الطيور المهاجرة 1
ليلة شديدة البرودة ،، عصفت بالكون رياح صماء هوجاء هبت عليه من جهاته الأربعة ،،، وقشة أرى الريح تلعب بها كأنها ذرة غريبة تائهة ضلت طريق صحابها ،، ما زالت الذرة تطوحها الرياح يمنة ويسرة ،، غريبة هي لها صوت حشرجة أسمع أنينها ولها أيدي تضعها أمام عينيها تتقي بها غضب الرياح ،، دنوت لأتبينها فترآى لي شبح إنسان ،، يقوم ويتعثر ،، يتلفت يمنة ويسره يبحث عن وجهة يحث خطاه إليها ،،، ولكن هيهات أن يجد طريقه قد اجتمعت عليه ظلمة ،، وصقيع ،، ورياح فآنى له يرشد إلى طريق ،، رحمته توجهت إليه قبضت على يده ،،
صرخ فزعا من أنت جني أم إنسي ،، هدئ روعك مثلك أنا إنسان ،، إلى أين في ليلة مثل هذه ،،
أأنت غريب عن هذه الديار ،، غريب ولست بغريب ،،
أنت غريب ،،، وكيف عرفت ؟ لو لم تكن غريبا لعرفت أن موطني هذا حاله في الثلاثمائة وستون يوما ،، ولكن الدرجة تختلف ،،
يا إلهي وكيف تقدر أن تعيش في هذا العالم ،، لا أعرف غيره .......
سكت قليلا ثم أردف لا أستطيع أن انتقل إلى عالم آخر ... ولما !؟
تعودت على هذا العالم ،،، ولكنه غير مريح ويبدو واضحا أنك غير سعيد ،،، سحب يده من يدي دعني أنصرف وما أن هم بالحركة حتى كاد أن يعود قشة في مجرى الرياح ،،، فما أسرع ما اسند جسده علي كأنه يحتمي بي ،،
أأنت من بنات الريح ،،، أراك ثابت وأنا لا يقر لي قرار ،، ما رأيك أن نبحث لك عن مكان آمن حتى تهدأ العاصفة ويطلع الصباح ،،،
قد يستغرق الصباح أياما ، أسابيع ، أشهرا في عالمي ، وقد تشرق الشمس فيه ساعات ثم تختفي ،،،
أيا كان موعد صباحك سنجد في عالمك مكانا آمن ،، أتعرف دارك ،،
هذا هو ،، أرأيت لم ابتعد كثيرا عنه ،،، تعودت على هذه الرياح ،،،إنها تحبني ، تطوح بي ولكنها في النهاية تبقيني عند سدة داري ،،
قبل أن ندخل ستجد الرياح قد عاثت فسادا داخل الدار ،، إياك أن تقول أنني غير منظم ،، ولكن قل إنني ضحية ،،، تفضل
فتح الباب ودخلنا إلى عالم من الفوضى ،، أو مستودع يحوي كل شي ولا شيء في مكانه ،،،
دار مظلمة تنبعث منها رائحة العفونة والرطوبة ، كلما سرت خطوة شعرت بثقل الهواء الفاسد يكتم أنفاسي ، ،
أين مكان الضوء لنشعله ،، رد وهو يلتقط شيئا من الأرض ،، لا أدري ،، أيوجد نافذة نفتحها لنجدد الهواء ،، أشار بيده إلى أكثر من مكان ،،
لا تتعب نفسك فهي مغلقة ،، نفتحها ،، ضيعت مفاتيحها منذ زمن ،،
الأمر والحيلة لله كنت أحاول أن اشق لي طريقا وسط هذا الزحام والحطام ، أما هو فقد فكان يصدم بذلك الكرسي ،، ويرتطم بعامود رخام ،، ويرفع قدمه عن زجاجة مشروخة ،
ألا تعرف بقعة هادئة آمنه نرتاح فيها نلتقط أنفاسنا و نتبين أمرنا،،
رد بتردد لا أعلم قد يكون هناك مكان لم تطله الرياح بيدها ولكن لا أعلم أين هو !! حسنا لنجلس هنا مادامت الحال واحدة ،،
جلست مكاني وتكوم أمامي لحظات صمت وسكون قاتل مرت ،،،
لا اسمع إلا صوت أنفاسي وأنفاسه ،،، ما الذي أخرجك في مثل هذه الليلة ،،،
أصدقائي ،، أقصد زيارة أصدقاء لي ،، نادوك في مثل هذا الجو ؟؟ لم ينادوني أنهم ينتظرونني دائما ،، أما استطعت أن تؤجل الخروج ليوم آخر ؟! اشتقت إليهم ،، عاد الصمت تحركت الثواني فصارت دقائق وتراكمت الدقائق فولدت ساعة ،،، أراه يلتقط أشياء غريبة ،، يدسها في جيبه ،، يضعها فوق رأسه ،، يدللها ويمسح على رؤوسها بحنان شديد ،،، ولا يلتفت إلي أبدا ،، قررن أن أقطع هذا الصمت فسألته من هم أصدقاؤك ؟ حدثني عنهم ،، كأنما أسعده طلبي ،، اعتدل في جلسته ، وأشرقت أسارير وجهه ،، يسعدني ذلك ،،، هم خمسة جمعني بهم الزمن المر والليالي السوداء ،، لا أتذكر الآن مولد هذه الصداقة ،، ولكن على مر الأيام توثقت حتى صرنا عالما واحدا ،، صديقتي الأولى ملكة فؤادي ،، ذات مقام رفيع صغرى الأميرات السبع ،، أبهاهن طله وأجملهن حله ،، تكبرني بسنوات عديدة ،، أضن باسمها حتى لا أشي بسري وسرها ،،،، أعشقها وتعشقني أصرح لها بحبي وتكتم حبها وحين أعاتبها تنشدني
لعمرك ما ود اللسان بنافع إذا لم يكن أصل المودة في الصدر
اشتاق لها ،، أخرج للقائها ترفعني إلى مقام عالي ولكن هيهات أن أصل إليها ،، تدنو برفعتها وعزتها وعلو مقامها ، بجمالها ودلالها وغناها وكرمها وتواضعها ،، ترفع الأستار بيني وبينها ، أجلس بين يديها جلوس الطفل بين يدي أمه ، تكتنفني بلين جسدها ، فأقبل عليها أبثها أشواقي ،، أقص عليها لوعتي ، أسمعها شعري ،، لا تمل حديثي ،، ولا تتأفف من شكواي ،، وقبل أن أستأذن للخروج تمازحني وتقول لي صفني أيها العاشق " أنتي حبيبتي ، ملكة فؤادي ،، جليس ممتع ، وأليف مؤنس ،، وصاحب مالك ،، ومالك قاهر ،، حكمك جائر ،، بسمتك نور ،، وغضبك نار "" يطربها وصفي تبتسم هكذا هم الملوك أيها العاشق ،، وقبل أن أودعها تصب الماء بنفسها على يدي ،، ارفع لها طرفي متعجبا ،، تصبين الماء بنفسك وأنتي الأميرة وأنا الصعلوك ،، الست ضيفي وخدمة الضيف على المضيف واجب أما سمعت قول الرسول صلى الله عليه وسلم " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه "" أليس إكرام الضيف كما يريد ،، بلى إن كان ما يريد مشروعا ،، الم تسمع قول الشاعر
منزلنا رحب لمن زاره نحن فيه سواء والطارق
وكل ما فيه حــلال له إلا الذي حرمه الخـــالق
أريد أن أصل إليك ،،، إذا تموت يا مجنون ،، ألا تشتاقين لي ،، كل ذرة في كياني تشتاق إليك ،، أودعها بقبلة أطبعها على راحة يدي وأرسلها علها تصافح وجهها ،،،
سكت قليلا ثم قال ألك حبيبة مثلها رفيعة المنزلة ،كريمة الطبع ، حسنة الأخلاق ، جميلة الصورة ،، تحدثك فلا تسمع لغوا ولا فحشا ،، تعلوا بنفسها عن العبث والتهريج والابتذال ، تحمي عقلك من الضياع والتبعثر الفكري ،،، لقد جعلها الحب حكيمة وجعلني مجنونا بها ،،،
يعجبني إنصاتك يا صاحبي ،،،
أخبرك عن صديقي الثاني حكيم ،،،
ترى أثار السنين حفرت أخاديد في وجهه ،،، ورغم ذلك يقف منتصب القامة لم تحن ظهره نوائب الدهر ،،، يقف وقفة الشموخ ،،، أسترق النظر إلى وجهه لأستمد من نظرات عينية القوة والثبات ،،، من ينشد القوة ينظر إليه ، ومن يبحث عن الآمن يحتمي به ، لديه خط أحمر ،،، كبرياء بلا كبر ،،، لا يذهب لأحد من يريده يذهب إليه ،،، في قمة ضعفي أجد قدمي ساقتني إليه ،،، وما أن أفتح فمي بادئا بالشكوى حتى يمطرني بسيل من الحكم عن الصبر والثبات والرجولة ،،،، يردد دائما "" ألا إن لأهل التقوى علامات يعرفون بها ، ويعرفونها من أنفسهم ، من رضي بالقضاء وصبر على البلاء وشكر على النعماء وصدق باللسان ووفى بالوعد والعهد "" أقف أمامه موقف التلميذ ،،، أطأطأ رأسي خجلا وأنا أراه يعاني جحود الأبناء ، وبعد الأصدقاء ، جفوة الجيران ،،، وقسوة الزمان ،،، ورغم ذلك يتهلل وجهه مثل الطفل الصغير فرحا بحبات المطر ،،، ويرفع وجهه إلى السماء شاكرا سعيدا هديتها إليه ،،، من يراه يتبادر إلى ذهنه أنه صخر أصم فاقد الحركة ،، لأن ثغره لا يفتر عن ابتسامة إلا فيما ندر ،،، ما رأيت منه عنف قط ،،، بل إن له قلبا رقيقا يتفطر من قطرة مطر .... مثل هذا كم تحبه ،، كم تهواه وتعشقه ،،، ألديك حبيب مثله يا صاحبي ؟!! يعلمك أن الدنيا فصول أربعة وليست فصلا ربيع فقط ،، أن الحياة ليست كلمة ملونة وقارورة عطر ثمينة ،، أن الحياة ليست حلة مذهبه ، ولا نغمة راقصه ،، بل هي جهاد وكفاح ،، صعود دائما ،، المهم أن تصعد إلى القمة الصحيحة
صديقي الثالث أكرم أجمل صوت وارق إحساس - في حالة الرضا طبعا – ،،، لم أرى مثله لأسراري مستودعا ،،، وجهي أمامه كتاب مفتوح ،، ما أن أقبل مقتربا حتى يقرأ وجهي ،، فإن علم أني حزين استقبلني بصوت العندليب الساحر يغني لي "ظلموه ... ظلموه ... القلب الخالي ظلموه ... قابلوه شبكوه ونهار ما فتكروا يهنوه نسيوه ،،، وفاتوه وأتاريهم قبل ماينسوه ظلموه ظلموه " أجلس بقربه أبكي يرق قلبه فيبكي معي تختلط دموعي بدموعه وهو ساكن صامت لا أسمع إلا دندنة ألحانه يعزيني بها ،، فإذا سكنت نفسي وجف دمعي ،،، تواضع لي واخرج لي جرة ماءه السحري - بالمناسبة يقول الناس عنه أنه ساحر – فغسل قدمي بماء بارد تتغلغل برودته إلى داخلي ،، فتغمر قلبي تطفئ لهيبا تآكلت منه نفسي ، وحار فيه فكري ،، يأسرني بكرمه وحبه وعطفه وتواضعه وخفة دمه
ورشاقته - رغم تخنه – فما أن أتذكر نعمة وجوده في حياتي حتى ابتسم سعادة ورضا فيطير قلبه فرحا يحيط بي يغني لي بصوته العذب " يابو ضحكه جنان مليانه حنان ،، اضحكها كمان وكمان وكمان ،،،، خليك فرحان واضحك على طول ،، لك ضحكه جنان شي مو معقول ،، تشوفها الروح عمرها بيطول ،، وتخش القلب مع ألف رسول ،،، ليها صوت بيقول أنا مش مسئول ،، لو حد تحير أو بات مشغول " فلا يزال بي حتى يسمع رنين ضحكاتي ، ويراني اقفز كطفل صغير فرحا بلعبة فاز بها ،،، ومن غير أن يسألني ما بي يبدأ يسامرني فيقص على قصصا كان شاهدا عليها بنفسه بكى كثيرا مع أبطالها وضحك قليلا ،، فصفحات ذاكرته القوية النقية دفتر تاريخ ،،، لا يغفل شاردة ولا واردة إلا ذكرها ،،، يشرح لي العبرة من كل قصة والدرس الذي يجب أن أتعلمه والحكمة لكل موقف ،،، فإذا أردت الرجوع إلى منزلي نظرت إليه فينشد لي
أجود بمضمون التــلاد وإنني بسرك عمن سالني لضنين
وإن ضيع الإخوان سرا فإنني كتوم لأسرار الخليل أمين
يكون له عندي إذا ما ائتمنته مكان بسوداء الفؤاد مكين
أعرف أنه لن يبوح بسري ولكنه تقليد اتبعناه بعد كل جلسة يطربني أن يردد لي هذا البيت ،،، ويسعد بوداع المحب الأمين ...
الديك مثل هذا الصديق عظيم الجود ،، صدوق اللسان ،،،
تعبت يا صاحبي ،،، وقتلني شوقي ،، يشهد الله أن وجودك كان عزائي في هذه الليلة ،،، إلى أين ،، ابق معي دعنا نكمل اشتقت أن أتعرف على البقية ،،، هذا البيت بيتك ، سأكمل لك ،، أعدك ،، أريد أن أرتاح فانا مجهد تصبح على خير ،،، أن يعرف الكرى طريقا إلى عينيك ففكر في أصدقائك ألديك من هم على شاكلة أصدقائي أسمع منك غدا
ساحة النقاش