في مَطلع شتاء عام 1980- بعد عراك مع مُثبِّطاتٍ حالت دون ولوجي باريس بالقطار الدولي الذي كان موجودًا بالعراق وقتَهـــا ، لم يكن أقلها اعتقالي نكايةً بمن يخالف توَجُّهات السلطات حيال السياسة الدولية - ألقت بي الأقدار إلى غُرفَةٍ في مأدبـــا بالأردن ، لا تمنعُ بردًا ولا تَصُدُّ هواءً ، إذا فتَحتَ بابهـا استَقبَلَك فضاءٌ أجرَدُ من الأرض يُفسِحُ للصِّرِّ في ليالي الشتاء مهبَّاتِ صَولَتِه ، وينتهى بهضبَةٍ تأخذ بخناق الأفق في مرأى العينِ ، إلا أنْ يُطِلّ من ورائها بدرٌ شاحبٌ يُعينُ على النَّفسِ أتراحَها ، فإذا تقدَّمَ الشتاءُ نثرَ على الأرض الشَّبَمَ مُجَسدا في رشاشِ الثلوج ، ورزوحًا تَحتَ هذه الحال مع ما في النفسِ من مَوجدة كانت هذه العبرات :
في ظـــلامِ اللَّيـْـــــلِ يَنهَـــــلُّ المَطَـرْ
تَنــــعـقُ البــُــــــومُ ويَـصفَـرُّ الـقَـــمَــرْ
ويَئِـــــزُّ الــرَّعْـــــدُ في جَـوفِ الـفَـضَـا
لاجِمًـــــا بالـــرِّيــحِ أعطـــافَ الشَّجَــرْ
هَـــــكَذا حالـي وذا قلــــبي الكئيــبْ
لا أرَى في غُربَتي لــي مِنْ حبيــــبْ
مَوطِنــــي نــَـــــــاءٍ وأهــلي وهَـــوًى
كانَ فيــــهِ العُمـْــرَ لي طِبٌّ وطِيــــبْ
غاضَ ِمِنـــــهُ الخَفضُ والبِشرُ مَعــــــا
كَيــْـــــفَ لا يَغلي ويَكـوي الأضْلُعَـــــا
كُلَّـــــــما جَرَّعـتُـــهُ كأسَ الـــرِّضَــــــا
غصَّ حتَّى كَـــــــــادَ أنْ يَنـصَدِعَـــــــا
مُوحشٌ كالقَـبـــــــرِ لا نَجـوَى بِـــــــهِ
أو كَلَيــــــــــلٍ فارَقَتُـــــــــهُ الأنـجُـــمُ
وفَــلاةٍ غَــــــــابَ عنْهــــا عُشبُهَـــــا
وتَـلافـــاهَـــــــــا الغُـــرابُ الأسْـحَــمُ
يَــطلُــبُ السَّـرَّاءَ والعَـيــشَ الهَــــنِيّ
كَيــْـــــفَ يَجني الــــرَّوْمَ والّضَّرَّاءُ فِيّ
تَمْـسَخُ الأنغَــــامَ نَــوحًـــــا وشَجًـى
وتـــرَى الأشواكَ في الــرَّوضِ النَّـدي
صُمَّتِ الحَوبَـــــــاءُ يــــا طَيْـــــرُ فَـــلا
تَسكُبِ الألحــــانَ لا يُـــجـدي الطَّرَبْ
واستــطالَ الكَـربُ لا تُفضي شَـــذًى
للــــرُّبــا يـــا زَهـرُ واهْـــوي لِلــحَطَبْ
كُــــلُّ ما كانَتْ تَشَهَّـــــــاهُ المُنَــــى
شَوّهَـــــتْهُ اليَـــــومَ كَـــــفُّ المِحَـــنِ
إنْ غَفَـتْ بالصَّبـــْــرِ جَمـراتُ الـجَــوَى
أيــقَــــظَ الجَمــْــــراتِ كَـــــرُّ الــــزَّمَنِ
ضِقْـــــتُ بالشِّقْوَةِ والجُلَّــــى يَــــــدا
لَيـــتَ شِعْــري مــــا تُرَى بَعدَ الـرّدَى
مِثْلُهَــــــــــأ أم غِبــــطَةٌ تَغْتَـــالُــــهـا
لَهْفَ نَفْـسي لـَـــو تُلَقَّاهـــــــا غَـــدَا
(محمد رشاد محمود)