ولذلك فمن بدايتهم، نزعوا الهوى

النفوس، وجعلوا هواهم الأوحد في المليك القدوس :

قد كان لي قبل أهواء مفرقـة . فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائي 

إذا كان الغافل له هوى في النساء، أو في المال، أو في الأكل، أو في أي شهوة أو غرض، فإن الذي عرف الله:….عينه لا تلتفت لحظةً هنا أو هناك.فسيدنا رسول الله: أشهده الله كل الجمالات من الجنَّات والعرش، والكرسي !!..لكنه كما أثنى عليه ربه

مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [سورة النجم] فلم يلتفت هنا أو هناك!!، وهل بعد جمال الله !،.وكمال الله !، ينظر إلى شئ؟ وهل هناك ما يطرف العين بعد هذه الجمالات والكمالات، وكذلك الذي يرى الحبيب الأعظم هل يريد أن يرى شيئا بعده؟ 

قد كان لي قبل أهواء مفرقـة . فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائي

تركت للناس دنياهم ودينهم … شغلا بذاتك يا ديـنى ودنيائــى

فالذي اشتغل بالله حقا، وصدقا: لا يلتفت لغيره طرفة عين، ولا أقل.!! وهؤلاء هم الرجال الصادقون، الذين قال الله فيهم (اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ) [التوبة] لماذا؟ لتكونوا معهم على الأقل فمن أحب قوما حشر معهم أو تكونوا منهم، وهذا الذي عنده همَّة وعزيمة! فإما أن نكون معهم، أو منهم. فالذي منهم يرث، وماذا يرث ؟ يرث علما، ونوراً، وحالاً، وفتحاً، وكشفاً، والهاماً، وفضلاً من ميراث الحبيب المصطفى : {إنما نورث علما ونورا} أي يأخذ حظه من العلم، أو حظه من النور، وما العلم الذي تركه رسول الله؟ علم القرآن، وعلوم الحقائق، وعلوم الدقائق، وعلوم الرقائق، وعلوم الفتح، وعلوم الكشف، وعلوم الفضل،…..علوما، يقول فيها الإمام أبو العزائم وأرضاه: 

فلو أنى أبـوح ببعض ما بي   لأحـرقت المشارق والمغارب

وولعت القلوب بحب ذات      تحــلى  من حلاها كل طالب

ويقول أيضا :

لو ذاق أهل البعد بعض مدامتى. تركوا الجدال وأحرقوا علم الرسوم

علوماً، يقول فيها الإمام على :” لو فسرتُ فاتحة الكتاب بما أعلم، لوقرتم سبعين بعيرا”علوما ليس لها حصر..!! من أين جاءت هذه العلوم؟ … هذه وراثة من رسول الله ، وليست دراسة بإعمال الفكر والعقل والمشاهدة أو التجربة، … بل هي وراثة نبوية مصطفوية فعلوم الوراثة غير علوم الدراسة فعلوم الدراسة: ربما يفنى المرء حياته كلها، ولا يستطيع أن يبلغ الغاية في التعمق في ميدان واحد من هذه الميادين، كما نرى.لكن علوم الوراثة: يحصل الإنسان فيها ما يشاء من العلوم في أقل من لمح البصر، إذا فتحوا له الباب وأدخلوه الرحاب، وكسوه حلة الأحباب، وجمَّلوه بجمال هذا الجناب، فإن كنوز فضل العلي الوهاب تنزل عليه بغير حساب 

(وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [سورة النور] وهذه العلوم هي التي عاش فيها وبها أصحاب رسول الله ، يمكن أحدث نظرية تربوية في وزارة التربية والتعليم، أو التعليم الجامعي، يقولون فيها: نحن نوجه الطالب ليحصل المعلومة بنفسه، هذه هي النظرية القرآنية الإسلامية فرسول الله كان يوجههم وهم يحصِّلون،

حقيقة المعرفة

ماذا يريدون من المعرفة؟ يريدون معرفة أشهد أن لا إله إلا الله.

ويريدون معرفة أشهد أن محمد رسول الله. يشهدونها….. ولذلك قالوا : أن الناس في الإيمان درجات: فيهم العوام المؤمنين لأنهم ولدوا من أباء وأمهات مؤمنين ومسلِّمين، وهناك العلماء الذين لا يؤمنون إلابالأدلة والبراهين، وهؤلاء على قدرهم !،

وهناك الأفذاذ والأكابر الذين يؤمنون عن شهود !، لا عن دليل أو برهان !، وإنما عن شهود بعين أوجدها فيهم الرحمن عزوجل ،

وهذه العين موجودة في القلب…:

( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور )[الحج]، ) قل هذه سبيلى أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى ( [108 يوسف]

فالتصوف يدور حول هذه الحقيقة :

أن الصوفية يريدون المعرفةالذوقية، أو إن شئت قلت المعرفة العينية، أو إن شئت قلت المعرفة الشهودية للحقائق الغيبية القرآنية التي جاء بها القرآن ونزل بها الوحي على النبي العدنان صل الله عليه وسلم .

عجائب الرؤيا الصادقة

هل يصدق العقل بإمكانية ذلك؟

نعم، ولم لا، وعجائب الرؤية الصادقة تُنبئ عن ذلك،

فإن الرؤية الصادقة التي يراها الناس في المنام وتتحقق في اليقظة: إنما هي قبس من عالم الغيب، يراه الإنسان عند نومه

وتتحقق له في عالم اليقظة.

والذين يَعْبُرَون هذه الرؤى لا يستنبطون بفكرهم، وإنمايعبرون بأرواحهم إلى هذه الحقائق التي أتت إلى محدثيهم وأحبابهم، وينبئونهم كما شهدوها ورأوها بأرواحهم. ولذلك قديزيدون على الرؤية، وقد ينقصون منها، فعلى سبيل المثال :

رؤيا الملك في سورة سيدنا يوسف عليه السلام، عندما قال الملك :

( إنى أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضروأخر يابسات) ([43يوسف]

بم أوَّلها سيدنا يوسف؟ قال: سيكون سبع سنين رخاء، ثم سبع سنين عجاف، وعام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون!!، هل هذا العام مذكور في الرؤيا ؟لا، لأن الرؤيا فيها سبعة وسبعة فقط، وهذا العام غير موجود في الرؤيا… من أينأتى به؟وما كنتم للرؤيا..ليس “تُعَبِّرُونْ “..ولكن ” تَعْبُرُون “..:.. تعبرون بأرواحكم إلى المصدر الذي تبث منه الرؤيا، ولذلك قال :

( ذالكما مما علمنى ربى) ` [37 يوسف]

وهذا علم علمه من الله عزوجل .

ولذلك لماذا برع ابن سيرين في الرؤيا؟ 

لأنه رأى سيدنا يوسف في المنام،وقال له: افتح فاك، ففتح فاه فوضع فيه لسانه، فمص لسان سيدنا يوسف عليه السلام

،فقام من نومه وقد أحسن تأويل الرؤيا… وراثة.وعندما كان يستفتيه الناس في الرؤىكان يفتيهم ويفسر لهم بالإلهام:

@ جاءه رجلان في مجلس واحد، فقال أحدهما :

رأيت في المنام أني أؤذن، فقال:إنك ستسرق وتقطع يدك.

وجاءه في نفس الوقت الرجل الآخروقال: رأيت أني أؤذن، فقال :ستحج إلى بيت الله الحرام. فتعجب الحاضرون، فقال: عندما حدثني الأول كانت الآية التي مرت على خاطري :

( ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون )([يوسف]

ولما حدثني الآخر: كانت الآية التيمرت على خاطري

(وإذن فى الناس بالحج يأتوك رجالا) ([آية27سورة الحج]

@ ذهب إليه الإمام أبو حنيفة في مقتبل عمره وقال له:

رأيت رؤيا أهالتني وأفزعتني، وكان في غاية الحزن بسبب هذه الرؤيا قال: وماذا رأيت؟ قال: رأيت أنى ذهبت إلى قبر رسول الله صل الله عليه وسلم ، ونزلت فيه فوجدته صل الله عليه وسلم ، عظاما فجمعت هذه العظام، فقال له: إنك ستجمع سنته. وذلك لأنه علم إلهامي من الله عزوجل .ولا ينفع تأويل الرؤيا من أي كتاب ككتب علم النفس أو غيره حتى كتاب ابن سيرين.

إذن ماذا يفعل المؤول؟ .. يقف على باب قلبه، حتى يفتح الله عزوجل له باب تأويل الرؤيا فيؤلها بربه لا بنفسه ولا بفكره ولا بعلمه،فالذي يؤول برأيه أو بفكره أو بعلمه: قد يخطئ في الإجابة، لكن الذي يؤول بربه لايخطئ أبداً ، لأنه من باب:

(وعلمناه من لدنا علما) ([سورةالكهف]

ولم يقل بقية العلوم، ولكن علماواحدا يستطيع تحمله أو يليق به أو يحتاج إليه، وعلوم الله لا حد لها ولا انتهاءلها.

فهذه العلوم التي خص الله بهاهؤلاء القوم نتيجة الوقوف على بصائرهم حتى يفتحها الفتَّاح عزوجل ، فتطلع على عالم الغيوب، فتنظر فيه إلى مواهب الله وإلى ما خص به الله أحبابه وأصفيائه :

فينطقون معبرين لمن اصطفاهم الله عما يستطيعون تحمله مما كاشفهم به الله جل في علاه، ويبقى هناك علوم وأسرار لايستطيعون إذاعتها أو نشرها أو بثها، يقول فيها الإمام علي زين العابدين رضى الله عنه :

يا رُب جوهر علـم لو أبوح به… لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا

ولاستحل رجال مسـلمون دمي … يرون أقبح ما يأتونه حسناً

وهذا باختصار موضوع المعرفة عندالصوفية :

فالصفاء يحتاج إلى المجاهدة، ثم بعد الصفاء تأتى المشاهدة،

وفي المشاهدة تلوح لهم وعليهم أنوار العناية.

– منهم من يجمل بالفراسة. – ومنهم من يجمل بالمكاشفة.

– ومنهم من يجمل بالمحادثة .- ومنهم من يجمل بالإلهام.

– ومنهم من ينطق بغوامض الحكمة، 

كل واحد على قدر ما يعطيه الله ويفتح له من كنوز عطـاء الله عزوجل  .

ولذلك لو بحثنا عن معنى الصوفية وتعريفها، كلها نجدها :

@ إما تتحدث عن الوسيلة وهى الجهاد.

@ أو الغاية وهى المشاهدة.

والوسيلة الغاية منها الصفاء، وبعدالصفاء..: المشاهدة.

رأي الدكتور عبد الحليم محمود في الصفاء والمشاهدة

وفي ذلك يقول الإمام د.عبد الحليم محمود في كتابه “قضية التصوف” وهو يحلل تعريف أبو بكرالكتاني للتصوف بأنه صفاء ومشاهدة:

(( وإذا نظرنا إلى تعريف الكتاني،فإننا نجد أن عباراته المختصرة :قد جمعت بين جانبين هما اللذان -فيما نرى – يكونان – في وحدة متكاملة – تعريف التصوف…:أحدهما :وسيلة…، والثاني : غاية….،

أما الوسيلة : فهي الصفاء.  وأما الغاية : فهي المشاهدة.

والتصوف من هذا التعريف: طريق،وغاية.

وطريقه يتضمن نواحي كثيرة تشيرإليها تسميته نفسها.

ولعل ذلك من الأسرار التي كانت السبب في هذه التسمية، واتخاذها عنواناً على هذه الطائفة. @ لقد قال جماعة: إنما سميت “صوفية”، لصفاء أسرارها..ونقاء آثارها.

@ وقال “بشر بن الحارث”:الصوفي: من صفا قلبه لله.

@ وقال بعضهم: الصوفي :

من صفت لله معاملته، وصفت له من الله عزوجل كرامته.

وهؤلاء يهدفون إلى أن كلمة:”الصوفية” إنما تشير إلى الصفاء، وهذه الإشارة لا تخضع لمقاييس اللغة، وما دامت “إشارة” فإنه من التعسف أن يجادل إنسان في أمر انسجامها مع اللغة وعدم انسجامها.

@ ويقول قوم: أنهم سموا “صوفية” لأنهم في الصف الأول بين يدي الله عزوجل ، بارتفاع هممهم إليه، وإقبالهم بقلوبهم عليه، ووقوفهم بسرائرهم بين يديه.

@ وهؤلاء إنما يعبرون عن إشارةالصوفية إلى الصف: أي إلى الصف الأول في العمل على الوصول إلى الله والجهاد فيسبيله.

@ أما إشارة الكلمة إلى “أهلا لصفة” الذين كانوا على عهد رسول الله صل الله عليه وسلم ، إنما تشير إلى أوصافهم من العبادة، والتهجد، وعدم الطمع في الدنيا،واستعدادهم الدائم للجهاد في سبيل الله.

@ وتشير الكلمة للصفة: أي الصفةالكريمة، التي لا يتعلق فيها القلب بالمادة وإنما يتعلق بالله تعالى.وكل ذلك إنما هو حديث عن الوسائل.

على أن هذه الوسائل التي تشير إليها الكلمة لها وسائل أخر.

@ هذه الوسائل الأخر منها ما يعبرون عنه بقولهم:”لا يَملك ولا يُملك”..!!، ويعنون بذلك أنه: ” لا يسترَقَّه الطمع “..:وهذه الكلمة لها مدلول واسع :

هو أن يتحرر الإنسان من الدنيا :

حتى ولو ملكها عريضة طويلة، يتحرر من الجاه، من الانغماس في الملذات، من الجري وراء المال، من حب السلطان، من حب الترف، من الصفات التي تتنافى مع الفضيلة.

@وخاتمة المطاف في هذه الوسائل:

أنها تؤدي إلى الصفاء، فإذا ما حل الصفاء، كان عند الإنسان استعداد كامل للمشاهدة، فيجود الله عليه بها، إن شاء.هذه المشاهدة هي أسمى درجات المعرفة : وهي الغاية النهائية التي يسعى وراءها ذووالشعور المرهف والفطر الملائكية، والشخصيات الربانية، فالتصوف إذاً معرفة – أسمىدرجات المعرفة بعد النبوة – إنه مشاهدة وهو طريقة إلى المشاهدة. 

وإذا أردنا أن نلجأ إلى الإمام “الغزالي” في تلخيص الطريق والغاية، فإننا نجده يقول في كتابه الخالد: “إحياء علوم الدين” :

“الطريق تقديم المجاهدة، ومحو الصفات المذمومة، وقطع العلائق كلها، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى، ومهما حصل ذلك كان اللهالمتولي لقلب عبده، والمتكفل له بتنويره بأنوار العلم. وإذا تولى الله أمر القلب فاضت عليه الرحمة، وأشرق النور فيالقلب، وانشرح الصدر، وانكشف له سر الملكوت، وانقشع عن وجه القلب حجاب الغرة بلطفالرحمة، وتلألأت فيه حقائق الأمور الإلهية، فإذا ما حصل ذلك كانت المشاهدة.

@@ومن القصص اللطيفة التي تصور الوسيلةإلى المشاهدة في سهولة ويسر، القصة التالية :قال ذو النون رأيت امرأة ببعض سواحل الشام.فقلت لها:من أين أقبلت رحمك الله ؟، قالت:من عند أقوام تتجافى جنوبهم عن المضاجع، يدعون ربهم خوفاً وطمعا، قلت: وأين تريدين؟ قالت: إلى رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، قلت: : صفيهم لي،فأنشأت تقول:

قوم همومهم بالله قــد علقت … فما لهم همم تسموا إلى أحــد

فمطلب القوم مولاهم وسيدهم … يا حسن مطلبهم للواحد الصمد

ما إن تنازعهم دنيا ولا شرف … من المطاعم واللذات والولــد

ولا للبس ثياب فائـق أنـق … ولا لروح سرور حل في بلــد

إلا مسارعة في إثر منزلــة … قد قارب الحظـو فيها باعد الأبد

فهم رهائن غدران وأوديـة … وفي الشوامخ تلقاهم مع العـدد

@ ثم يستطرد في حديثه عن المشاهدة قائلاً:”والمشاهدة التي هي الغاية (للصوفية) هي أيضاً تحقيق واقعي للتعبير، الذي ننطق به في كل آونة حينما نقول :”أشهد أن لا إله إلا الله “.. فالشهادة هي غاية الصوفي، وهو إنما يسعى جاهداً إليها بشتى الوسائل ليحقق بالفعل مضمون ما يلفظ به قولاً، أو ما يقوله حروفا ً.وما من شك في أن تعاريف التصوف الكثيرة التي نجدها منثورةهنا وهناك، والتي تكاد تبلغ الألف، إنما تعبر في أغلب الأحايين عن زاوية من زواياالتصوف تتصل بالوسيلة، أو تتصل بالغاية، فلا يمكن أن يقال عنها إذا ما كانت كذلك،إنها خطأ تام، ولكن الخطأ إنما هو في أخذها على أنها تعبر عن الحقيقة الكاملة …ولكنا يمكننا القول بأن أقرب ما يعبر عن الحــقيقة الكاملة من هذه التعريفات الكثيرةإنماهو تعريف الكتـاني:

التصوف صفاء ومشاهدة

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 95 مشاهدة
نشرت فى 9 مارس 2016 بواسطة abdelfatahdroes

عبدالفتاح درويش

abdelfatahdroes
»

أقسام الموقع

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

6,785