ها هو العام الهجري الجديد يهل علينا فيجدد ذكرى أعظم هجرة في التاريخ .. هجرة لا لكسب دنيوي، ولا رغبة في متاع زائل، بل لنصرة دين الله تعالى، وإعلاء كلمته، وإفساح المجال لهذه الدعوة الوليدة كي تشرق شمسها على العالم فتبدد الظلمة نوراً،  والجهالة حلماً، والتخلف علماً وحضارة.

إن ذكرى الهجرة تعني الصفحة البيضاء والتاريخ المشرق الذي يجب أن تعمل الأمة من خلاله وعلى ضوئه لتصل حاضرها بماضيها وتخط صفحات مستقبلها.

كانت الهجرة نواة تأسيس دولة الإسلام في المدينة المنورة، بعد أن غرس النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان في النفوس، وربى رجالاً في أحضان مكة المكرمة طوال ثلاثة عشر عاماً. وكان أول ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم  فور وصوله إلى دار هجرته  بناء المسجد، ذلك المحضن الطاهر الذي يكفل له الانطلاق بالدعوة إلى آفاق أوسع.

وكانت الهجرة كذلك رمزاً للرفض التام لهذا المجتمع الوثني في مكة مجتمع قريش الغارق في بحار الجهل والظلام، المتعنت في غروره وكبريائه، السادر في غيه وطغيانه.

وقد صورت الهجرة أنقى وأجمل صورة عرفها التاريخ في سبيل نصر العقيدة والحق والفضيلة، وما كان ليتيسر لها ما تيسر من نجاح لولا رعاية الله لها وتوفيقه للمؤمنين المهاجرين، ثم أخذ النبي القائد بالأسباب المادية المتاحة من الاستعداد والتجهيز وحسن التخطيط والتنظيم والإدارة.
من هنا تبقى الهجرة نموذجاً رائعاً وحدثاً جليلاً يحمل دروساً عدة متجددة في الصبر والفداء والتضحية والإيثار والإخاء والشجاعة والعدل والحكمة لكل المسلمين في كل زمان ومكان.

إيذان بأن السيادة للإسلام
كانت الهجرة إيذاناً إسلامياً ربانياً صريحاً، بأن السيادة الكونية للإسلام وأحكامه، لقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وفي ذهنه مشروع الدولة الإسلامية التي تعبّد الناس لربهم، وترفع الظلم عن المظلومين، وتقيم العدل في ربوع الأرض.

وقد حققت الهجرة بفضل الله أولاً وآخراً ما كان يسعى إليه النبي صلى الله عليه وسلم  والمهاجرون، فأمن الناس على أنفسهم وأموالهم، وعبدوا ربهم في وضح النهار، وشاع العدل، وعم الأمن أرجاء الدولة، وكسرت شوكة اليهود الذين عاثوا في الأرض الفساد، وطغوا في البلاد، وعاين المسلمون على أرض الواقع نعمة الأخوة بعد العداء، والوحدة بعد التفرق، والقوة بعد الضعف، والمودة بعد الكراهية: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) (آل عمران - 103).

هجرة.. وهجر
ولئن كان المصطفى صلى الله عليه وسلم قد قال: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استُنفرتم فانفروا"، فإن معنى الحديث أنه لا هجرة من مكة، لأنها صارت دار إسلام، أما الهجرة بمعناها الشامل، فإنها باقية مادامت السموات والأرض، وهي تنقسم إلى نوعين:

النوع الأول: الهجرة المعنوية: وهي الهجرة من الكفر إلى الإسلام، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن البدعة إلى السنة، ولعل هذا هو المقصود الأعظم من حديث النية في قوله صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" (متفق عليه).

والهجرة إلى الله إذن تكون بالإيمان به وتوحيده، وإفراده بالعبادة، واجتناب الشرك صغيره وكبيره، خفيه وجليه، واجتناب المعاصي والآثام، والإكثار من التوبة والاستغفار والعمل الصالح .. كل ذلك وغيره هجرة إلى الله.
أما الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكون باتباع سنته وتحكيمها في الحياة والتحاكم إليها وتقديمها على جميع الآراء والأهواء ونبذ البدع والمحدثات التي ليست من الدين في شيء.

أما النوع الثاني فهو الهجرة الحسية المادية: كالهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام وهجرة (أو هجر) أهل الذنوب والمعاصي، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة مع الثلاثة الذين خلفوا، أو كما قال صلى الله عليه وسلم: "لايحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث" قال العلماء: إلا لبدعة أو معصية يجاهر بها.
ومنها كذلك الهجرة من دار المعاصي إلى دار الطاعات، كما فعل الرجل الذي قتل مائة نفس، ثم توجه مهاجراًَ إلى الأرض التي فيها أناس يعبدون الله تعالى.

وكذلك الهجرة إلى الشام في آخر الزمان عند ظهور الفتن، فعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ستكون هجرة بعد هجرة .. فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم". (الحديث أخرجه أبوداود بسند حسن).

من رحم المعاناة.. خرج جيل النصر
كانت الهجرة نقلة نوعية عظيمة وفتحاً كبيراً للإسلام بل تغييراً لوجه الأرض بأكمله، تلك الأرض التي كانت تئن من ظلم الظالمين وجهل الجاهلين، وعبث العابثين وشرك المشركين. كما كانت فرجاً ومخرجاً وعزاً ومنعة للمسلمين،  فأصبحوا بعدها أصحاب دار وقرار،  وعز وقوة وأمان،  وفي ذلك يقول الحق جل وعلا مثنياً على نفسه، ومذكراً الصحابة بهذه النعمة عليهم: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون)  (الأنفال - 26).

وجيل النصر هذا الذي خرجته الهجرة المباركة مثال حي للمسلم الواعي صاحب الفكر الراسخ والعقل الناضج، والعقيدة المتينة، صاحب المنهج السليم الذي لا يساوم فيه ولا يحيد عنه ولا يتذبذب ولا يروغ عنه روغان الثعلب، بل يقنع ويعتد بمنهجه الأصيل الذي هو كالذهب، لا تزيده الابتلاءات والمتاعب إلا إشراقاً ولمعاناً.

وثيقة تربوية
كما أن حادث الهجرة المباركة وثيقة تربوية مهمة، فحواها أن الإسلام لا يكتفي بالصلاة والصيام ونحوهما من العبادات رغم أهميتها العظمى فيه، حتى إنها عُمده الراسخة ودعائمه القوية، بل يريد من المسلمين مع ذلك أن يقيموا الإسلام عالياً في نفوسهم، وأن يقيموا منهجه وأنظمته وآدابه وفضائله في بيوتهم، وأسواقهم ومحال أعمالهم ومدارسهم وجامعاتهم، ودواوين حكمهم. مستهدفين الصلاح والإصلاح، وإيجاد المسلم الجدير بحمل رسالة الله، والكفيل بأداء الأمانة التي حملها الله إياها على أكمل وجه (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً  (72) ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفوراً رحيماً)  (الأحزاب 72- 73).

رمز للإخاء الصادق
أبرزت الهجرة المباركة كثيراً من المعاني السامية وأرست العديد من المبادئ العظيمة، منها مبدأ الإخاء الإسلامي الذي قامت على دعائمه دولة الإسلام.

وقد أثنى الله عز وجل على هذه الصورة الوضيئة الطاهرة من الأخوة الحقة، وصوّر حالة أصحابها ونفسياتهم أروع تصوير، بما يجعل المسلم يفخر بهذه النوعية من البشر التي ربما لا يجود الزمان بمثلها، وهذه القمم السامقة التي تجعل المسلم يحاول الارتقاء إليها، قال سبحانه:( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون (8) والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)  (الحشر 8-9).

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم         إن التشبه بالكرام فلاح

ولقد أسقط هذا الإخاء فوارق النسب واللون والوطن، فلا يتقدم أحد إلا بتقواه، ولا يولى أحد إلا بإيمانه وإخلاصه، وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأخوة واقعاً حياً تنطق به الأعمال، لا لفظاً سطحياً، عملاً يرتبط ببذل الدماء والأموال، لا كلمات تثرثر بها الألسنة، وتتشدق بها الأفواه، ثم تذهب الكلمات أدراج الرياح.

بهذه الوحدة وبتلك الأخوة اتحدت كلمة المسلمين وقويت شوكتهم وارتفعت رايتهم، فسادوا الأمم وفتحوا الممالك وركزوا ألويتهم في قلب آسيا وهامات إفريقيا، وأنحاء أوروبا.. ثم .. لما حادوا وضعفوا ونكصوا وتفرقوا ضاعت مكانتهم وصاروا كالأيتام على موائد اللئام، وتداعت عليهم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها.

وإننا في أشد الحاجة إلى استلهام روح الهجرة العاطرة، حتى نرقى ونسعد أنفسنا ونسعد البشرية كلها: ( ويومئذ يفرح المؤمنون (4) بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم (5) وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون)  (الروم 4-6).

دروس وعبر
وما أكثر الدروس التي يمكن أن نستفيدها من الهجرة ومنها:

  • Currently 245/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
73 تصويتات / 570 مشاهدة
نشرت فى 20 ديسمبر 2009 بواسطة ahmedelbebani

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

281,172