لطبيعة عملي كمدربة أطفال يرد عليّ كل يوم أطفال مختلفو الأعمار والشخصيات، أري منهم الهاديء والثرثار، المتعاون والأناني، الناضج (بالنسبة لسنه) وصغير العقل، ...الخ.

ومنذ أيام قلائل، التقيت بطفل في الصف السادس الابتدائي خفيف الظل، اجتماعي ولكنه كثير الكلام وبدون إذن مما يتسبب في تضييع الوقت وتشتيت المجموعة. والحمد لله الذي وفقني أن أتعامل معه بأسلوب سليم، فلم أنهره أو أطلب منه الجلوس صامتاً هادئاً فحسب، بل أعطيته بعض الأدوار التي تتيح له الفرصة للكلام بما يخدم اللعبة... ولكني عندما وجدته مستمراً في الحركة والكلام الكثيرين، قلت له أنني أري فيه شخصية قيادية خفيفة الظل، ونريد أن نوظف هذه الإمكانيات بما يخدم اللعبة لا بما يعطلها. وقد استجاب الولد، وسعدتُّ أنا بذلك جداً.

هموم الصغار

وفي الفسحة جاءني هذا الولد، وكنت أتحدث مع بعض الأطفال الآخرين، فجلس بجواري واشترك معنا في الحديث، ثم أخبرني أن لديه مشكلة وأنه يريد أن يحكيها لي. فقمت معه وجلسنا في مكان آخر حتي يتحدث علي راحته.

ماذا كانت المشكلة؟ هذا الولد يعيش مع أبيه وزوجة أبيه بعد طلاق أبويه منذ سنوات طويلة جداً. وله شقيقتان إحداهما تعيش معه والأخري تعيش مع أمه، وله أخت من الأب تعيش معه أيضاً. وكانت المسألة التي يستشيرني فيها هي أنه سمع زوجة أبيه تسب أباه، وقد سمعها الولد ولكنه كان يدعي أنه نائم. ويسألني هل يخبر أباه بذلك. فنصحته بألا يفعل لأن ذلك يسمي نميمة، ولأنها ستعرف أنه هو الذي نقل الكلام فتؤذيه، ولأن ذلك سيؤدي إلي قيام شجار في البيت ربما ينتهي إلي طلاق أبيه من زوجته، فأخبرني أنه بالفعل يتمني طلاقهما. فأكدت علي السببين الآخرين وهي أن الله لا يرضي عن ذلك لأنه نميمة ولأنه سوف يعرض نفسه للأذي.

استطرد الولد يحكي عن معاناته من سوء معاملة زوجة الأب، وقيامها بضربه، وهو يخاف أن يخبر أباه حتي لا تضربه ثانية، لأن الأب خارج المنزل معظم الوقت. سألته عن أمه فقال أنه لا يراها إلا كل سنة، تقريباً لا يراها إلا في أجازة الصيف وأنه يكون سعيداً جداً عندما يذهب إليها. أبديت له تعاطفي (وهو تعاطف حقيقي طبعاً) ونصحته بأن يكون قويا، فلا يدع هذه المشاكل تؤثر عليه بل يتخذها تحدياً فيصر علي النجاح.. وأن يكون له أهداف، وأن يجتهد في مذاكرته ويتفوق... وأن يحسن معاملة أبيه، ويدعو له ولأمه، وأن يتحمل زوجة أبيه. وأول ما نصحته به أن يدعو الله وأن يلجأ إليه دائماً.

لم يستغرق هذا الحوار إلا حوالي 10 دقائق، وكان لابد أن أنهيه لأن وقت الفسحة كان قد انتهي وكان علينا أن نستأنف الورشة. فلم يكن هناك وقت لأتحدث معه أكثر ولم يخطر ببالي وقتها أكثر مما قلته له. ولكني الآن أريد أن أضيف إلي نصيحتي له أن يحرص علي كسب حب إخوته خاصة أخته من أبيه لأنها أكبر منه، ولعلها تستطيع حمايته من أمها. أريد أيضاً أن أضرب له أمثلة بشخصيات نجحت رغم ما واجهها من معوقات ليجد فيها القدوة. عدنا بعد ذلك لنستكمل باقي برنامج اليوم، وطبعا كان حريصاً علي إرضائي ومساعدتي.

وبعد أن انتهي اليوم وحان موعد انصرافه من المكان ظل يلوح لي إلي أن اختفيت عن ناظريه.

لم أتأثر يوماً بمثل تأثري بمشكلة هذا الطفل الجميل. لا أدري لماذا. ربما لأنني قد لا أراه مرة أخري ولن أتمكن من الاطمئنان عليه... أو ربما لأنه أبدي حبه لي... أو ربما لأنني متأثرة بافتقاده للحنان ولمن ينصحه.

قولوا لي بالله عليكم... إلي من يلجأ هذا الطفل وأمثاله عندما يتعرضون لمشكلة؟ عندما تفتقر البيوت إلي الدفء والحنان... عندما يتعرضون للضرب والإهانات البدنية واللفظية من المعلمين في المدارس... وهم أطفال بحاجة إلي مساندة الكبار ودعمهم لأنهم مازالوا بعد لا يستطيعون الاعتماد علي أنفسهم بشكل كبير. ولهذا لا عجب أن نري حالات انتحار بين الأطفال! إنهم يتعرضون لضغوط من أقرب الناس إليهم ولا يجدون ما يحتاجونه من حنان ودعم. وجدتها...

خاطرة غيرت تفكيري!

هذا الموقف (ومؤكد مع غيره) جعلني أشعر أن لكل طفل مفتاحاً إذا وجدته فستنجح في التعامل معه، وربما لا تجد الاستجابة المرغوبة من الطفل فقط لأنك لم تعثر علي مفتاحه بعد. هذه الفكرة أشعر أنها أحدثت نقلة في أسلوب تفكيري وتعاملي مع الأطفال لأنها لفتت انتباهي إلي أن الرفق والحنان هما الأساس، والشدة هي الاستثناء... وإلي أن شقاوة الطفل لا تعني بالضرورة أنه يتعمد مضايقتك.

لا أجد المفتاح :(

وقد استفدت من هذا في اليوم التالي. فقد كان من نصيبي مجموعة من الأولاد والبنات المراهقين بالصف الثاني الإعدادي. فقد ظللت النصف الأول من اليوم لا أجد منهم الاستجابة المرجوة، بل أشعر أنهم يحسون بالملل. في الأحوال العادية، ربما كنت فقدت الثقة بنفسي، وربما كنت وجدت نفسي غير مقبلة علي التعامل معهم بقلب منشرح... ولكنني ذكرت نفسي بأنني فقط أحتاج إلي البحث عن مفاتيحهم.

عثرت علي المفتاح :)

وحدث ما توقعت، فقد توقعت أن تعجبهم آخر لعبة لأن بها جزءً يتحدثون فيه عن مشكلاتهم. وفعلاً اندمج الجميع وشاركوا في المناقشة، وعندما سألتهم عن أكثر شيء أعجبهم في اليوم أخبروني أن المناقشة هي أكثر شيء أعجبهم.

عن أي شيء كانت المناقشة يا تري؟؟

للحديث بقية.

المصدر: إعداد/ هدي الرافعي
  • Currently 71/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
23 تصويتات / 318 مشاهدة
نشرت فى 4 نوفمبر 2010 بواسطة abnaona

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

10,253