(1)

لكم تمنيت أن أصمت.. لا أكتب ..ولا أتكلم.. إلى أن تأتي لحظة تشبه سكرة الموت، فيقطر لساني وقتها بكلمات مكثفة، لا يهم أن تلقفها صفحات بيضاء أو يضمها كتاب، أو يرتلها الآتون بمحبة.. ولكن يكفي أن تسرى في روح الحياة، فتمنح الأشجار هزة خفيفة، والأنهار موجة حانية.. يكفي أن تذوب في الهواء، وأنا موقن بأنها ستصافح ابتسامة طفل، وستوقف انفجار عبوة ناسفة..و..تجعل الحياة أقل تعاسة.

أي طموح رومانتيكي هذا ؟..وأية كلمات تملك هذا السحر والجبروت..؟! .. فطوال تاريخنا ونحن نهين الكلمات الكبيرة، نلوكها ونعجنها ونفرغ دماءها حتى تصير هياكل عظمية، ثم نغنيها وتعجبنا موسيقاها، فنركبها ونروض جموحها، ثم ندخل بها سباقاً طويلاً فتستوي معلقات، نفاخر بها ونعلقها على أستار الكعبة ليقرأها الطائفون..وها قدانتهت المعارك القديمة، وبقي صليل السيوف مختبئاً في اللغة.

تمر القرون تلو القرون ووقع حوافر الخيل محفور في الكلمات..أنصت إلى المتنبي فأقول: قد اكتمل الغناء، فلتسكتي أيتها الموسيقى المغوية.. كفي عن الضجيج .. ودعيني استمع إلى نبض الكون ..وأمرر أصابعي برفق على أسراره.

لكنني أندهش من نهر اللغة الذي سجناه في قوالب، وصببناه في أبحر،  وكممنا فمه بالقواعد حتى خرس تماماً، وأتساءل : كيف لم يكسر سدوده وأعمدته الخرسانية؟!! .. كنت أتصور أن اللغة كالحضارة، حين تصل على ذروة تجليها تموت ثم تبعث من جديد.. لكن كيف يحدث هذا البعث ولدينا عدد وافر من قتلة الروح وعبدة النصوص ومحترفي إعادة إنتاج وتدوير الماضي..؟..كيف..؟!!.  

 (2)

ثمة جدل مقيت حول علاقة الشاعر بالواقع يثار كل فترة، وكأنني حين أحكي عن حبيبتي التي ألقاها على الكورنيش مذبوحاً بعدم قدرتي على تحقيق أي انتصار، وحين تدمع عيني لمجرد سماع هتاف "تعيش مصر حرة مستقلة" في مسلسل تليفزيوني تافه، وحين أرى الموت في عيون المارة، والكراهية في عيون من أحب..فإنني أكون منفصلاً عن الواقع ومحلقاً في خيالات متعالية..إذن ماذا يريدون..؟ يريدون شاعراً يقف شاهراً سيفه الوهمي في وجه الظلام القادم، وينبيء العميان بالخطر المحدق..

وهذا الشاعر الذي يرى ما لا يراه الآخرون هو "سوبرمان" الشعر السبعيني ..ذلك السوبرمان الذي وقعت تحت سطوته وزعيقه وتهويشه لسنوات طويلة، اتضح لي أنه سوبرمان "تايواني" – أونطه يعني- ..فقد اكتشفت أنني كائن ضعيف بإنسانيته المعذبة ..لا أملك قوى خرافية، ولا يمكنني أن أكون إلهاً يمر بيده على رؤوس المعذبين ليصيروا سعداء، ولا أستطيع تغيير هذا القبح الضاغط بثقله على الأرواح.. بل أنني أبكي..وأخاف..وأضبط نفسي وهي مختنقة بكراهية الوجوه البلاستيكية المزيفة.. وكل ما أطمح إليه بشعري أن أفضح حالة القبح المستشرية، وأرصد وجعي الخاص؛ انكساراتي وهزائمي،وأكشف اشتباك مشاعري مع قوانين الحياة المتناقضة، فأكتب ببساطة عن أشياء معقدة وليس العكس..وأتمنى ألا يستنزف الواقع الشائه طاقتي الإنسانية في غير الشعر..فلست لا مبالياً ..بلأرى أنني متورط في الحياة أكثر مما ينبغي، حتى أنني مع كل هزيمة أفرد جناحي وأدور حول نفسي كما لو كنت أريد الطيران، أريد أن أفارق كل هذه الوجوه الحزينة.فلم أعد أحتمل الغباوات.. ولم أعد أحتمل التعامل اليومي مع كائنات لديها فائض من الكراهية ولا تعرف لمن تمنحه..

(3)

كان السبعينيون بالنسبة لي المثال الناصع للتمرد، أرواحهم الشعرية النزقة تمزق الأردية القديمة المتهالكة للقصيدة، وتبتكر لغة متفجرة تغري بالمحاكاة، لكني بعد أن هدأت الثورة، مشيت وسط الحطام بحثاً عن المشاعر الصادقة، وفتشت في كثير من نصوصهم عن الشعر، فجرَّحت  كلماتي شظاياهم المتناثرة..

كان طبيعياً قبل أن يصدر ديواني الأول "كوميديا" عام1998، أن انحاز إلى هؤلاء الثوار المتهورين، وأن أنظر بريبة إلى جيل الستينات المحافظ/التقليدي. لقد التفت الخيوط العنكبوتية للقصيدة السبعينية على رقبتي فكدت أختنق، وشعرت بالهوة واسعة ومظلمة بين ما أكتبه من نصوص وبين تلك الجذوة البعيدة التي تسكنني ..فقررت الصمت.

 لسنوات ست وأنا أبحث عني، الروح تفيض وما من آنية تتسع لفيضها، بدت كل القوالب ضيقة وعقيمة..إلى أن شعرت بلحظة أن قدميَّ تنفلتان من جاذبية الأرض، والنهر يكسر سدوده، فقيل : هذه قصيدة نثر.. ولا أدرى لماذا تنقبض روحي كلما سمعت هذا التصنيف "قصيدة النثر"، ربما لأنني أعتقد أن من يملك يقيناً إبداعيا مطلقاً، ومن يمنحنا تعريفاً دقيقاً لهذه المضخة الإنسانية الهائلة المسماة -مجازاً - بالشعر، فلينصب نفسه ناقداً لوذعياً يتقوت من ذبح الكلمات، وتنمط الشعراء ورصهم في طوابير، ربما لكي يسهل إسالة الخيط النوراني الساكن بكلماتهم..

(4)

فالشاعر خالق بالأساس، والشعر جسد ميت، ينبغي على قارئه أن ينفخ فيه من روحه لتتلاقى الروحان.. لكن هناك من يقرأون الشعر كمن يسددون طعناتهم إلى جسد القصائد، ثم يصرخون في وجه الشاعر قائلين: لقد لوثت أيادينا بالدماء..!!

والديوان هو الجسد المكتمل.. أظل لسنوات أكتب قصائدي – بسرعة- كمن يتخلص من عبء ثقيل، إلى أن تحضن كل قصيدة أختها وتلتئم..وما إن أشعر أن روحا لضمت خيوط الأجزاء المبعثرة حتى أشرع في إصداره.وأفرح كطفل حين ينفخ قاريء في هذا الجسد وأحزن حين أراه يدمي.

وبعد أن اكتمل جسد ديواني الثاني "الذي مر من هنا" -2002- عكفت عليه كثيراً لأخلصه مما رأيتها أمراضاً نشبت أظفارها في لحم القصيدة الجديدة.. كنت في ديواني الأول أحفر عميقاً في روحي بحثاً عن لحظاتي الدموية..فيما تطل الموسيقى برأسها كلما تعمقت يدي ..وفي ديواني الثاني لم أرد وأنا أرى كيف صارت تقنية المشهد الشعري-الذي تعتمده القصيدة الجديدة – مبتذلة وممزقة على أيدي بعض المدعين، لم أرد أن يزحف هذا المرض ليأكل قصيدتي، فقسوت على نفسي، ودمرت جزءا من هذه المشهدية لصالح التكثيف الشعري ..فعلت هذا وأنا أعرف أن هناك من سيشهرون سكاكين قراءاتهم العمياء في وجهي.. فلم أهتم..وقلت فليذهب أصحاب اليقين الإبداعي والنقدي إلى الجحيم، ولتخفت الموسيقى ويتعمق المعنى . 

لي صديق عربي له يقينياته ذكر أنني سأمر على العالم مروراً شعرياً فحسب، أظنه يؤمن بخلود الكلمات، ولا يهمه كثيراً أن أمر من هنا عابراً بين أوراق الشجر كنسمة، حزنت قليلاً لأنني تخيلت الشعر كالأعمى وسط كل هؤلاء المبصرين.   

(5)

تلك اللحظة السحرية التي تشبه نظرة وداع بين عاشقين على رصيف محطة متجهمة،إنها لحظة الكتابة؛ كأنها الثواني الأخيرة التي تسبق البكاء مباشرة.. لحظة صافية نقية..تظل روحها متشبثة بجسد القصيدة مهما تقادمت، فالشعر في تصوري أشبه بالغناء الشعبي التلقائي المتدفق في عفوية، والمشحون بكم هائل من الأحاسيس المتفجرة.. فلا تعرف من أي نبع ينزف دمه الساخن..

وكثيرا ما أحاول العثور على تصوري هذا لدى كثيرين من الشعراء - ممن يملأون الدنيا ضجيجاً – فلا أجد سوى أفكار شعرية فقط، وشعرية هنا - مجازاً- لأنهم واعون تماماً لعميلة الإنتاج الشعري.. كأن يبدأون القصيدة بافتراض مدهش مفارق للواقع ، وينسجون عليه مجموعة مفارقات أكثر إدهاشاً، حتى ليجد القاريء الغلبان فمه - بعد قراءة القصيدة – مفغوراً من الإندهاش..!!.. وعن نفسي لم تعد مثل هذه الأكروبات الشعرية تنطلي عليَّ ..فإذالم يستطع الشاعر من الوهلة الأولى أن يمد يده ليعتصر قلبي، أو يفتح لي نوافذ من عالمه ليطل على روحي فأراه..فأتألم لألمه أو أفرح لفرحه، فلا داعي لأن أتعب نفسي في محاولة ميئوس منها للتواصل مع مفارقاته الشعرية "المدهشة"..!!

إن أشد ما يحزنني اكتشافي للمسافة الواسعة بين اللحظة المرصودة شعرياً وبين اللحظة الفعلية..فقد أستطيع الإمساك بحالة عذبة من الشجن في قصيدة..لكن الذاكرة اللعينة لا تكف عن عقد المقارنات بين اللحظتين..تلك المقارنات المحبطة التي تكشف بوضوح أن الواقع أكثر إيلاماً، وأن ما أكتبه ليس أكثر من هوامش شعرية على متن لحظة دموية لم تتم كتابتها بعد..  

 

فارس خضر

 

المصدر: موقع الشاعر فارس خضر
ahmedsalahkhtab

أحمد صلاح خطاب

  • Currently 110/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
36 تصويتات / 169 مشاهدة
نشرت فى 24 فبراير 2010 بواسطة ahmedsalahkhtab

أحمد صلاح خطاب

ahmedsalahkhtab
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

616,700