الرغبة في معرفة الماضي طبيعة بشرية تكاد ترتقي لمستوى الغريزة. وإذا كان الانسان الفرد الفاقد الذاكرة يحتاج إلى العناية والرعاية فالجماعة الإنسانية تحتاج كذلك. التاريخ ممارسة ثقافية ذات خصوصية لارتباطها بالجماعة الإنسانية. وعندما تنسى الجماعة الإنسانية ماضيها تصبح في أضعف حالاتها. وتنعدم ثقتها بنفسها ويغشاها شعور بالدونية تجاه الآخر, ويصبح سلوكها إزاءه سلوك المهزوم من دون معركة. أما الإنسان الذي يعرف نفسه فإنه يتصرف تجاه (الآخر) على نحو من الثقة بالنفس التي تميز سلوك من يعرف والمعرفة هي السبيل إلى العمل. ولعل هذه الحقيقة التي تقترب من البديهة هي السبب في أن الجماعات الإنسانية, سواء كانت أمة, أو شعبًا, أو قبيلة, تحرص على تلقين أبنائها تاريخ الأجداد. ولأن الذات الثقافية لأي جماعة إنسانية هي -في نهاية الأمر - محصلة خبراتها في رحلتها عبر الزمان, فإن معرفة قصة هذه الرحلة تعين هذه الجماعة على معرفة ذاتها, والتاريخ هو قصة هذه الرحلة - التي لم تتم بعد - عبر الزمان بالنسبة لكل الجماعات الإنسانية. ولأن ماضينا, أو جزءًا منه على الأقل, هو الذي يشكل حاضرنا, كما أن حاضرنا من ناحية أخرى سوف يكون أساسًا لمستقبلنا, فإن معرفة مكونات الماضي وأساسياته هي التي تقودنا إلى التصرف على نحو سليم في الحاضر ووضع خطط التنمية للمستقبل. وتفصيل ذلك أن المعرفة بالذات, من خلال الوعي بالتاريخ, تبعث على الثقة من ناحية, كما تحول دون الجماعة الإنسانية والاعتماد على الآخر من ناحية أخرى. ففي عصور التدهور والتراجع تركن الأمم المهزومة إلى نوع من الإحساس بالدونية. وتكتفي بأن تستهلك ما ينتجه الآخرون على المستوى المادي والثقافي, (انظر إلى العالم العربي بعد نهاية عصر السيادة العربية الإسلامية). لقد توهم البعض أنه يمكن لبلادهم أن تنهض داخل الهياكل السياسية والاجتماعية والثقافية المستعارة من الحضارة الأوربية الغالبة, ولكن النتيجة الماثلة أمام أعيننا جميعًا أن جميع التجارب التي استهدت النموذج الأوربي فشلت لسبب بسيط وجوهري في آن معًا: هو أن هذه التجارب لم تكن نتاجًا للتطور التاريخي الموضوعي في العالم العربي وإنما كانت نتاجًا للتطور التاريخي الموضوعي في أوربا وحدها. لقد فشلت التجربة الليبرالية - كما يحلو للبعض أن يسميها - في النصف الأول من القرن العشرين, كما فشلت الاشتراكية والقومية, لأنها جميعا تجاهلت الخصائص التاريخية للبلاد العربية. وعلى الرغم من «الاستقلال الشكلي» الذي فرحت به بعض البلاد العربية, فإن الاستبداد والنظم العسكرية رجعت بها إلى درك مخيف من التبعية والاعتماد على العدو! إن أخطر ما تمخض عنه النصف الثاني من القرن العشرين هو حالة التخلف المزري الذي تعانيه الأمة العربية, التي رضيت حكوماتها بأن تقبع في الركن المظلم من العالم. ففي مواجهة الديمقراطية سادت مقولات كاذبة تتمسح بالتاريخ وبالتراث بين الحكومات والشعوب العربية, وصرنا نستورد غذاءنا, ونظامنا الاقتصادي, وهياكلنا السياسية (انظر إلى فجوة النقص في إنتاج الغذاء على اتساع العالم العربي, وانظر إلى تعليمات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لإعادة هيكلة الاقتصاد, ثم انظر إلى طبول الحرب التي تدق لفرض الديمقراطية). ولا يظنن أحد أن هذه دعوة للانكفاء على الذات, أو الهروب إلى كهوف التاريخ ومغاور التراث, إنما هي دعوة للتأمل في تجربتنا الحضارية والاستئناس بها في صياغة الحاضر والمستقبل. فالاستبداد, مثلا, لم يكن من طبائع تاريخنا كما يحلو للبعض أن يزعم, بل كان هناك نوع من النظام التمثيلي الذي تناسب مع ذلك الزمان, فقد كان الحاكم يستعين بالفقهاء وأصحاب الأقلام واسطة في التعامل مع الناس, كما كان الناس من ناحية أخرى يستعينون بهؤلاء الفقهاء لكي يكونوا واسطتهم في حمل مطالبهم إلى الحكام. كذلك كان رؤساء الطوائف, التي كانت بمنزلة تنظيمات نقابية, هم الواسطة بين الحاكم والرعايا لتبادل الحقوق والواجبات. وظل هذا النظام ساريًا حتى قدوم الحملة الفرنسية إلى مصر وبعدها. فقد حاول الغزاة الفرنسيون استغلال هذا النظام في التعامل مع المصريين. وقد بقي هذا النظام «التمثيلي» سائدًا في معظم أنحاء العالم العربي حتى قدوم الاستعمار الأوربي الذي أحدث هزة كبيرة في الهياكل السياسية العربية من ناحية, كما فرض المفاهيم الجزئية وكرَّس النماذج السياسية التي توافق أهدافه وتحقق أطماعه في المنطقة العربية من ناحية أخرى. وبعد الاستقلال لم تحاول الحكومات العربية تجديد النظام التمثيلي القائم على مؤسسات المجتمع المدني وفق تراث الشعوب العربية السياسي, وإنما اندفعت صوب نموذج الدولة الأوربية الحديثة, دون أن تكون لها تجربتها التاريخية, ودون أن تكون لها مقوماتها, وكان الحصاد المرُّ لتجارب هذه الحكومات مزيدا من الاستبداد ومزيدًا من تراجع الدور العربي في العالم الحديث. وبدلاً من الاستناد التقليدي إلى شرعية سياسية تقوم على الداخل وعلاقات الحكومات بشعوبها رضيت الحكومات بشرعية مزيفة استمدت من رضاء القوى الاستعمارية عنها. كانت النتيجة الحتمية لهذا الموقف أن ازدادت وطأة استبداد هذه الحكومات بشعوبها, كما ازدادت ارتباطًا بالقوى الاستعمارية وخضوعًا لها. بيد أنه كانت هناك نتيجة أخرى تمثلت على الصعيد الثقافي في ذلك الارتباك الذي شاب وعي العرب بتاريخهم, أو وعيهم بذاتهم نتيجة فقدان الثقة في الذات من ناحية, وتوالي الهزائم عليهم من ناحية أخرى. وتجسدت هذه الحقيقة في تلك الحركات السلفية التي انتشرت في أنحاء الوطن العربي وكانت بمنزلة هروب إلى الماضي الذي كان مجيدًا. وبرزت من طيات هذا الارتباك صورة عاطفية وردية للماضي تجرده من خصائص التجربة الإنسانية التي تتضمن الجوانب السلبية والجوانب الإيجابية في آن معًا. وصار الإنسان العربي موزعًا بين ماض وردي متوهم لا يعود, وحاضر يحمل كل خصائص الانقسام والهزيمة والتراجع. وعلى الرغم من الحديث الكثير عن «النهضة العربية» في العصر الحديث, فإن حقيقة كونها تقليدًا فجًا للغرب, واستعارة لثقافته, جعلت حصاد هذه «النهضة» المزعومة هزيلاً بالقدر الذي نراه منعكسًا في حياتنا الآن. بيد أن الأمر ليس كله سوادًا, ولا يخلو من إيجابيات, إذْ ظهرت تيارات ثقافية نقدية في المحيط العربي الواسع, فقد بدأت - على استحياء - عملية إعادة قراءة لتاريخنا أسهمت فيها الجامعات العربية المتكاثرة في البلاد العربية. وظهرت محاولات جادة لمشروعات نهضوية هنا وهناك لكنها ليست كافية حتى الآن لإعادة الوعي العربي بالذات. أو بالتاريخ. وقد أدت الهزائم المتتالية إلى نوع من إعادة النظر والتأمل من جانب المثقفين العرب, والمؤرخين منهم بصفة خاصة, في تاريخهم. وقد تحول الوعي التاريخي العربي, جزئيًا, من مفهوم «التاريخ العبء» إلى مفهوم «التاريخ الحافز». بيد أن هذا التحول لايزال في أطواره الأولى, ولم يتسرب من الصفوة إلى عامة المثقفين وبالتالي إلى عامة الناس في الوطن العربي. فلاتزال التقسيمات الجزئية على المستوى السياسي تلقي بظلالها على المستوى الثقافي. ولايزال بعض العرب ينظرون بعين الريبة والشك إلى بعض العرب الآخرين. لقد كانت كارثة فلسطين, وما سبقها وواكبها وأعقبها, من الهجوم الثقافي الذي شنته الحركة الصهيونية على العرب وتاريخهم حافزًا على إعادة النظر في التاريخ ومراجعة حقائقه للرد على مزاعم الدعاية الصهيونية, ولكن ذلك ظل أسير الدوائر الأكاديمية لأن البعد الثقافي في الصراع العربي - الصهيوني, لايزال غائبًا حتى الآن. ويحتاج الأمر إلى جهود مؤسسية لنشر الوعي, بالذات وبالتاريخ في الأوساط الشعبية العربية, لاسيما أن الجهد الثقافي المعادي يحاول جاهدًا تكريس الوعي بالذات الجزئية في كل بلد عربي إذ إن هناك إلحاحًا شديدًا على طرح الأسئلة التي تركّز على الهوية الثقافية والحضارية المحلية: فالسؤال يتردد بإلحاح مريب عن عروبة مصر على سبيل المثال. وثمة هجمة ثقافية تحاول أن تحذف من تاريخ مصر ألفًا وأربعمائة سنة, هي التاريخ العربي الإسلامي لمصر, وتقفز فوق هذه الفترة الزمنية التي كانت مصر فيها -ولاتزال - جزءًا عضويًا من الكل العربي الإسلامي. ويتناسى مَن يتبنون هذه الدعوة, عامدين, أن الفتح الإسلامي لمصر في النصف الأول من القرن السابع الميلادي قد أتاح لها أن تستأنف دورها الحضاري في خدمة البشرية. فقد كانت مصر قبل ذلك التاريخ مجرد ولاية رومانية بيزنطية على مدى ما يزيد على سبعة قرون. ولكنها بعد الفتح صارت من مراكز الثقافة العربية الإسلامية, ولم تلبث أن تحوّلت إلى مركز الزعامة في هذه الحضارة, وصارت بمنزلة الحصن الذي دافع عن الأمة ضد أخطار الهجمات الصليبية والمغولية. ولكن الأسئلة المريبة التي تطرح حول عروبة مصر تحاول القفز على حقائق التاريخ لتربطنا برباط بحر متوسطي أوربي يكون وحيدًا وفريدًا. بيد أن دعوة التجزئة والانسلاخ عن الكل العربي لم تكن مقصورة على مصر, وإنما شملت مناطق عدة من العالم العربي, وصار الاهتمام بالتاريخ الجزئي لكل بلد عربي سمة من سمات التشرذم الثقافي الذي كان في حقيقته انعكاسًا لذلك التشرذم السياسي الذي تعانيه الأمة العربية, والذي تجسّد في عجزها الفاضح عن مواجهة ما يراد لها وبها من مخططات في زمن العولمة والقطب الواحد, وإذا كان البعض يرى أن عام 2003م المنصرم كان عام الآلام بالنسبة للعرب, فإن ذلك كان نتاجًا مرّا لعقود طويلة من عدم الإحساس بالذات العربية المشتركة ومصيرها الواحد المتشابك. وليست هذه دعوة عاطفية إلى الوحدة العربية على أسس رومانسية, مثل تلك الدعوة التي انتهت بهزيمة يونيو 1967م. كما أنها - من ناحية أخرى - ليست مرثية للعرب وخروجهم من التاريخ, وإنما هي دعوة إلى إحساس بالذات العربية المشتركة على أساس من التاريخ المشترك والمصير المشترك أيضًا. فقد أثبتت الأحداث المؤلمة أن الوعي الجزئي بالذات وبالتاريخ كان وبالاً على الأمة العربية كلها, كما كان كارثة على كل بلد من البلاد العربية على حدة ذلك أن نشر الوعي بالذات العربية المشتركة يمكن أن يؤدي في النهاية إلى الاعتماد المتبادل بين الشعوب العربية وإلى مزيد من التعاون الاقتصادي المتبادل, والتفاعل الثقافي الذي يؤدي في نهاية الأمر إلى إحساس مشترك بالذات وبالتاريخ من ناحية, وبلورة القدرة العربية من ناحية أخرى. خلاصة القول, إذن, إن الوعي بالذات - أي الوعي بالتاريخ - يمثّل أحد الروافد المهمة التي تصب في نهر القوة العربية, فكل عمل يمارسه الإنسان يولد في الذهن أولاً: الحرب والسلام والتعايش والتعاون, وما إلى ذلك, كلها أمور تولد في أذهان البشر قبل أن تترجم إلى أفعال على الأرض, ومن ثم, فإن هناك أهمية قصوى لتهيئة الأذهان للعمل العربي المشترك, ويمكن تحقيق ذلك عن طريق نشر الوعي بالتاريخ العربي الواحد تمهيدًا لنشر الوعي بالذات العربية الواحدة, وإذا كانت جهود المؤرخين العرب - على اتساع نطاقها - قد قصرت عن تحقيق هذا الهدف حتى الآن, فإن السبب - في ظنّي - راجع إلى أنها جهود فردية في الغالب الأعم, وليس هناك حتى الآن جهد مؤسس في هذا السبيل. وإشاعة الوعي بالتاريخ ليس أمراً مقصورًا على المؤرخين ودراساتهم الأكاديمية على أي حال. وإنما يمكن تحقيقه من خلال الأعمال الدرامية في السينما وفي التلفزيون, ومن خلال المجلات الثقافية العربية التي لايزال أغلبها يصرُّ على أن الثقافة هي الشعر والقصة والرواية فحسب, ومن خلال النشرات الرخيصة للكتب التي يمكن أن تفيد في هذا المجال. نحن حقًا بحاجة إلى «قراءة عربية» لتاريخ العرب...
عدد زيارات الموقع
8,835
ساحة النقاش