية- بعد الوصف الواقعي للأشياء, والعواطف والانفعالات , والسلوكيات.....- في الحوار الكاشف عن أعماق الشخصية ومستواها الفكري والنفسي والاجتماعي , والمطور للحوادث, والدافع بها غلى الأمام , والمستحضر من خلاله الحلقات , والحوادث الهامة والثانوية , والمساهم في خلق حيوية المواقف كاستجابة طبيعية للمناقشة والجدل وتقليب الفكرة على وجوهها المختلفة , وفي رواية أصابع لوليتا لواسيني الاعرج نجد الحوار في أعلى جماليته وحالاته وتفرده ...نجده ملتحماً بكيان المسرود , غير متطفل , مناسباً للشخوص في أبعادها النفسية والاجتماعية والفكرية والبيئية وسياق الأحداث , والموقف المعاش والمرسوم,نجده رشيقاً سلساً, موجزاً أحياناً ومطولاً أحياناً ,مشتملاً على طاقات تمثيلية معبّرة , قريباً من الحياة , وإن كان فيه بعض المفردات باللهجة الجزائرية الدارجة إلاّ أنّ هذا لم يجعله منحدراً نحو العامية والثرثرة بل قربّه من الواقعية وجماليتة : ردّت - لوليتا- كالمنتصر:اعتقد حبيبي أنّ مابيننا هو أكثر من الحبّ. عقد ووعد بأن تكون حبيبي وأبي , هل تستطيع ياعمري ؟أشتهي أن أجد فيك كلّ مافقدته في هذه الدّنيا, وتحول إلى خواء قاس في حياتي ...." ص365هذا اعتراف لوليتا ليونس مارينا ...أملها أن يكون لها الحبيب والعشيق والأب الذي فقدته....

خاتمة.....آخر المطاف...
....أخيراً رواية أصابع لوليتا للكاتب واسيني الأعرج , هي بحق أنموذج حي وصادق للرواية السيرذاتية , تحكي جوانب كبيرة من حياة مؤلفها....مارس فيها هذا الأخير سطوته على القارئ والمتلقي لاعتبارات عديدة في المضمون الروائي البنيوي والصورة الشكلانية للسرد ....وما زاد من روعتها تركه النص مفتوحاً على آفاق وفضاءات فسيحة للقارئ وتكهناته... لنقرأ معاً آخر كلمات الرواية : - افتح الباب ياحميد السويرتي.علته رجفة أخيرة وحمّى باردة. لأول مرة يقتنع بان للموت رائحة . رائحة ليست ككل الروائح .ص 463 

المصدر: دراسة: خالد عارف حاج عثمان - سورية-اللاذقية- جبلة.
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 53 مشاهدة
نشرت فى 21 يوليو 2018 بواسطة akilameradji

أَبو فروة الظريف

akilameradji
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

18,318