authentication required

كتب - عماد سيد - سافرت إلى الصين في زيارة عمل استمرت 5 أيام حضرت خلالها مؤتمر الجمعية الطبية الآسيوية لأمراض الكبد، وكنت قد كتبت عن أهم ما لفت نظري وأثار حزني على مرضانا المصريين بالوباء الكبدي من النوع (سي) وعقار الرايفيرون العجيب الذي تم فرضه عليهم في التأمين الصحي لعلاجهم، رغم أننا الدولة الوحيدة في العالم التي أقرته وتم تسجيله بعد أقل من سنة عقب أبحاث لا يتسع المقام للتعقيب على مدى جديتها الآن

وسأحاول عزيزي القارئ أن أرسم لك الصور التي شاهدتها في ذلك البلد البعيد بقدر ما استطيع من دقة لتعلم أين تقف بلادنا وسط الأمم .

هبطت طائرتنا في مطار بيجين الدولي ولا داعي للحديث عن مساحة المطار فهي ربما تعدل مساحة كافة مطارات مصر مجتمعة، وكان أول ما لفت انتباهي هو تلك الوجوه الصارمة لضباط شباب من الجنسين يتولون إدارة كل شيء في المطار لا يضحكون ولا يتغامزون ولا يضيعون الوقت على وجه الإطلاق فيما لم ألمح الا عدد ضئيل للغاية من القيادات الكبيرة نسبياً في السن تقف بعدياً وتراقب كل شيء بأعين خبيرة.

تذكرت وقتها قيادات بلادنا اليافعة، تلك التي وصلت أعمارها إلى السبعينات والثمانينات وتقلب الواحد منهم في عدة مناصب خدم فيها بالقطع بأقصى قدر من الكفاءة وحقق نجاحات مذهلة أضاعها من جاء بعده، وهؤلاء بالطبع ما زالوا أيضاً في اوج صحتهم لأنهم لا يشربون من مياهنا ولا يأكلونا من مزروعاتنا المروية بمياه المجاري ولا يزالون يعطون من خبراتهم - التي لا تنتهي ولا أعلم من أين حصلوا عليها قبل توليهم تلك المناصب - للجيل الثاني الذي يبدو أنه سيظل في موقعه إلى أن يتوفاه الله دون أن يحمل الراية!!

ولكي تعرف البلاد التي تزورها جيداً، ولكي يتكون لديك رأي غير متحيز فعليك أن تسير على قدميك وأن تتجول وحدك بعيداً عن الأطر الرسمية لزيارات العمل، وقتها ستجد بلداً آخر وتقابل أناس لم تخطط لمقابلتهم وتواجه عدداً من المواقف تؤثر فيك سلباً أو إيجاباً، وهذا ما قمت به بالفعل وقد سجلت بعض الملاحظات أود أن أشرك فيها معي زوار مصراوي الأعزاء:

1- النظافة: لم تعد تدهشني في الواقع مشاهد الشوارع النظيفة والأبنية متناسقة الألوان في أي بلد أقوم بزيارته، ذلك أنه من الطبيعي والمنطقي أن تكون عاصمة أي دولة هي واجهتها الحضارية وهي التي يأخذ منها الزائر انطباعه الأول عن شعبها وثقافته وحضارته ..

الشوارع في غاية النظافة وسلال القمامة موجودة بكثرة على الأرصفة حتى إنك لتخجل من نفسك إن أنت رميت شيئاً على الأرض، وحتى إن حدثت بعض التجاوزات تجد عمال شركات النظافة الوطنية - وليست الإسبانية والإيطالية التي يدفع المواطن مقابل ما تقوم به ضمن فاتورة استهلاك الكهرباء - يتحركون في سرعة لإزالة أي شيء من على الأرض، إلى جانب أن الشوارع تغسل قرب الفجر بالماء بصفة يومية.

وعلى ذكر الماء، فقد تعرضت أنا وأصدقائي في اليوم الأول لزيارتنا للعاصمة الصينية لطقس شديد السوء انهمرت فيه الأمطار مع بعض الثلوج الخفيفة، ولو أننا في ذلك البلد الذي يرفع حزبه "العاكم" شعاري (من أجلك أنت) و (الفكر الجديد والعبور إلى المجهول) وتعرضنا لمثل هذا الطقس لغرقت البلاد في بحر من الأوحال والطين في لحظات، ولتعطل المرور ولتطوع البعض لتسيير الطريق، ولكن في الدول المتحضرة هناك ما يسمى بمجاري تصريف الأمطار والسيول توجد على جانبي الطريق المصمم بطريقة تجعل المياه تندفع إلى الحواف لتسقط في بالوعات خاصة لا يقوم السادة الكناسون هناك بالطبع بإلقاء نتاج عملهم اليومي فيها اختصاراً لوقتهم الثمين وتوفيراً لمجهودهم حتى لا تنسد ويغرق الشارع .. وحدثني عن حال البنية الأساسية في مصرنا الحبيبة!!

2- الثقافة: عندما نتحدث عن الصين فنحن نتحدث عن تاريخ قد يمتد إلى ما يقرب من ستة آلاف عام، فقد بنى الأجداد حضارة هائلة لا مثيل لها اللهم إلا الحضارة الفرعونية ووربما حضارة شعب المايا وبلاد ما بين النهرين .. معابد هائلة ومدن بأكلمها كانت مخصصة منذ آلاف السنين للكهنة للتعبد والتأمل لا تزال قائمة كما هي إلى الآن .. لغة عجيبة منفردة أشك في أن يسمح تركيبها من الأصل أن تدخل إليها أية كلمات من لغات أخرى .. حتى طريقة شرب الشاي الصيني بأنواعه لا يزال الأحفاد يتبعونها إلى اليوم ويعلمونها لزوار بلادهم، وحين قمنا بزيارة سور الصين العظيم، ذلك السور الذي شاهده رواد الفضاء من مركباتهم ويصل طوله إلى ثمانية آلاف كيلومتر، تذكرت مدى اعتزاز هؤلاء القوم بثقافتهم وحضارتهم حين رفضوا وجود فرع لإحدى محلات الوجبات السريعة الأمريكية في تلك المنطقة حرصاً على عدم تشويه الصورة التاريخية للمكان وعلى ألا ينطبع بأي شيء قد يشير إلى سيطرة ثقافة شعب آخر على ثقافتهم .. حدثني بالله عليك عن محلات الوجبات السريعة التي تطل "شامخة" على تمثال ابي الهول والهرم الأكبر !!

3- قيمة العمل: اعترف بأني لم أزر إلا العاصمة بيجين وهي بالقطع ليست صورة معبرة تماماً عن الصين بأسرها ولكنك عند زيارة أي بلد تلحظ بعض الشواهد التي قد تساهم في بناء صورة ذهنية قريبة للغاية من الواقع بإجمال .. من هذه الصور رؤية بعض الشحاذين الذين لا يكاد يخلو منهم مكان في العالم، ولكن ما لاحظته أن هؤلاء الشحاذون من ذوي الأعمار الكبيرة من الرجال والنساء، بمعنى أنهم لا يقوون بالفعل على العمل ولذلك يقومون بالتسول، أما من هم أصغر عمراً فلم أجد منهم شحاذاً واحداً في المناطق التي قمت بزيارتها وحدي خارج برنامج الرحلة، حتى أن الشاب من هؤلاء اذا لم يجد عملاً أحضر بعض الأطعمة وقام بطهيها في أحد الشوارع الجانبية أو حمل بعض الساعات المقلدة والجوارب ووقف يبيعها في الشوارع، وليس كبعض شبابنا الذين ينتظرون فرصة عمل تهبط عليهم من السماء يتلقون مقابلها راتب لا يمكن أن يقل بحال عن ألفي جنيه نظير الاستفادة من خبراتهم الخرافية التي اكتسبوها بسبب التعليم الراقي الذي تلقوه في المدارس والجامعات الحكومية المصرية!

قمت أيضاً بزيارة بعض المحال الشعبية والتي تبيع بضائع بعضها أصلي والبعض الآخر تقليد بصورة جيدة للغاية لماركات عالمية من ملابس وأجهزة كهربية وغيرها، وهي محال متوسطة الحال يجمعها مبنى واحد في كل منطقة ويقصد هذه الأسواق أغلب زوار البلاد نظراً لإمكانية التفاوض مع الباعة حول السعر بعكس المجمعات الأخرى الفاخرة والتي تمتلئ بمحال تعج ببضائع أصلية مستوردة ذات ماركات عالمية والتي لا يمكنك الحديث مع البائع بشأن سعرها .. في كلا النوعين يمكنك أن تدخل إلى المحل أو المعرض وتشاهد ما تشاء من بضائع وتقلب هنا وهناك وإذا لم تشتر شيئاً لا ينقلب وجه البائع ليحمل غضب كل الكائنات الشيطانية وهو ما يحدث بالطبع مع السادة العاملين في محلات بلادنا، وفي هذا السياق أذكر حادث غير طريف وقع لي في أحد فروع محل يسمى (زلط) بوسط القاهرة أود أن أرويه في مقابل موقف آخر حدث لي وآخر لأحد أصدقائي في رحلة الصين

الموقف الذي تعرضت له باختصار كان أني رأيت حذاء جلدياً أعجبني شكله ولم ألتفت كثيراً لسعره لأنه كان مبالغ فيه -أو هكذا اعتقدت- ولما دخلت المحل طلبت الحذاء فجاء لى العامل يحمله وهو يسب ويلعن في داخله كل مخلوق على وجه الأرض وكان يبدو أنه غير راض عن مهنته أو عن حياته أو حياة الآخرين معه على هذا الكوكب .. ولما لبست الحذاء سألت الرجل ألا يمكن التقليل من سعره قليلاً فقد أعجبني وأريد بالفعل شراؤه واعتقد أن السعر مبالغ فيه إلى حد ما .. نظر العامل إلى نظرة أحد السادة المحافظين للمتظاهرين أمام بابه العالي ومد يده إلى ليأخذ الحذاء وهو يقول مصعراً خده : "شكلك بتعرف تقرا .. يبقى دخلت المحل ليه من الأول لما انت مش قادر تدفع فلوس الجزمة!" .. شعرت بالمهانة في واقع الأمر وقلت له إنني لا يشرفني من الأصل أن أتعامل مع محل يهين من يدخل إليه بهذا الشكل وأقسمت بأني لن أدخل هذا المحل ولا أي فرع له في مصر كلها .. ولا زلت عند قسمي منذ خمس سنوات إلى اليوم !! والغريب أني اشتريت الحذاء نفسه من مكان آخر بسعر يقل 30 جنيهاً عن السعر المعروض في المعرض المذكور !

اما الموقف الذي تعرض له صديقي فهو أنه اشترى عدد من البنطلونات من أحد المحلات ويبدو أنه نسي بعد أن قام باختبار مقاس البنطلونات أن يعقد رباط حذائه، فما كان من الفتاة التي تعمل في المحل إلا أن انحت بسرعة محاولة ربط حذاء زميلي الذي انتفض وقال لها: أرجوك لا تفعلي ذلك فهذا لا يصح .. نظرت إليه الفتاة متعجبة وتركته ليقوم بالمهمة دون أن تفهم سبب رفض صديقي .. 
 
أما الموقف الذي حدث لي هناك ولاحظته مع غيري هو أنك يمكنك دخول أي من المحلات التجارية والسؤال عن الأسعار والتقليب في البضائع المعروضة وإذا لم تشتر شيئاً وقررت المغادرة قالت الفتاة أو الفتي في المحل بانجليزيتهم الركيكة المحببة: ألم تعجبك بضاعتنا يا سيدي ؟ نرجو أن تزورنا مرة أخرى فستجد لدينا ما يسرك بكل تأكيد .. ولا تعليق!

والملاحظ أيضاً أن كل من يعمل فن مهنة ما أياً كانت لا يشعر بالدونية أو الاحتقار على وجه الإطلاق ويؤدي عمله بأقصى قدر ممكن من الالتزام والمهارة إن كان غسيل السيارات أو بيع البضائع أو غيرها فالمهم هو أنه يعمل ويكسب لقمة عيشه من عمله حتى وإن كان رزقه قليل فهو يعمل ويعمل بدلاً من أن يمد يده ويثق في أنه طالما يعمل ففي يوم ما سيجني ثمرة جهده

4- الديمقراطية: ليس بخافٍ على أحد من المتابعين للشأن الدولي أن الصين واحدة من الدول التي يحفل سجلها بالعشرات من الانتهاكات لحقوق الإنسان وخاصة المعارضين منهم، وحين زرت ميدان "تيان ان مين" أو "السلام السماوي" أكبر وأشهر ميدان في العالم تذكرت بحزن حقيقي أني أخطو بأقدامي فوق دماء عشرات بل مئات من الشباب من الجنسين سحقتهم دبابات ومدافع الحزب الشيوعي الحاكم في عام 1989 حين خرجوا في مظاهرات مطالبين بالديمقراطية وأُعدم المئات وغُيب مئات آخرون في ظلمات السجون إلى اليوم باعتبارهم أعداء للثورة .. وتذكرت أيضاً ما يحدث للنساء والرجال على حد سواء في بلادنا إن هم تجرأوا وحاولوا رفع رؤوسهم التي تمرغت في الوحل طيلة عقود والتهديد باغتصاب الأمهات والزوجات ما لم يرجع هؤلاء المخربون والمشوهون لإنجازات الحزب الحاكم عن أفعالهم المدعومة من قوى خارجية لا تريد إلا خراب مصر .. وخراب مصر بالطبع متمثل لدى القائمين على السلطة بزوال الحزب الحاكم .. إذ كيف يمكن للمواطن المصري أن يستسيغ الحياة دون أن يرى في كل يوم نفس الأوجه والشخصيات التي درج على رويتها منذ عقود إلى اليوم !! ومن الذي سيقود مسيرة التنمية؟ ومن الذي سيحفظ الاستقرار ؟ إلى آخره من تلك الترهات
 
أيضاً مما لاحظته عدم وجود أطباق التقاط البث الفضائي على أسطح البنايات السكنية أو في شرفات المنازل، ولما سألت شاباً صينياً رافقنا في زيارتنا لسور الصين عن ذلك أجاب بأن امتلاك هذه الأطباق ممنوع على وجه الإطلاق، كما أني فوجت بأن فيس بوك و تويتر و ويكيبيديا وغيرها من المواقع محجوبة داخل الصين، هذا إلى جانب أزمة جوجل العنيفة مع  السلطات الصينية

واذا ما نظرنا للأمر من زاوية أخرى سنجد أن القيادة الصينية على ما تمارسه من قمع للمعارضة إلا أنها تتحرك بخطى ثابتة في كل المجالات بدأتها بالمجال الاقتصادي قبل نحو ثلاثين عاماً (كنا نحن والهند وكوريا والصين تقريباً قد بدأنا نهضتنا في توقيت متقارب) أتبعتها بالمجال الرياضى حيث تحتكر الصين في الغالب الميداليات الذهبية في الدورات الأوليمبية على سبيل المثال، إلى المجال العسكري حيث يعتبر الجيش الصيني أحد أقوى الجيوش عدداً وعدة على وجه الأرض، كما أن الصين واحدة من الدول التي لها حق النقض في مجلس الأمن ولها مواقف قوية وصلبة في وجه العالم الغربي .. خلاصة القول أن البعض ممن لا يهمهم أمر الحريات والديمقراطية يرى أن هذا النجاح يعوض ذاك الإخفاق فتتوازن الكفة، فما بالك بدول لم تنجح لا في هذا ولا في ذاك ؟

هؤلاء قوم لو عاد أجدادهم لامتلئوا سعادة وفخراً بحفاظ أحفادهم على ما تركوه لهم من ثقافة وحضارة وتراث، زاد عليه الأحفاد بما أنجزوه انطلاقاً مما حققه الأجداد .. فقل لي عزيزي القارئ ماذا فعلنا بحضاراتنا المختلفة؟ وكيف سيكون شعور أجدادنا لو عادوا إلى الحياة مرة أخرى ورأوا ما نحن فيه؟ اترك لكم الإجابة

اقرأ أيضا:

ماذا اتمنى من الدكتور محمد البرادعي؟

abualazm

لا إله إلا الله محمد رسول الله

  • Currently 56/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
18 تصويتات / 226 مشاهدة
نشرت فى 2 مايو 2010 بواسطة abualazm

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

29,586