يبين فريزر في الفصل الأول من كتابه كيف أن سفر التكوين وقع رهين مصدرين في"خلق الإنسان": قصة الخليقة المنحدرة من أصل كهنوتي، وقصة الخليقة المنحدرة من أصل يهودي، وثمة تناقض كبير بين القصتين، فصله المؤلف تفصيلاً موجزاً، ثم عرض قصة الخلق في الثقافات الإنسانية المختلفة، ففي الثقافة اليونانية يجبل بروميثوس طيناً ويخلق منه البشرية، تماماً كما في التكوين العبراني. وحتى لو خرجنا من دائرة الثقافة المتوسطية وابتعدنا كثيراً وجدنا أن القصة ذاتها مع بعض الاختلافات في التفاصيل تتكرر. فقرب ملبورن، في استراليا، يروي البدائيون قصة مشابهة فمن ثلاث شرائح من لحاء الشجر قطعها الخالق"يند- جل" بسكينه، ووضع عليها طيناً وراح يسويها بسكينه إلى أن ظهر الشكل الذي أعجبه فنفخ فيه من أنفاسه وظهر الإنسان بنوعيه الذكر والأنثى.
وفي تاهيتي يخلق"تاروا" الإنسان على شكل زوجين أولين من طين أحمر، ومن هذين الزوجين تنحدر البشرية.
أما قصة خلق المرأة من ضلع الرجل، فموجودة في كثير من الفولكلور لدى كثير من الشعوب، فنجدها بتمامها تقريباً عند سكان بورما، فقد جاء فيها أن الخالق"أخذ ضلعاً من أضلاع الرجل وصنع منه امرأة" ويروي تتار سيبريا قصة مشابهة، وهي أن الرجل كان المخلوق الوحيد لكنه نام مرة فبرزت عظمة من أضلاعه إثر لمسة شيطانية، فسقطت على الأرض وأخذت تنمو فصارت المرأة الأولى.
وحتى قصة خلق الجلد وفصل المياه عن اليابسة والظلمة عن النور، وخلق الحيوان والشجر والبشر والشمس والقمر.... نجدها لدى كثير من الشعوب.
وفي الفصل الخامس يبين المؤلف أن برج بابل ليس خاصاً بالعبريين الذين يزعمون أن البرج أقيم تمرداً على الخالق الذي"بلبل" ألسنتهم وأحبط عملهم. ومع أن معنى بابل"بوابة السماء" فإن الحكواتي العبري جعلها بلبل ليستغلها في تفريق الألسنة. وكما يزعم العبريون أن لغتهم هي التي كانت متداولة قبل البلبلة وأنها لغة أهل الجنة، فإن السويديين يزعمون هذا الزعم وكذلك الهولنديون والدانمرك لنوازع قومية. وقصة برج بابل وتبلبل الألسنة موجودة لدى كثير من الشعوب، ففي المكسيك نسمع القصة ذاتها تقريباً. وفي قبيلة"ميكير" في التيبيت البورمية تتكرر قصة برج بابل. ويبدو أن البرج الذي يشمخ إلى السماء هو رمز للتمرد والعصيان لأن القصص"البرجية" كلها تجمع على ذلك.
ويطالعنا فريزر أن"سقوط آدم" ليس عقيدة خاصة بالعهد القديم، بل إنها منتشرة انتشاراً واسعاً. وكذلك الميثاق الذي يعقده الخالق والمخلوق، فهو موجود في الفولكلور العالمي.
والشيء نفسه يقال عن الطوفان و"علامة قابيل" و"جلد الجدي" و"قدح يوسف" وبقية القص التي يشتمل عليها العهد القديم. بل إنه يظهر كيف أن القانون الذي يعتقد اليهود أنه خاص بهم، لا يختلف عن بقية"القوانين" البشرية. والعادات الخاصة بذلك ليست وقفاً عليهم فالنهي عن طبخ الجدي بلبن أمه نجده لدى كثير من الشعوب، وكذلك إيذاء الجسد حزناً على الميت وغير ذلك من الظواهر الفولكلورية.
وخلاصة"الفولكلور في العهد القديم" هي أن هذا الفولكلور ما هو إلا تكرار لأنماط عرفتها معظم الشعوب، مع بعض التعديلات والانزياحات التي تفرضها المشاعر القومية أو الظروف البيئية. ولكن حتى في حالة تباين البيئات نجد ثمة مماثلة بين عقائد الشعوب. فالعقيدة المصرية مثلاً هي عقيدة شمسية صرفة، ولكننا نرى هذه العقيدة موجودة حتى في البلاد التي يعز فيها اللقاء مع أشعة الشمس كاليونان مثلاً وكالبلاد السكندنافية. ويجب ألا تخدعنا الفروقات والتباينات وأحياناً التناقضات، عن إدراك العالم المشترك بين عقائد الشعوب التي تعكس أنماطاً أولية كبرى، وقد تتقارب الأنماط الصغرى، أو حتى أقسام وأجزاء متشظية من هذه الأنماط. إن الدراسة العلمية الواسعة التي قدمها فريزر في هذا الكتاب، أظهرت أن التباينات العرقية والقومية والدينية والبيئية تتضاءل كثيراً أمام العالم المشترك.
التايبولوجيا-إذن- ليست علماً لاهوتياً، ولا هي خصيصة للعهد القديم والعهد الجديد بل إنها"العام المشترك" لجميع ثقافات الشعوب. بل يمكن الزعم أن اللاهوت هو الذي أخضع التايبولوجيا لميدانه وجعلها حكراً عليه. والمصطلحات التي استخدمها في التايبولوجيا هي مصطلحات مسبوق إليها، لكنه أضفى عليها المعاني التي تخدم عقيدته، بحيث صرنا عندما نسمع كلمة لاهوت(ثيولوجيا) نلصقها بالمسيحية فقط، وننسى أنها علم قائم بذاته وموجود لدى أقدم الشعوب(كالأستراليين) وأورقاها(الإغريق) وعلى هذا فإن"قصة يوسف" مع امرأة فوطيفار تتحول إلى"مغزى لاهوتي" في حين أن"قصة الأخوين" المصرية، وهي النسخة الأصلية لقصة يوسف، لا يسمح لها أن تدخل حرم اللاهوت. والسقوط له معنى لاهوتي في العهد القديم، بينما"السقوطات" التي لا حصر لها والتي عرفتها شعوب العالم لا دخل لها في اللاهوت.
لقد حرر فريزر بكتابه الدقيق"الفولكلور في العهد القديم" العقائد والتصورات والعادات من أسر اللاهوت وارتفع بها إلى مستوى المشترك العام بين البشر، فسقوط آدم ما هو إلا صورة لكثير من أنماط السلوك التي عرفتها البشرية. ورحلة يونان المائية ما هي إلا تكرار للرحلات تحت الماء التي تتردد في ثقافة الشعوب وآدابها، وإن لم تكن شعوباً مائية. ولا يكاد معتقد من المعتقدات القديمة يخلو من قتل التنين أو اليهموت المخيف أو الغيلان أو الهولات، فهي عقيدة مشتركة وليست حكراً على العهد القديم أو العهد الجديد
أحمد صلاح خطاب
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع