صناعة الفخار من أقدم الصناعات التي عرفها الإنسان، واكتشافه لها شكل نقطة تحول في حياته. الأقصر (مصر)
بين الإنسان و"الفخار" علاقة تاريخية، فكلاهما ينتمي تكوينه الأصلى إلى المادة الخام ذاتها، فهل يمكن إذن قياس تلك الصلة ومقارنتها بالعلاقة الوطيدة بين الإنسان ومنتج الفخار المتعدد الأبعاد والمتنوع الإشكال وشديد الثراء في دلالتة ورموزه وإيقاعه؟
الإجابة تأتي ونحن نطالع هذا العمل الفني/ النقدي/ البحثي الذي استطاعت الفنانة إيمان مهران أن ترصد من خلاله أبرز العوامل التي أسهمت في ظهور صناعة الفخار وفي ازدهارها في واحدة من أعرق محافظات مصر وأكثرها اقترابا من "المصرية الخالصة" وهي مدينة قنا، رابطة بينه وبين العادات والتقاليد والمعتقدات هناك، وباحثة في مستقبل هذا الفن وأثره الاقتصادي والتنموي في صعيد مصر.
فالفخار يصنع من الطين والطين من أول المواد التي عرفها الإنسان لسهولة توافره والتعامل معه سواء لأغراض نفعية أو إيداع منتجات يحتاجها في حياته اليومية، لم ينس أن يضفي عليه لمسات من البهجة والجمال التي زينها بها.
ويعد صناعة الفخار من أقدم الصناعات التي عرفها الإنسان، واكتشافه لها شكل نقطة تحول في حياته عندما استطاع من خلالها أن يوفر لنفسه أواني سهلة الصنع لا تكلفخ جهدا كبيرا أو مالا كثيرا. وربما كان ذلك بسب أن المصريين كانوا من أوائل الشعوب التي تعاملت مع الطين واستخدمته.
ويذكر علماء الآثار المصرية أن المصريين استخدموا نوعين من الطمي أولهما يميل إلى اللون البني أو الأسود، وثانيهما هو البني الرمادي، وأنهم كانوا يصنعون منه الأواني المختلفة. والذي لا شك فيه أن هذه الأواني كانت في بدايتها بسيطة الصنع غير متقنة إلى الجمال وتفتقر إلى الجمال ولكنها شيئا فشيئا تصبح إبداعا متقنا يحمل بين أعطافه قيما دينية واجتماعية وجمالية أيضا تشهد بها دقتها ورقتها وألوانها.
وكانت الخطوات المتبعة في صنع الأوانى الفخارية هي تحضير الطمي وعجنه ليصير متماسكا، وربما أضافوا إليه بعض التبن ليساعد على ذلك، ويحترق هذا التبن عند حرق الآنية. وظلت عملية تشكيل الآنية تتم يدويا حتى توصلوا في عصر الأسرة الأولى إلى العجلة التي استعانوا بها في عملية التشكيل، وهذه العجلة عبارة عن قطعة مستديرة من الخشب يديرها الصانع بينما يقوم بتشكيل قطعة الطمي لتأخذ الشكل الذي يريد أن تكون الآنية عليه، وهو ما يكشف عنه نقش احتفظت به مقبرة "تى" في سقارة من عصر الأسرة الخامسة.
وبعد أن تتم عملية التشكيل كانت الآنية تترك لتجف قبل أن تحرق وكانت ألوان الأواني الفخارية تتغير تبعا لنوع الطين المستخدم، وما يشتمل عليه من أكاسيد معدنية ومواد عضوية، وكذلك تبعا لطريقة الحرق. ومن الألوان الأسود والأحمر والبني والرمادي.
واستطاع الصانع المصري في وقت مبكر أيضا أن يعطى الأواني الفخارية بريقا وأن يجعل سطحها أملس ناعما، وذلك بصقل سطح الأواني قبل أن تجف تماما وقبل حرقها مستخدما قطعة من الحجر الصلب الناعم أو شيئا متشابها.
أما عن زخرفة الأواني فقد لوحظ أنه منذ عصر ما قبل الأسرات، كان ذلك يتم عن طريق حفر أشكال لبعض الحيوانات يتم ملؤها بمادة بيضاء لتظهر بيضاء على سطح الآنية. وظهرت مع هذه الأشكال في بعض الأحيان أشكال أخرى لقوارب وطيور ونباتات، ثم استخدم الصانع فيما بعد بعض الألوان كالأزرق والأحمر والأصفر لتلوين الأواني حسب الحاجة.
وتزخر المتاحف بأنواع متعددة من هذه الأواني، من أشهرها نوع كان يظهر على سطحه الخارجي صور بارزة، ومن ذلك آنية تزدان بشكل رأس المعبودة "حاتحور" محفوظة في المتحف المصري.
وقد أتقن المصريون القدماء صناعة الأواني من الفخار، وأنتجوا لنا أواني فخارية جميلة، كما ابتكروا الخزف، أي الفخار المغطى بطبقة زجاجية، وحذقوا صناعته وعملوها لغيرهم، إلا أن صناعة الأواني الفخارية أو الخزفية لم تلق عناية الحكام اليونانيين والرومانيين وغيرهم ممن توالوا على حكم مصر، ذلك أنهم فضلوا استخدام الأواني الذهبية والفضية، إلى أن عرفت مصر الأواني الخزفية الصينية أيام العباسيين مما حمل الصناع المصريين على تقليدها ونجحوا في ذلك نجاحا باهرا يشهد عليه مجموعة "خزف الفيوم" التي يضم متحف الخزف نماذج جميلة منها.
ثم انتقل الصناع المصريون بعد ذلك من مرحلة الإتباع إلى الأبد، فأبدعوا نوعا جديدا من الخزف لم يكن معروفا من قبل له بريق كالذهب عرف باسم "الخزف ذي البريق المعدني"، وتفوقوا فيه ووصلوا به إلى درجة عالية من الإتقان والسمو خاصة في العصر الفاطمي.
واستمر إبداع الفنانين الصناع المصريين عبر العصور وابتكروا أنواعا جديدة يزخر بها متحف الخزف. وفي العصر المملوكي ظهرت صناعة القرميد (ألواح القيشاني) التي تستخدم في كساء الجدران والتي لا تزال بقاياها ماثلة في بعض العمائر المملوكية.
لقد حرص الفنان الصانع المصري على أن يُضفى على ما يلمسه بيده جمالا يشيع البهجة في النفوس، ويشهد له بحسن الذوق. ولا يغيب عن الذهن إبداعه المتميز غير المسبوق في منتج مصري أصيل يختفي الآن للأسف الشديد وهو "القلة" التي صنعها من الفخار، وأبدع في زخرفة شبابيكها فنا يستثير الإعجاب والاحترام، فقد تفنن وأبدع للفقراء.
لقد صاغ الفنان الشعبي كما يذكر الدكتور عبدالغنى الشال الذي أشرف على هذه الدراسة، وشاركه في الإشراف عليها الدكتور أسعد نديم، من الطين أشكالا فنية إنسانية وحيوانية وكائنات خرافية لأهداف اجتماعية ورمزية. فـ "القلة" على سبيل المثال بما تتسم به من رشاقة في الشكل تحمل بين طياتها تعبيرا أنثويا، بينما نجد الإبريق يشير إلى الذكورة وهو ما جعلة يستخدم في يوم "السبوع" عند الاحتفال بمرور سبعة أيام على ميلاد الطفل. وتستخدم القلة في يوم "سبوع الفتاة" رمزا للخصوبة والحيوية والرشاقة.
إن هذه الدراسة عن الفخار الشعبي التي حصلت بها الباحثة إيمان مهران على درجة الماجستير في الفنون من المعهد العالي للفنون الشعبية بأكاديمية الفنون تقوم على مواجهة واقعية للفخار وصانعيه وبيئتة ومجتمعه، فترصد تاريخه وصناعته وصانعيه وتشكيلاته النفعية والجمالية وعلاقته بالحياة اليومية ومناسباتها وبالعادات والمعتقدات المرتبطة به، وما ورد بشأنه في أشكال أخرى من المأثورات الشعبية.
ولا تأتي أهمية هذه الدراسة من رصد الباحثة للفخار في قنا فحسب، وإنما تزداد أهميتها أيضا في أنها تربط بين الفخار وبيئته ومجتمعه وقضية التنمية في مجتمعنا المعاصر، وهي بذلك تحقق رسالة المبدع الشعبي الذي ربط دائما بين الجميل والنافع فيما أبدعه وحافظ عليه ونقله، ونأمل ألا يتوقف عن الاستمرار فيه، وأن يتم تنبيه المسئولين إلى أهمية الدور الذي تلعبه هذه الفنون والحرف اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا بما يعود بالخير على أصحابها والمنتفعين بها من الناس.