السياسيون متى يخشون الإعلام ولماذا؟!
لم يكن أمراً إعتباطيا أن ينال الاعلام تسمية (السلطة الرابعة) وليس هناك من هو صاحب فضل عليه فأغدق عليه هذه الصفة من دون أن يستحقها، بل يتفق جميع المعنيين بأن الاعلام بمواصفاته الحقيقية، كالجرأة والصدق والنزاهة والدقة والمخاطرة وما شابه، قد نال سلطته الرابعة بقدراته المتميزة ودوره الكبير في الرصد والتأثير والتصحيح للمسارات الخاطئة سواء في مجال السياسة وصنع القرارات الهامة أو في المجالات الحياتية الاخرى المتشعبة.
وحين نقول أن الاعلام سلطة مستقلة بذاتها فإننا لا نقصد التعالي البيروقراطي الذي قد يصيب بعض المؤسسات الاعلامية غير المحصنة ضد الغرور وضد النفعية البراغماتية التي توجه مساراتها، ولا نقصد أيضا تلك المؤسسات الاعلامية التي تضع نفسها في خدمة الحاكم او السلطة التنفيذية في هذه الدولة او تلك فتصبح أداة طيعة تخدم اهداف السلطة الحاكمة أكثر مما تخدم مهنتها.
بل مانعنيه هو الاعلام الذي يستحق فعلا صفة (السلطة الرابعة) التي قد تضاهي السلطات الأخرى بل تتفوق عليها أحيانا لاسيما في الدول ذات الانظمة الديمقراطية الراسخة، حيث يتحكم الاعلام بالرأي العام الذي يتحكم بدوره بجميع السلطات بما فيها السلطتين التنفيذية والتشريعية وغيرهما.
من هذه النقطة بالذات يُطرح التساؤل التالي: متى يخشى السياسيون من الاعلام وما سبب هذه الخشية التي غالبا ما تربك العلاقة بين الطرفين وتُسهم في الاشكالية التي تعتور علاقة السياسي بالاعلامي.
وللاجابة عن هذا التساؤل ينبغي أن نتذكر ونعترف بأن مقومات التعامل بين الساسة والمؤسسات الاعلامية أقرب للاكتمال من غيرها في ظل انظمة الحكم الديمقراطية المستقرة، على عكس الانظمة الشمولية او تلك التي لا تزال تحبو كالوليد الصغير على جادة التحرر والبناء الديمقراطي كما يحدث في العراق الآن، حيث تأخذ هذه العلاقة خطا بيانيا متذبذبا بين النجاح والفشل.
ولكن لعلنا لا نأتي بجديد حين نقول بأن (السياسي النزيه) والذي يؤدي عمله بكفاءة عالية سيكون في موقع المتمكن الذي لا يخشى الاعلام أو غيره، فهو محصن ضد الاختلاس وله نفس قنوعة متعففة ويحمل من الايمان ما يجعله بعيدا عن الدناءة التي تهبط به الى التجاوز على المال العام، هذا من ناحية.
وهو من ناحية أخرى متسلح بإداء عملي ناجح ومتوازن، فلا غبن ولا ظلم ولا رشوة ولا محسوبية ولا تفضيل لاحد دون غيره إلاّ بما يستحق من المباركة والتحفيز، ويكون الضمير والكفاءة العملية هما الركيزتين اللتين يستند إليها السياسي النقي في جميع أنشطته المتعلقة بطبيعة أعماله ومهامه.
من هنا لن يخشى مثل هذا السياسي لا الاعلام ولا غيره، على خلاف (السياسي الفاسد) الذي يصبح الاعلام المهني النزيه عدوّا لدودا له، فهو إما أن يمارس عملية التهرب والاعتذار من مواجهة الصوت الاعلامي الذي سيكشف تورطاته الى الملأ وأما أن يستخدم نفوذه فيعتدي على الاعلاميين ويضيق الخناق عليهم وقد يصل الامر الى التهديد بل التصفية أحيانا، غير انه في كلا الحالتين لن يتخلص من سلطة الاعلام بل ستزداد عليه الاضواء ويصبح مكمن إثارة دائمة لقنوات الاعلام المتنوعة التي تلتزم المهنية والنزاهة والصدق في عملها، فتكشفه وتعريه للآخرين وهذا هو سر الخشية التي يعاني منها السياسيون الفاسدون وهو ايضا سر العدواة التي يكنونها للاعلام المهني الحر.
وهكذا أصبح بمقدورنا معرفة سبب تخوّف الساسة من الاعلام (ليس كل انواع الاعلام بطبيعة الحال) إذ هنالك الاعلام المحابي الذي يستلم ثمن أتعابه مقدما من الجهة المستفيدة، ولعل (المودة) التي كانت ولا زالت منتعشة والمتمثلة بتأكيد الساسة الدائم على عرض الجانب المشرق من انشطتهم تشكل مثلبة على الاعلام المهني الحر وتنتقص من نزاهته وتسلب منه (سلطته الرابعة) التي تضاهي السلطات الاخرى وتفوقها أحيانا.
ومن اجل تجاوز الاشكالية العلاقاتية بين الساسة والاعلام نطرح ما نراه مساعدا على تنقية الاجواء العملية بين الطرفين وكما يلي:
- أن تتسلح مؤسسات الاعلام بالمهنية والنزاهة العالية التي تساعدها على اداء دورها بالصورة المطلوبة.
- أن تسهم الحكومة في دعم الاعلام من حيث الاستقلالية والكف عن تجيير الصوت الاعلامي لصالحها.
- أن تُشرّع القوانين المطلوبة من الجهات التشريعية لضمان حيادية ومهنية ونزاهة عمل الاعلام بأنواعه كافة.
- أن تراقب مؤسسات الاعلام عناصرها من ذوي القصور في ممارسة العمل الاعلامي وحرمته ونزاهته وان تعاقب من يستحق بالطرد الفوري.
- أن يعمل الطرفان السياسي التنفيذي والاعلام على تنقية اجواء العمل من خلال النزاهة والمهنية لكلا الطرفين.
- أن يبقى الاعلام (في حال مهنيته ونزاهته) رقيبا مستمرا وضوءً كاشفا للساسة الفاسدين من اجل فضحهم أمام الملأ بالأدلة والقرائن.
وبهذا نكون قد حققنا منظومة علاقاتية ناجحة ومستقرة بين سلطة الاعلام من جهة وبين نظام ديمقرطي مؤسساتي يقوم على مبدأ فصل السلطات من جهة ثانية.
ساحة النقاش