إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
أما بعد:
فلا ريب أن زكاة الفطر من العبادات المعروفة لكل مسلم، والأصل في العبادات التوقيف، ولكن شاع في هذه الأيام بين المسلمين في معظم الأقطار الإسلامية إخراج زكاة الفطرقيمة نقداً، خلاف ما عليه جمهور أهل العلم، وذلك بناء على فتاوى تصدر عن الجهات الرسمية المختصة في تلك الأقطار، مع تحديد لقيمة زكاة الفطر نقداً بما يقابلها من العملات المحلية كالدينار والجنيه والريال... الخ، مما يُحدث جدلاً بين كثير من طلاب العلم، في بعض الأقطار الإسلامية، وبخاصة في أواخر شهر رمضان المبارك من كل عام، على الرغم من أن الأحاديث النبوية صريحة في هذا الأمر بإخراج زكاة الفطر عيناً، كما جاء في الأحاديث الصحيحة المتفق عليها والمروية عن ابن عمر رضي الله عنهما وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وبناء على ما تقدم رأيت الكتابة في موضوع حكم إخراج زكاة الفطر قيمةً نقداً.
· أهمية الموضوع:
نظراً لإخراج كثير من الناس زكاة الفطر نقداً من دون حاجة ماسة أو ضرورة شرعية ملحة كانت الحاجة لبيان حكم إخراج زكاة الفطرقيمة نقداً، حيث إن الأصل إخراج زكاة الفطر عيناً من غالب قوت أهل البلد .
· منهج البحث وآليته:
سيكون البحث وصفياً، استقرائياً، وذلك باستعراض أقوال الفقهاء في المذاهب المختلفة والرد على الآراء المطروحة في هذه المسألة، من الأدلة الشرعية، وبيان الراجح منها، وما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم.
وسيناقش البحث بمشيئة الله تعالى في عدة مطالب:
· المطلب الأول: مفهوم القيمة في زكاة الفطر.
· المطلب الثاني: حكم زكاة الفطـر .
· المطلب الثالث: الحكمة في كل من فريضة زكاة الفطر ومقدارها .
· المطلب الرابع: مذاهب الفقهاء في إخراج زكاة الفطر قيمة نقداً.
· الخاتمة .
المطلب الأول: مفهوم القيمة في زكاة الفطر
حتى نستطيع تحديد مفهوم القيمة في زكاة الفطر موضوع البحث يجب أن نعرف: ما معنى زكاة الفطر؟ وما مفهوم القيمة؟ وبماذا تقوم السلع؟.
· أولاً: زكاة الفطر:
الزكاة لغة: بمعنى البركة والنماء والطهارة والصلاح وصفوة الشيء[1]. قال تعالى: { قد أفلح من تزكى}[2] أي تطهر، وإنما سمي الواجب زكاة لأنها تطهر صاحبها من الآثام[3]، قال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}[4].
الزكاة شرعاً: للزكاة تعريفات متعددة منها ما جاء في المغني: الزكاة حق يجب في المال[5]، وفي المجموع، الزكاة: اسم لأخذ شيء مخصوص من مال مخصوص على أوصاف مخصوصة لطائفة مخصوصة[6]. وفي نهاية المحتاج، الزكاة: اسم لما يُخرَج عن مال أو بدن على وجه مخصوص[7]، وجاء في جواهر الإكليل، الزكاة: إخراج جزء مخصوص من مال مخصوص بلغ نصاباً لمستحقه إن تم الملك وحال الحول [8].
ومن التعريفات المعاصرة ما جاء في كتاب الملكية في الشريعة الإسلامية، الزكاة: قدر معين من المال يدفعه المسلم، انصياعاً لأمر الله تعالى، بشروط معينة، لينفق في مصارفه المقررة شرعاً [9].
الفطر: اسم مصدر من أفطر الصائم إفطاراً، ويراد بزكاة الفطر: الصدقة عن البدن والنفس، وإضافة الزكاة إلى الفطر من إضافة الشيء إلى سببه[10]4 واختلف في سبب إضافة الزكاة للفطر فقيل من الفطرة، وهي الخلقة لتعلقها بالأبدان وقيل لوجوبها بالفطر[11].
والفطر لفظ إسلامي[12] ويسمى أول يوم من شوال بيوم الفطر تسمية إسلامية، والفطرة مولدة[13] وهي الجبلة التي جبل الناس عليها[14] تزكية لها وتنمية لعملها[15].
وأصل الفطر: الشق يقال، فطر ناب البعير، إذا انشق وطلع، فكأن الصائم يشق صومه[16] يوم الفطر، لذا سميت صدقة الفطر، أو زكاة رمضان، أو زكاة الصوم، أو صدقة الرؤوس، أو زكاة الأبدان[17].
زكاة الفطر شرعاً:
ذكرت كثير من كتب الفقه أن زكاة الفطر: هى زكاة البدن والنفس[18]، وقد عرفها أصحاب معجم الفقهاء: إنفاق مقدار معلوم عن كل فرد مسلم يعيله قبل صلاة عيد الفطر في مصارف مخصوصة[19].
ومن التعريفات السابقة للزكاة شرعاً، وما تعنيه زكاة الفطر في كتب الفقه وفي معجم الفقهاء، يمكن القول: إن زكاة الفطر، هي إنفاق مال، محدد شرعاً، يخرجه المسلم عن نفسه وبدنه، ومن يعول، بسبب الفطر، بعد إتمام الصيام، على وجهٍ مخصوصٍ .
· ثانياً: القيمـة:
القيمة لغة : قيمة الشيء ثمنه الذي يعادل المتاع[20] ويقال، قوَّم السلعة تقويماً: سعرها وثمنها.
القيمة عند الفقهاء: عرف الفقهاء القيمة عدة تعريفات من ذلك: تعريف ابن حزم: القيمة ما يبتاع بها التجار السلع لا يتجاوزونها إلا لعلة[21]، وعند ابن حجر: قيمة الشيء ما تنتهي إليه الرغبة[22]، وقال العدوي: القيمة، الثمن الذي يشتري به الناس[23]، وقال ابن عابدين: القيمة ما قوم به الشيء بمنـزلة المعيار من غير زيادة ولا نقصان[24] . وجاء في مجلة الأحكام العدلية: القيمة الثمن الحقيقي للشيء وكذلك ثمن المثل[25] .
القيمة في الاقتصاد: تدل هذه الكلمة في الاقتصاد على القيمة التبادلية Value in exchange وهي الكمية من سلعة أخرى التي يجري تبادلها مقابل سلعة معينة، ونظراً لعدم إمكانية تبعيض كثير من السلع اهتدى الإنسان إلى اختيار سلعة ما لقياس القيم النسبية للسلع الأخرى، وتسمى هذه السلعة النقود، وبذلك تكون القيمة التبادلية لأي سلعة هي سعرها الذي يقوم عليه الثمن، وكانت في بادئ الأمر من الذهب أو الفضة، وبعد التطور الاقتصادي الهائل الذي شهده العالم جاءت النقود الورقية لتحل محل الذهب والفضة .
ولكي تكون للسلعة قيمة تبادلية لابد أن تكون سلعة اقتصادية كالقمح والبترول، أي سلعة لها صفة المنفعة economic good[26] وتقوّم قيمة السلعة بسعرها في السوق نقداً.
· ثالثاً: السـعر:
كمية النقود الوحدات النقدية التي يدفعها الإنسان مقابل شراء أو بيع أي شيء، والسعر إقرار بالقيمة النقدية لوحدة من سلعة معينة أو خدمة[27] والوحدة النقدية لأي دولة هي وحدة تقاس بها قيمة السلع والخدمات في المجتمع[28].
وبعد ذكر التعريفات المختلفة للقيمة، نقول: إن القيمة المقصودة في البحث هي القيمة التبادلية، أي سعرها في السوق.
وبناء على ما سبق ذكره، يمكن القول: إن القيمة في صدقة الفطر زكاة الفطر مقدار ما يدفع من وحدات نقدية أو ما يقوم مقامها مقابل الكمية المحددة شرعاً من المواد العينية التي حددها الشارع، أو من غالب قوت أهل البلد، صدقة فطر عن المسلم الذي يملك قوته وقوت عياله يوم وليلة العيد.
والسؤال الذي يمكن طرحه، ما حكم زكاة الفطر بصورة عامة؟
المطلب الثاني: حكم زكاة الفطر
الذي عليه جمهور أهل العلم وجماعة فقهاء الأمصار أنها واجبة فرضاً، أوجبها رسول الله صلى الله عليه وسلم[29]، لما رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين أمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة[30] وإنها فريضة[31] لقوله صلى الله عليه وسلم فرض، بمعنى ألزم وأوجب، لأن معنى فرض رسول الله عند أكثر أهل العلم أوجب[32]، ودعوى أن فَرض بمعنى قدّر، مردود، بأن كلام الراوي ـ لاسيما الفقيه ـ محمول على الموضوعات الشرعية[33]، وما أوجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأمر الله أوجبه، وما كان ينطق عن الهوى، فأجمعوا عل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر، وقالت فرقة هي منسوخة بالزكاة، وقال جمهور من أهل العلم من التابعين ومن بعدهم، هي فرض واجب على حسب ما فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعض أهل العلم منهم: مالك بن أنس، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وأبو ثور، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه لم ينسخها شيء. قال إسحاق: هو الإجماع[34].
وقد رأى أبو العالية وعطاء وابن سيرين صدقة الفطر فريضة[35]، والأصل في وجوبها قبل الإجماع، قول ابن عمر: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم[36]، والقول بوجوبها من جهة اتباع المؤمنين لأنهم الأكثر، والجمهور الذين هم حجة على من شذ عنهم، ووجوبها مجمع عليه ولا التفات لمن غلط فقال بعدمه[37].
وجاء في الاستذكار لابن عبد البر، إن بعض المتأخرين من أصحاب مالك وداود، قالوا: إنها سنة مؤكدة[38]، وقال أبو حنيفة: إنها واجبة، وليست بفريضة بناء على مذهبه في التفريق بين الفرض والواجب، حيث إن الفرض ما ثبت بدليل قطعي والـواجب ما ثبت بدليل ظني[39]، وهذا بخلاف الفرض عند الجمهور، حيث يشمل الفرض والواجب عند أبي حنيفة، وبهذا لا خلاف في الحكم، وإنما اختلاف في الاصطلاح.
ويمكن القول: إن زكاة الفطر واجبة وجوب فرض، لقول ابن عمر السابق، ولإجماع العلماء على أنها فرض، لأن الفرض إن كان واجباً فهي واجبة، وإن كان الواجب المتأكد فهي متأكدة، مجمع عليها[40]، والمشهور إنها فرضت ـ وجبت ـ في السنة الثانية من الهجرة عام فرض الصوم[41] فهي واجبة على كل مسلم فضل عن قوته وقوت من تلزمه مؤنته وحوائجه الأصلية يوم العيد وليلته، صاع ولا يمنعها إلا يُطلبه[42]، أي أن يكون مطالباً بالدين فعليه قضاء الدين ولا زكاة عليه[43].
المطلب الثالث:
الحكمة في كل من فريضة زكاة الفطر ومقدارها
إن المتتبع للحكمة في فريضة زكاة الفطر يجدها تتعلق بالصائم وبالآخذ لها فهي طهرة للصائم من اللغو والرفث، للغني والفقير
[44] على حد سواء فهي مثل سجود السهو في الصلاة تجبر النقصان في الصيام بما يخدشه من أمور الدنيا[45]، أما الغني فيزكيه الله وأما الفقير فيرد الله عليه أكثر مما أعطى، ففيها بركة للمنفق والآخذ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصيام من اللغو والرفث وطعمه للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات[46].
كما أن في فريضة الزكاة إغناء للفقراء يوم العيد، جاء ببلغة السالك وحكمة مشروعيتها ـ أي زكاة الفطر ـ الرفق بالفقراء في إغنائهم عن السؤال ذلك اليوم [47].
والدليل على أن المقصود من زكاة الفطر إغناء الفقير يوم العيد أن أفضل وقت لإخراجها قبل خروج الناس إلى الصلاة حيث كان هديه صلى الله عليه وسلم إخراج هذه الصدقة قبل صلاة العيد[48]، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة، قال: وكان ابن عمر يعطيها الذين يقبلونها، وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين[49] وهكذا كان الأمر بإخراج زكاة الفطر في وقت لصيق بعيد الفطر حتى يحصل الغنى، ويكون لدى الفقير ما يكفيه ويغنيه في يوم العيد، وبذلك يدخل السرور على الفقراء والمساكين، ويشعرهم باهتمام المجتمع بهم مما يؤدي إلى الألفة والمحبة بين أفراد الأمة.
قال القفال: والحكمة في إيجاب الصاع ـ أي مقدار زكاة الفطر ـ أن الناس غالباً يمتنعون عن التكسب في يوم العيد وثلاثة أيام بعده، ولا يجد الفقير من يستعمله فيها لأنها أيام سرور وراحة عقب الصوم، والذي يتحصل من الصاع عند جعله خبزاً … هو كفاية الفقير في أربعة أيام [50]، كما أن مقدار زكاة الفطر مقدار قليل وإخراجه مما يسهل على الناس من غالب قوتهم حتى يشترك أكبر عدد ممكن من أفراد الأمة في تأدية هذه الفريضة التي تعتبر كالإسعاف العاجل في مثل هذه المناسبة الكريمة.
وفرض الشارع الطعام ذلك أن الزكاة المالية تتعلق بالمال فأمر الله المزكي أن يواسي المستحقين بما أعطاه الله تعالى، والفطرة زكاة البدن فوقع النظر فيها إلى ما هو غذاء البدن وبه قوامه[51] وهو الطعام من غالب قوت أهل البلد، وهو من أهم ما يحتاجه الفقير. وبناء على ذلك هل يجوز إخراج قيمة الطعام المفروض بدلاً من عينه زكاة فطر؟ أو ما حكم إخراج زكاة الفطر قيمة ؟ هذا ما سنعرض له فيما يلي حسب مذاهب الفقهاء في ذلك .
المطلب الرابع:
مذاهب الفقهاء في إخراج زكاة الفطر قيمةً
اختلف الفقهاء في جواز إخراج زكاة الفطر قيمة تبعاً لاختلافهم في جواز إخراج القيمة في زكاة المال بصورة عامة، ومن خلال دراسة آراء الفقهاء في زكاة الفطر وما يتصل بها، يمكن حصر مذاهب الفقهاء في إخراج زكاة الفطر قيمة نقداً في مذهبين رئيسين:
المذهب الأول: جواز إخراج القيمة مطلقاً
كما قال بذلك الإمام أبو حنيفة النعمان وسفيان الثوري وعمر بن عبد العزيز والحسن البصري، وأبو يوسف واختاره من الحنفية الفقيه أبو جعفر الطحاوي وعليه العمل عند الأحناف في كل زكاة وبه قال إسحاق بن راهويه، وأبو ثور ـ عند الضرورة والمقصود بالضرورة الحاجة أو المصلحة الراجحة ـ وغيرهم[52].
وفيما يأتي بعض النقول عن بعض الفقهاء في هذه المسألة:
فقد جاء في موسوعة فقه سفيان الثوري: لا يشترط إخراج التمر أو الشعير أو البر في زكاة الفطر بل لو أخرج قيمتها مما هو أنفع للفقير جاز لأن المقصد منها إغناء الفقراء عن المسألة وسد حاجتهم في هذا اليوم[53].
وجاء في مصنف ابن أبي شيبه عن قرة قال جاءنا كتاب عمر بن عبد العزيز في صدقة الفطر نصف صاع عن كل إنسان، أو قيمته نصف درهم، وعن الحسن قال: لا بأس أن نعطي الدراهم في صدقة الفطر، وأبو إسحاق قال: أدركتهم وهم يعطون في صدقة رمضان الدراهم بقيمة الطعام [54] .
وجاء في كتاب المبسوط: فإن أعطى قيمة الحنطة جاز عندنا، لأن المعتبر حصول الغني وذلك يحصل بالقيمة كما يحصل بالحنطة، وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله تعالى يقول: أداء القيمة أفضل، لأنه أقرب إلى منفعة الفقير، فإنه يشتري به ما يحتاج إليه، والتنصيص على الحنطة والشعير كان لأن البياعات في ذلك الوقت بالمدينة يكون بها، فأما في ديارنا البياعات تجري بالنقود، وهي أعز الأموال، فالأداء بها أفضل [55].
و جاء في بدائع الصنائع: وأما صفة الواجب أن وجوب المنصوص عليه من حيث إنه مال متقوم على الإطلاق، لا من حيث إنه عين، فيجوز أن يعطى عن جميع ذلك القيمة دراهم أو دنانير أو فلوساً أو عروضاً أو ما شاء وهذا عندنا أي الأحناف أن الواجب في الحقيقة إغناء الفقير، لقوله صلى الله عليه وسلم: أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم، والإغناء يحصل بالقيمة بل أتم وأوفر لأنها إلى دفع الحاجة، وبه تبين أن النص معلول بالإغناء وأنه ليس في تجويز القيمة يعتبر حكم النص في الحقيقة [56].
وجاء في الهداية شرح بداية المبتدئ: والدقيق أولى من البر والدراهم أولى من الدقيق فيما يروى عن أبي يوسف[57]وجاء مثله في تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: والدراهم أولى من الدقيق لأنها أدفع لحاجة الفقير وأعجل به يروى ذلك عن أبي يوسف واختاره الفقيه أبو جعفر [58].
وجاء في حاشية مراقي الفلاح: ويجوز دفع القيمة وهي أفضل عند وجدان ما يحتاجه لأنها أسرع لقضاء حاجة الفقير، وإن كان زمن شدة فالحنطة والشعير وما يؤكل أفضل من الدراهم[59] .
من النصوص السابقة يتبين جواز إخراج القيمة في زكاة الفطر حسب رأي من قال بجواز إخراج زكاة الفطر قيمة، وكما هو واضح من النصوص، احتج كثير منهم بأن ذلك أنفع للفقراء، وأدفع لحاجتهم، ويتم به إغناؤهم .
والأحناف الذين هم يتزعمون هذا المذهب على الرغم من قولهم بجواز أداء القيمة بدل العين في زكاة الفطر، إلا أنه يجب التنويه إلى ما يلي:
1 أنهم فضلوا أداء الحنطة والشعير وما يؤكل في زكاة الفطر عن الدراهم وقت الشدة ويظهر ذلك فيما ذكر في مراقي الفلاح .
2 لا يجوز أداء المنصوص عليه بعضه عن بعض باعتبار القيمة سواء كان الذي أدى عنه من جنسه أو من خلاف جنسه بعد أن كان منصوصاً عليه، كمن يؤدي نصف صاع حنطة جيدة عن صاع من حنطة وسط، أو نصف صاع من تمر تبلغ قيمته نصف صاع من الحنطة عن الحنطة، لأن القيمة لا تعتبر في المنصوص عليه، وإنما تعتبر في غيره. وأما في خلاف الجنس، فوجه التخريج أن الواجب في ذمته في صدقة الفطر عند هجوم وقت الوجوب أحد شيئين إما عين المنصوص عليه وإما القيمة، ومن عليه الواجب بالخيار إن شاء أخرج العين، وإن شاء أخرج القيمة[60] .
وفي رواية عن أحمد تجزئ القيمة مطلقاً، وعنه تجزئ في غير الفطر[61] والواقع أن ذلك في غير الفطرة، كما يظهر في النص التالي من فتاوى ابن تيمية رحمه الله عن إخراج القيمة في الزكاة: والأظهر في هذا أن إخراج القيمة لغير حاجة، ولا مصلحة راجحة ممنوع منه، ولهذا قدر النبي صلى الله عليه وسلم الجبران بشاتين أو عشرين درهماً، ولم يعدل إلى القيمة، ولأنه متى جوز إخراج القيمة مطلقاً، فقد يعدل المالك إلى أنواع رديئة، وقد يقع في التقويم ضرر، ولأن الزكاة مبناها على المواساة وهذا معتبر في مقدار المال وجنسه وأما إخراج القيمة للحاجة أو المصلحة أو العدل فلا بأس به، مثل أن يبيع ثمر بستانه، أو زرعه بدراهم فهنا إخراج عشر الدراهم يجزيه ولا يكلف أن يشتري تمراً، أو حنطة إذا كان قد ساوى الفقراء بنفسه، وقد نص أحمد على جواز ذلك[62]والواقع أن ذلك في زكاة المال وليس في زكاة الفطر الأمر الذي قاس بعضهم زكاة الفطر على زكاة المال وجوزوا إخراجها قيمة، مما جعل بعضهم يعتمد على حالات في زكاة المال ليجوز إخراج زكاة الفطر قيمة، فلا حاجة للقول بإطلاق جواز إخراج القيمة، إلا إذاكانت هناك مشقة واضحة أو تعذر إخراج العين في زكاة الفطر، حيث إن المشقة تجلب التيسير، إذا كان هناك ضرورة وحاجة دون المصلحة الكمالية[63].
وممن قال بجواز إخراج القيمة وفقاً للظروف وتغير المكان شيخ الأزهر الأسبق محمود شلتوت حيث قال: وتكفي قيمة الحبوب من النقود وربما كانت القيمة النقدية أرفق للصائم، وأنفع للفقير، ونظراً لتنوع حاجة الفقير وهو أدرى بها من غيره، وقد لا يتيسر له الاستبدال، فكانت القيمة أدخل في قضاء الحاجة، والذي استحسنه وأختاره لنفسي، أني إذا كنت في المدينة أخرجت القيمة، وإذا كنت في القرية بعثت بالتمر والزبيب والبر والأرز ونحوها هدية المسلم لأخيه في شهر التكريم وعيد السرور [64].
وخلص عبود بن علي بن درع محاضر بفرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ـ أبها: إلى أن إخراج القيمة في زكاة الفطر للحاجة والمصلحة أمر جائز إذا كانت القيمة بالنقود دراهم ودنانير والمدفوعة إليهم سكنوا المدن فإن إعطاءهم نقوداً عوضاً عن حنطة أو شعير هو الأنفع لهم ويمكنهم من سد حاجتهم بهذه النقود بسهولة ويسر إذ يستطيعون أن يشتروا بها ما يحتاجون من قوت وغيره. أما بغير حاجة ولا مصلحة راجحة، بل المصلحة في إعطائهم من الأصناف الواردة في الحديث الشريف فلا يجوز الدفع بالقيمة كما لو كان أداء زكاة الفطر في البوادي والقرى النائية حيث الانتفاع وسد الحاجة بالأقوات أيسر من الانتفاع بالنقود وهو اختيار ابن تيمية وغيره [65] .
وقال محمد الشريف عميد كلية الشريعة بجامعة الكويت في بحث له: تخرج زكاة الفطر من غالب قوت البلد سواء أكان حباً أم غير ذلك من المطعومات، كاللحم ونحوه، ولا يخرجها من المعيب والمسوس ونحوهما ويجوز إخراجها نقداً، إذا كان في ذلك مصلحة الفقير، أو كان أيسر على المخرج، أو رأى الإمام أو الساعي مصلحة في ذلك [66]. وكل الأقوال السابقة تدور حول منفعة الفقير.
أدلة الذين أجازوا إخراج زكاة الفطر قيمة:
والذين أجازوا إخراج القيمة بدلاً من العين من الحنفية ومن وافقهم من الفقهاء استدلوا بما يلي:
1) إن الأصل في الصدقة المال، قال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة}[67]، فالمال هو الأصل، وبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم المنصوص عليه إنما هو للتيسير ورفع الحرج، لا للتقييد الواجب، وحصر المقصود فيه، لأن أهل البادية وأرباب المواشي تعزّ فيهم النقود، وهم أكثر من تجب عليه الزكاة، فكان الإخراج مما عندهم أيسر عليهم، ألا ترى أنه قال في خمس من الإبل شاة وكلمة شاة للظرف وعين الشاة لا توجد في الإبل، فعرفنا أن المراد قدرها من المال[68]، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة ناقة كوماء فغضب على المصدق، وقال: ألم أنهكم عن أخذ كرائم أموال الناس فقال الساعي: أخذتها ببعيرين من إبل الصدقة، وفي رواية ارتجعتما ببعيرين، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخْذ البعير ببعيرين إنما باعتبار القيمة[69].
2) إن وجوب المنصوص عليه من حيث إنه مال متقوّم على الإطلاق لا من حيث إنه عين فيجوز أن يعطى عن جميع ذلك القيمة دراهم أو دنانير أو فلوساً أو عروضاً أو ما شاء[70] .
3) إذا ثبت جواز أخذ القيمة في الزكاة المفروضة في الأعيان، فجوازها في الرقاب أولى وهي صدقة الفطر[71].
4) يجوز عندهم أن يعطى عن جميع ما ذكر في حديث ابن عمر رضي الله عنهما القيمة دراهم أو دنانير لأن الواجب إغناء الفقير، وإدخال السرور على نفسه، لقوله صلى الله عليه وسلم: أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم. والإغناء يحصل بالقيمة بل أتم وأوفر وأيسر، لأنها أقرب إلى دفع الحاجة تبين أن النص معلول بالإغناء[72]، إذ أن كثرة الطعام تحوجه إلى بيعه بأقل الأثمان للجصول على المال، والقيمة تمكنه من شراء ما يلزمه من الأطعمة والملابس وسائر الحاجات[73].
5 اعتمد المجوّزون أخذ القيمة في زكاة الفطر على حديث أبي سعيد الذي ذكر فيه: … حتى كان معاوية فرأى أن مدّين من برّ تعدل صاعاً من تمر [74]. وفي رواية: فلما جاء معاوية وجاءت السمراء قال: أرى مدّاً من هذا يعدل مدّين [75].
6 أمر النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً حين خرج إلي اليمن بالتيسير على الناس فكان معاذ يأخذ الثياب مكان الذرة، لأنه أهون عليهم، فقد روي عن طاووس أن معاذ رضي الله عنه قال لأهل اليمن ائتوني بعرض ثياب أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة، أهون عليكم وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، ولا يكون ذلك إلا باعتبار القيمة، أي جواز أخذ العرض، والمراد به ما عدا النقدين، قال ابن الرشيد: وقد وافق البخاري في هذه المسألة الحنفية مع كثرة مخالفته لهم[76]. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأخذ العروض في الصدقة من الدراهم[77].وفي إخراج الشاة عن خمس من الإبل دليل على أن المراد قدرها من المال.
7 إن أداء القيمة أهون على الناس وأيسر في الحساب، وهذا يتفق ومصالح الشريعة، كما أنه أيسر بالنظر إلى المناطق الصناعية التي لا يتعامل فيها إلا بالنقود وهو الأنفع للفقراء[78].
8 إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما فرض زكاة الفطر من الأطعمة، إما لندرة النقود عند العرب وإما أن قيمة النقود تختلف وتتغير قوتها الشرائية من عصر إلى عصر بخلاف الصاع والطعام، فكان أيسر علىالناس إعطاء الطعام[79].
وبعد استعراض الأدلة السابقة من النقل والعقل والنظر يمكن الرد على المجوزين إخراج زكاة الفطر قيمة بما يلي:
الردود على من قال بإخراج زكاة الفطر قيمة:
1) المراد بزكاة الفطر الأعيان لا قيمتها، والواقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما فرض زكاة الفطر صاعاً ذكر أشياء مختلفة القيم فدل أن المراد الأعيان لا قيمتها[80]. وهذا ما يفهم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه حيث قال: كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر عن كل صغير وكبير حر أو مملوك صاعاً من طعام، أو صاعاً من إقط أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من زبيب، فلم نزل نخرجه حتى قدم معاوية حاجاً، أو معتمراً فكلم الناس على المنبر، فكان فيما كلم به الناس أن قال: إني أرى أن مدين من سمراء الشام تعدل صاعاً من تمر، فأخذ الناس بذلك، فقال أبو سعيد: فأما أنا فلا أزال أخرجه أبداً ما عشت[81].
وهذا الحديث يحدد المقدار ولم يحدد القيمة مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن الدنيا ستقبل على المسلمين فلا يعجزه أن يحدد زكاة الفطر بمقدار من الدراهم أو الدنانير، ربما كان ذلك لحكمة أرادها وهي أن قيمة النقود ليست ثابتة لما يعتريها ما يسمى بالتضخم مما يقلل من قيمتها الحقيقية، فجعلت الزكاة من أعيان الاقتيات لأنها كميات لا تتأثر بالأسعار انخفاضا وارتفاعاً، فالحاجة إليها بغض النظر عن قيمتها النقدية، وأما رأي معاوية رضي الله عنه فهو رأي شخصي له ولم يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدل على غلاء البر في ذلك الوقت، ف
ساحة النقاش