موقع الدكتور عباس علام

للبحوث والدراسات التربوية

بقلم:أسعد ابن الطيب المنبري

ما هو التاريخ ؟

إذا ما حاولنا الإجابة على هذا السؤال سنجد أنفسنا أمام العديد من وجهات النظر للعديد من المؤرخين خصوصا من يعنى منهم بفلسفة التاريخ. ونتيجة لاختلاف وجهات النظر سوف نجد من يقول أن التاريخ هو " العلم الذي يعنى بالدرجة الأولى بدراسة الحوادث أو الوقائع التي حدثت في الماضي " أو " هو العلم الذي يسعى لإقامة تتابع للأحداث التي وقعت بالفعل " أو " العلم الذي يختص بترتيب و تضييق السلوك الإنساني عبر الزمن الماضي " و ثمة من يرى أن التاريخ " سجل مكتوب للماضي أو الأحداث الماضية ".

و تجد ابن خلدون يعرف التاريخ تقوله : " التاريخ فت يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم و الأنبياء في سيرهم و الملوك في دولهم حتى تتم فائدة الإقتداء في ذلك لمن يروقه في أحوال الدين و الدنيا ." فعلم التاريخ من هذا المنطلق علم اجتماعي باعتباره محاولة منظمة لمعرفة و تحقيق الحوادث الماضية عن طريق ربط كل واحدة منها بالأخرى و الكشف عن مختلف تأثيراتها على تشكيل و مسيرة الحضارة الإنسانية. لذلك فعلم التاريخ لا يمكن فصله عن المنهج التاريخي. و ذلك باعتبار أن البحث أو التقصي العلمي و وسيلة موضوعية هدفها الوصول إلى نتيجة أو قانون أو قاعدة عامة فيما يسمى بالحقيقة التاريخية.


منهج البحث التاريخي:

و يسمى أيضا المنهج الاستردادي و هو الذي تقوم فيه باسترداد الماضي تبعا لما تركه من أثار. أيا كان نوع هذه الآثار. وهو المنهج المستخدم ي العلوم التاريخية و الأخلاقية. و يعتمد في الأساس على استرداد ما كان في الماضي ليتحقق من مجرى الأحداث. و لتحليل القوى و المشكلات التي صاغت الحاضر.

فمنهج البحث التاريخي هو مجموعة الطرق و التقنيات التي يتبعها الباحث و المؤرخ للوصول إلى الحقيقة التاريخية. و إعادة بناء الماضي بكل وقائعه و زواياه . وكما كان عليه زمانه و مكانه. ويجمع تفاعلات الحياة فيه . وهذه الطرق قابلة دوما للتطور و التكامل مع تطور جموع المعرفة الإنسانية و تكاملها و منهج اكتسابها.

لقد دار جدل واسع حول طبيعة المادة التاريخية. وطرق الوصول إلى الحقيقة العلمية المجردة الثابتة. وكان على المؤرخين إثبات أن التاريخ معرفة علمية دقيقة. غنية بتجربة قرون طويلة. لها منهجا أو طرائق في البحث و الاستقصاء من الحقيقة. لا تقل في علميتها و صحة وسائلها عن مناهج العلوم الأخرى. و هكذا بحث عدد من المؤرخين في طرائق علم التاريخ و أثبتوا في كتبهم و مقالاتهم أن علم التاريخ علم يعود إلى الحقيقة الثابتة المؤكدة. وفي عام 1894 صدر كتاب حول منهج البحث التاريخي. قام بوضعه أرنست برتهام. جمع فيه ما كتب عن المنهج التاريخي. وكان كتابا لنخبة من المثقفين. لا يتضمن طريقة صحيحة في البحث لمن يريد . أما المؤرخ فويتيل دو كولانج فقد قام بتحويل قواعد المنهج التاريخي إلى دساتير ة قوانين دقيقة جدا و كان أول كتاب بسط فيه إلى حد ما منهج البحث التاريخي هو الكتاب الذي ألفه المؤرخان الفرنسيان لانجلوا و سينوبوس في أواخر القرن 19 و يطلق عليه اسم " مدخل للدراسات التاريخية " صدر في باريس و ترجم جزء منه إلى العربية .

تتالت الأحداث المشابهة بعد ذلك. لكن في البلاد العربية لم ينبر احد لدراسة هذا الموضوع حتى الربع الثاني من القرن 20. رغم أن المؤرخين العرب أدركوا كثيرا من الأساسيات العلمية لمنهج البحث التاريخي بمضمونها الحديث. و كتبوا فيها. ونموذجهم الأكبر ابن خلدون ( ت. 1406 م ) و الكافجي ( المختصر في علم التاريخ ) ( ت. 1474 ) و غيرهم.

منهج البحث التاريخي عند العرب.

نشأ علم التاريخ عند المسلمين فرعا من علم الحديث. و قد سعوا إلى المصادر الموثوقة و كذا الرواية الشفوية. و اهتم مؤرخوهم بالمكان فمزجوا بين التاريخ و الجغرافيا مثل المسعودي. و ابن النديم. ومن ثم اعتمدوا على الوثائق الرسمية في مدوناتهم مثل اليعقوبي و البلاذري و الطبري و بن الجوزي و غيرهم... لقد عمل المؤرخون على بيان مظانهم في مقدمات كتبهم أو في طليعة روايتهم للخبر. وفي القرون الأولى للتدوين التاريخي استخدموا الإسناد كما في الحديث. و بذلك كانوا أمناء في نقل الأخبار. ويلاحظ هذا بخاصة عند الطبري..

أما النقد التاريخي عند العرب فقد بينه القران الكريم في آيات كثيرة في ضرورة إعمال العقل فيما يرى الإنسان و يسمع. وأكد على مفهوم البينة و الحجة و البرهان..ووجوب التثبت مت الخبر . وكلها أمور توجه الفكر إلى النقد العقلاني للأمور. وقد نبه الرسول (ص) في أحاديثه إلى ضرورة تبين الصدق من الكذب. أي نقد ما يرى و يسمع. ومن ثم أوجد علماء الحديث تدريجيا أصولا نقدية للتمييز بين الصحيح و الموضوع من الأحاديث. و لتصنيفها حسب قربها من الحقيقة. و اتبع المؤرخون العرب تلك الأصول للتحقق من صحة الخبر أيضا. فالأسلوب النقدي الذي صاروا عليه و اقتدوا فيه بعلماء الحديث كان " التجريح و التعديل " هذا النهج هو في حقيقة المنهجية العلمية المعاصرة للبحث التاريخي: النقد الباطني السلبي أم ما يسمى بنقد المؤلف. وقد اتخذوا الموازنة الزمنية بين خبرين. و الموازنة بصفة عامة. بحيث استطاعوا بهذا النمط من الموازنة و المحاكمة الزمنية التاريخية أن ينقدوا ما يدعى بأنه وثائق و يظهروا زيفها. وقد حاول المؤرخين العرب ضبط الأحداث زمنا بواسطة التوقيت لها بالسنة و الشهر و الليلة. وبذلك فاقوا مؤرخي اليونان و الرومان و أوربا في العصور الوسطى. فقد قال المؤرخ الإنجليزي " بكل – buchle " إن التوقيت عل هذا النحو لم يعرف في أوربا قبل 1597 ." وقد أبدى المؤرخون العرب اهتماما فائقا بتحديد الزمن في الأخبار. ويتضح هذا من تعريفهم للتاريخ بأنه " الإنسان و الزمان " وأنه " الزمان و أحواله " ولكن جميع الأحداث في سلسلة زمنية. هي خطوة أولى في عملية التركيب التاريخي. إلا أنها ليست لبها. فالتركيب الحقيقي يقوم على ربط الأحداث ببعضها ربطا سببيا. وهذا ما عناه ابن خلدون في معرض حديثه عن التاريخ بأنه " هو في ظاهره لا يزيد على أخبار الأيام و الدول... وفي باطنه نظر و تحقيق و تعليل الكائنات و مبادئها دقيق. وعلم بكيفيات الوقائع و أسبابها عميق ".

وقد اتهم المؤرخون العرب بعدم سعيهم إلى التعليل. بل اكتفوا بالسرد. ويتفاوت المؤرخون العرب في تقصيهم للأسباب في تفسير الظواهر و الحوادث. إلى أنهم أدركوا بالمجموع أهمية العوامل الاقتصادية و الجغرافية في دفع الأحداث. وفي التأثير على حياة البشر. وكذلك العوامل النفسية و الاجتماعية و الفكرية. وندري جدا من المؤرخين من كان كتابه مجرد سرد ساذج لا يحمل ضمن التطور تأويله الخاص و تفسيره الذاتي. كما لم يكتف المؤرخون المسلمون بتتبع أسباب الحوادث فقط. بل سعوا لتكوين تركيب فلسفي لمعنى التاريخ.

من كل هذا نخلص إلى القول: أن منهج البحث التاريخي عند المؤرخين العرب يسجل لهم أنهم أول من ضبط الحوادث بالإسناد. و التوقيت الكامل. و أنهم مدوا حدود البحث التاريخي و نوعوا التأليف فيه و أكثروه. إلى درجة لم يلحق بهم فيها من تقدمهم أو عاصرهم من مؤرخي الأمم الأخرى. و أنهم أول من كتب فلسفة التاريخ. وأنهم حرصوا على العمل جهد طاقتهم بأول واجب المؤرخ و أخره. وهو " الصدق في القول و النزاهة في الحكم " وبذلك يكون المؤرخون العرب هم الذين وضعوا الأصول الأولى لمنهج البحث التاريخي العلمي الحديث الذي بدأ ناضجا في أوربا في القرن 19. وهم الذين تركوا بتلك الأصول أثرهم في مؤرخي أوربا في مطلع العصور الحديثة الذين شرعوا بدورهم ينتهجون في الكتابة التاريخية طريق النقد و التمحيص و التدقيق.


خواص المنهج التاريخي و مميزاته باعتباره منهجا للنقد الأدبي.

يمكننا أن نتبين مميزات هذا المنهج التي تعتبر متداخلة في حد ذاتها بالعديد من المناهج الأخرى. شأنها في ذلك شأن انفتاح العلوم ببعضها على بعض. وتداخلها مع حركة الوعي الإنساني الذي صاحب معطيات التفكير في كل العصور. ولعل أبرز هذه المميزات باعتبار المنهج التاريخي منهجا للنقد الأدبي:

1 / المنهج التاريخي في النقد. شأن أي منهج حساس. إذا فقد فيه صاحبه توازنه. فقد خصائص نقده. وصار مؤرخا أو جماعة للتاريخ. وصار النقد الأدبي لديه مادة للتاريخ. ولم يصر التاريخ مادة للنقد.

2 / المنهج التاريخي منهج يحاول أن يبلور العلاقات الموجودة بين الأعمال الأدبية في إطار تاريخي – زمني (أي في طار وعي بحركة التاريخ) وهو بذلك يتعامل مع الأدب من الخارج.

3 / تبعا لذلك فالمنهج التاريخي يحتاج إلى ثقافة واعية و تتبع دقيق بحركة الزمن وما فيه من معطيات يمكنها أن تنعكس في صورة مباشرة أو غير مباشرة و على النص الأدبي ولعل عنايته أحيانا بالطابع التحليلي يبرز مظهر ذلك الوعي. فالناقد التاريخي قد يلتفت إلى النص الأدبي و يحلله في إطار إحصائي أو بياني أو حتى جمالي. ليصل في النهاية إلى هدفه و غايته. وهي محاولة الربط بين استخدام تلك المقاييس اللغوية. ( التحليلية ) و بين العصر الذي ولدت فيه و بين المؤلف الذي تأثر بذلك العصر فاستخدم تلك المصطلحات اللغوية و لهذا نجد المنهج التاريخي منهجا مرتبطا ارتباطا وثيقا بالمناهج النقدية. ( أخرى على الأقل من هذا الإطار )

4 / المنهج التاريخي معني بمستويات النقد و أطره لذا فهي تستخدم كل مراحله الممثلة في التفسير والتأويل و التنقيح و الحكم. نظرا لعنايته الجادة بالنص كرؤية واقعية ترتبط بالزمن و العصر و البيئة. ويلعب المؤلف دوره المحلل في ضوء تلك المراحل التي لا غنى عنها في العملية النقدية.

5/ يظهر منهج التاريخ الأدبي و كأنه ولاية خاصة في حقل التاريخ. أي انه يذكر الماضي من اجل الحاضر. ويحيي العلاقة التي غالبا ما تكون عاطفية مع كبار القدماء الذين سبقوه. فهو بالطبع يحصر حقل أبحاثه في ميدان الأدب محددا علاقاته بكافة الأطر الاقتصادية و السياسية و الثقافية. لتبيان ما فيها من عوارض و إشارات تنم من عقلية نقدية ما.

6/ المنهج التاريخي يختص بالتوفيق في الأعمال القديمة من حيث ذكرها و حفظها وترتيب ظواهرها في سياق التسلسل التاريخي التي يتكون منها حياة الأدباء و إنتاجهم و الجمهور و العلاقات بين الكاتب و مستهلك الكتاب. ويقدم التفسيرات حول هذه الأشياء. وعلى مستوى أعمق يحاول شرحها وحتى إحيائها من خلال المقتطفات. أو يقوم أمام تراكم الوقائع بإطلاق المعايير و القواعد التي تحكم بيئة الأدباء وسيرتهم الذاتية.

7/ وعلى مستوى ضيق. فان المنهج التاريخي يتتبع الأعمال الأدبية من حيث إقرار النصوص و الوقائع و الأحداث فيها. فهو يدرس المخطوطات. ويقارن الطبقات. ويدقق في التصويب النهائي للنص بالإضافة إلى دراسة تكوينات الوقائع الاجتماعية المتعلقة بسيرة الكاتب الذاتية.

هذه أهم الملامح التي تميز المنهج التاريخي. وتحدد خصائصه. ولا شك فان معطياته قد لا تعطي كل الثمار المرجوة في الحركة النقدية. فهو منهج قديم. أهم يعيبه دراسة النص من الخارج. والوقوف على المغزى الواقعي الذي قد لا يكشف لنا أحيانا رؤى النص المتمثلة في التحليل و الخيال و البعد المثالي. الذي تفضيه مشاعر المؤلف ( المبدع ).

و الروح النقدية التاريخية فيها من السهولة ما يجعلها مستهدفة من قبل بعض النقاد الذين يملكون قدرة البحث و التقصي. فتكون متعتهم بارزة هي هذا المجال. وهي خاصية تنبعث من رؤى هذا المنهج الذي أكثر ما يميزه ثقافة مؤلفه التي يدججها معلم الواقعية الحصينة في فهم الأشياء عليها.

فالمنهج النقدي – التاريخي من ظل هذا يهدف إلى تحقيق منطق الزمن الذي يعايشه من خلال النص. فيرى فيه المتعة في البحث و التقصي و إيجاد العلاقات الواقعية في إطار هذا المغزى.

ويعد طه حسين أبرز من استخدم هذا المنهج في دراساته عن الأدب العربي القديم. مثل كتابه " حديث الأربعاء " و " تجديد ذكرى أبي علاء ". ففي الكتاب الأخير طبق طه حسين المنهج التاريخي تطبيقا دقيقا. فقد خصص بابا ما هذا الكتاب ( حوالي ثلث الكتاب ) درس فيه زمن أبي العلاء ومكانه و شعبه و الحياة السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و الدينية في عصره. وقبيلته و أسرته. ليرى أثر ذلك كله في شعره و أدبه.

الهدف من البحث التاريخي.

إن الهدف من البحث التاريخي هو صنع معرفة علمية من الماضي الإنساني. ونعني بالعلمية أنها تستند إلى طرائق عقلانية توصل إلى الحقيقة بقدر ما تسمح به الظروف التي تخضع لها. وهي ظروف تقنية. " طبيعة الوثائق المستخدمة و وجودها " وظروف منطقية " تلك التي تحللها نظرية المعرفة "



1/ مراحل البحث العلمي في المنهج التاريخي :

1- اختيار الموضوع.

2- تقميش المصادر.

3- النقد.

4- التركيب.

5- إنشاء الموضوع. وبدوره ينقسم إلى:

1 - اختيار المشكلة.

2 - جمع الحقائق و الوثائق و تدوينها.

3 - نقد الوقائع و الحقائق.

4 - صياغة الفرضيات التي تفسر الأحداث و اختيارها.

5 - تفسير نتائج البحث وكتابة تقرير عنه.

- المرحلة الأولى: اختيار موضوع البحث.

إن الأصول العامة لاختيار موضوع المشكلة المراد بحثها واحدة في كل المناهج التاريخية. منها الوصفي و التجريبي. ويعني اختيار المشكلة اختيار موضوع البحث. أي طرح مشكلة تتعلق بالماضي. يكون لها أهمية واقعية وجودية. و الباحث الأصيل هو الذي يعرف كيف يختار المشكلة الحقيقية.

إن المشكلة المطروحة يجب أن تنطلق من المبادرة الذاتية للباحث التاريخي. وتنبثق من فصوله العلمي الخاص. وأن تكون المشكلة بقدر طاقة الباحث على العمل و مدى قدرته على الحصول على الأصول الضرورية. وأن يكون هذا الأصل قادرا على تقديم ما يوضح المشكلة و يحلها. وأن تكون المشكلة بعيدة ما لا يقل عن خمسين سنة من ومن الباحث. وقد يدفع الباحث للمشلكة دفعا. نتيجة الصدفة. وهذا كثير في التاريخ القديم. حيث الوثائق نادرة.

عند تعيين الباحث لمشكلة بحثه. يكون في أحد الوضعين: إما أن المشكلة انبثقت في ذهنه و اتضحت إحداها. وعندئذ يتم تحديدها. أو يكون خالي الذهن عنها أو أن الغموض يكتنفها في فكرة. حينئذ يلجأ إلى القراءة و المطالعة ليكون خافية ثقافية. يحدد عليها موقع المشكلة و يقوم ببحث عام أولي عن مصدر المشكلة. ويلجأ بالاستفسار ممن لهم خلفية عن هذه المشكلة. ومن ثم يضع مخططا للنقاط. وبهذا يتكون هيكل الموضوع و عنوانه.


- المرحلة الثانية: جمع الحقائق و الوثائق و تدوينها.

إن وسيلة الإجابة عن المشكلة هي جمع المصادر و هي أهم أعمال المؤرخ. لأن التاريخ يصنع بالوثائق. وحيث لا وثائق لا تاريخ.

و التاريخ يصنع بالوثائق المكتوبة إذا وجدت. وقد حاول المؤرخون تطبيق الوثائق ضمن رمزين: المرويات المأثورة. والمخلفات المحسومة.

وقال آخرون بتقسيم البحث إلى أولي و أصولي. أو مصادر فقه. وقد تجمع المصادر معلومات أولية و ثانوية. وبشكل عام يمكن تطبيق المصادر أو الوثائق إلى:

- 1 الوثائق المكتوبة أو المطبوعة.

- 2 الوثائق الأخرى.

- 3 الرواية الشعرية المباشرة.

المرحلة الثالثة: نقد الوقائع و الحقائق.

يطلق على عملية التحليل المفصل للاستدلالات التي تقود من ملاحظة الوثائق إلى معرفة الوقائع. و الوقائع اسم النقد. وهي عملية فكرية تراجعية. نقطة الانطلاق فيها الوثيقة. ونقطة الهدف الواقعة التاريخية. وبينهما سلسلة من الاستدلالات. تكون فيها فرص الخطأ عديدة. لأن مصادر المعلومات في معظمها مصادر غير مباشرة. تتراوح بين شهادات للأشخاص الذين حصروا الحوادث أو الدين سمعوا عنه أو كتبوا عنه. وبين الآثار و السجلات و الوثائق التي تركها. و حيث لن هده الوثائق معرضة للتلف و للتزوير بسسب قدمها.كما أن كاتبها معرض للنسيان أو التزوير. بهذا نطرح تساؤلات حول مدى موضوعية الوثيقة ومدى تطابق معلوماتها مع معلومات وثائق أخرى.

إن ما ذكرناه من حيث نقد الوثائق. يعود بنا إلى نقد مصادر الخبر من حيث معرفة سلامتها أو زيفها. و الأسباب التي تدعوا إلى التحريف و التشويه و الخطأ المتعمد فيها و غير المتعمد كان معروفا منذ القدم. وقد برع المسلمون في ميدانه عندما نقدوا الحديث والخبر. ووضعوا له قواعد صارمة. وقد اقتبس الأوربيون في العصور الحديثة كثيرا من أصوله. و أوثقوا به من القرن الخامس عشر حتى الوقت الحاضر. حيث يمكن القول انه احتفظ بإطاره الأساسي التقليدي الذي حدده في عمليتين رئيسيتين هما: النقد الخارجي و النقد الداخلي. و في كليهما على الباحث أن تكون قراءته فاحصة متأنية. تتناول شخصية المؤلف. أو الكاتب. كما تتناول الوثيقة شكلا و مضمونا بحيث تخرج على أسس صحيحة محكمة من التحقيق العلمي.

أ – النقد الخارجي: يتناول فيه الباحث للوثيقة هوية الوثيقة و أصالة الوثيقة. أي صدق الوثيقة أو عدمه ( إثبات صحة الأصل ) وكذلك تحديد مصدر الوثيقة. زمانها و مكانها. هل هي الأصل أم منسوخة عنه و أشياء أخرى.

ب – يتناول مدى دقة الحقائق التي أوردها صاحب الأصل. و إخلاصه الموضوعية فيها. ويعنى هذا التحليل بشخصية المؤلف و ظروفه. ومدى صحة ما أورد من حوادث. أي إثبات الحوادث التاريخية. ويرتبط ذلك ارتباطا كبيرا بتقويمها أي بمدى فهمها و شرحها. ويتعلق ذلك بشخصية الباحث التاريخي وخيالي المبدع. وثقافته الواسعة وقوة ملاحظاه و مقدماته. وكل هذا يوضح لنا التعقيد الشديد للتحليل أو النقد التاريخي.

المرحلة الرابعة: التركيب التاريخي.

أعطانا النقد التاريخي ما نسميه بحقائق التاريخ بشكل مبعثر متفرق و مجرد. ولابد لهذه الحقائق أن تنظم و يتم الربط بينها. بفرضية تعلل الحادث و تبين مجرياته. وتعلل أسبابه و تحدد نتائجه.

وتتضمن عملية التركيب التاريخي عمليات مترابطة متداخلة مع بعضها تكون صورة فكرية واضحة لكل حقيقة من الحقائق المجمعة لدى الباحث.

-1 قيام الباحث بتكوين صورة فكرية واضحة لكل حقيقة من الحقائق المتجمعة لديه و للهيكل العام لمجموع بحثه. أي يكون صورة عن واقع الماضي تنشئها مخيلة الباحث من منطلق مشابهة الماضي الإنساني للحاضر.

- 2 تصنيف الحقائق بحسب طبيعتها الداخلية. وقد ظهر مؤخرا و ببطء. نشأ أولا خارج حدود التاريخ بخاصة الموضوعات التي تعالج حوادث إنسانية. واجمع الحقائق الاقتصادية مع بعضها. وهو نفس الشيء مع الفكرية الاجتماعية و السياسية.

-3 يملك المؤرخ المحاكمة أو ما يسمى ملء الفجوات و الثغرات التي يجدها الباحث في هيكل التصنيف. لأنه لا يستطيع ملء هذه الثغرات بالملاحظة المباشرة إسوة بالباحثين في العلوم الطبيعية. وهناك طريقتان في هذا الشأن: الأولى الطريقة السلبية. و الثانية الطريقة الايجابية.

- 4 ربط الحقائق التاريخية ببعضها أو البحث عن علاقات قائمة بينها.

المرحلة الخامسة: إنشاء البحث التاريخي.

من خلال ما قام به الباحث التاريخي من إجراءات توصل إلى مجموعة كبيرة من الحقائق في هيكل تصنيفي معين. و في سيق تحليلي محدد. وعمله لا يكتمل إلى بالتدوين. ويميز النقاد التاريخيون في هذه الخطوة بين عمليتين هماك عملية الصياغة. وعملية العرض.

أ – الصياغة التاريخية: و هي أخر العمليات التركيبية. يسعى فيها المؤرخ للتعبير عن نتائج بحثه. و هي في العلوم الأخرى الدساتير والقوانين التي تأخذ في بعض العلوم. أما في التاريخ فالصياغة وصفية دقيقة موجزة. وهنا يصطدم المؤرخ بمشكلة وهي: - ماهو المهم ؟ - من الحقائق التاريخية. وفي أغلب الأحيان تستمد الحقيقة أهميتها م علاقتها ببيئة المؤلف و عصره و بهدفه أو أهدافه في كتابة التاريخ.

ب – العرض التاريخي: وهو إخراج الموضوع وحدة كاملة متماسكة الأطراف بحيث يكون إحياء الماضي يتحسسه الباحث القارىء. وهذه الخطوة هامة و عسيرة و يتبين في العرض أمران رئيسان: أولهما إتباع الباحث مخططا واضحا. و ثانيهما استخدام الباحث أسلوبا كتابيا ملائما و العمليتان متكاملتان.

المرحلة السادسة: تقويم منهج البحث التاريخي.

دار نقاش حاد و جدل بين المؤرخين و العلماء حول موضوع المنهج العلمي للبحث التاريخي و أيضا بين بعض المناطقة و الفلاسفة في القرن 19. و ما زال مستمرا حين الآن. لقد دار الجدل حول طبيعة المادة التاريخية و طرائق الوصول إلى الحقيقة العلمية المجردة و الثابتة. وتعرض فيما يلي وجهة النظر:

1 - لقد أنكر كثير من العلماء الطبيعيين و المناطقة على المعرفة التاريخية علميتها ( الوضعية ) وحجة حقائقها و ثبوتها بحجة عدم امكان إخضاعها لطرائق العلم الوصفي الحديث المعتمد على الملاحظة المباشرة و التجربة و استنباط القوانين وحتميتها.

2 – لا يمكن ملاحظة جميع أحداث التاريخ المعاصر بنزاهة و استيعاب و تجرد . فهي تحدث مرة واحدة في زمانها و مكانها. وقد تجري بشكل مفاجئ و في ساحات متعددة مما يصعب معه الاحاطة بها بالملاحظة المباشرة. و بهذا فمن الأحرى أن يصعب الاحاطة بالأحداث التي مضت.

3 – التاريخ لا يعيد نفسه تماما وعنصر الصدفة قد يبتر أي محاولة لاستشفاف المستقبل و التنبؤ بالحدث قبل وقوعه. بهذا يقول البعض إن التاريخ مجموعة أقاصيص كاذبة أو صادقة. و أخرون يقولون أن التاريخ نوع ممتع من الآداب و قد أكد رجال الأدب أن التاريخ فن مكن الفنون وليس علما من العلوم. ويرى آخرون أن التاريخ أخطر إنتاج صنعته كيمياء الفكر.

4 – إن مصدر الباحث التاريخي في المعرفة لا يعتمد على الملاحظة المباشرة و مصادره غير مباشرة. من مثل: الآثار و المجلات. أو الأشخاص. وقد يشك في قدرتهم على الاحتفاظ بالحقيقة بعد مرور فترة زمنية عليها كما أن الباحث التاريخي لا يستطيع أن يصل إلى كل الحقائق المتصلة بمشكل بحثه. قد لا يستطيع الكشف عن كل الأدلة و اختبارها. كما فان المعرفة التي يتوصل إليها جزئية و ليست كاملة.

5 – على الرغم من أن غرض العلم هو التنبؤ فان الباحث التاريخي لا يستطيع دائما أن يعمم على أساس الأحداث السابقة. لان هذه الأحداث كانت غالبا غير مخططة. أو أنها لم تتطور كما هو مخطط لها. فهناك عوامل أخرى لا يمكن التحكم فيها. كما أن تأثيرا واحدا أو لعدد من الأشخاص كان حاسما. وعلى ذلك فان النموذج نفسه بما يشمل من عوامل لن يتكرر.

6 – يعاني المنهج التاريخي كأسلوب علمي من تعرض بعض الأحداث للتلف أو التزوير مما يحد من عطاء المعرفة الكاملة حول جوابي الحياة. وظاهرتها في الماضي ويجعلها معرفة جزئية.

7 – يصعب تطبيق المنهجية العلمية لتغير الأحداث التاريخية. بالإضافة إلى صعوبة اخصاع الحدث التاريخي للتجربة. وما يلاحظ صعوبة وضع فرضيات مبنية على أساس نظرية قوية للأحداث التاريخية. لان علاقة السبب بالنتيجة في تحديد مسار الأحداث التاريخية لا يمكن تطورها بشكل دقيق لتعدد الأسباب عن الإلمام الكافي بالمادة التاريخية. ومن مصادرها الأولية أو الثانوية. مما يوجد صعوبات لدى التحقق من الفرضيات و عليه من الصعوبة بمكان الوصول إلى نتائج يمكن تعميمها حسب هذا المنهج.

8– و يشار إلى الملاحظات و هي أن الباحث التاريخي لا يخضع للتجريب كما انه يصعب الوصول إلى نتائج تصلح للتعميم لصعوبة تكرار الظروف التي وجدت فيها الظاهرة المدروسة. لهذا كانت الحقائق التي يتم التوصل إليها من خلال المنهج التاريخي غير دقيقة بمعايير البحث العلمي. يرى آخرون أن كل ما ذكر لا يحول دون الاعتماد على المنهج التاريخي منهجا علميا لتوافر معظم مقوماته كمنهج لإجراء بحث علمي و ذلك من خلال ما يلي:

أ – إن البحث التاريخي يعتمد المنهج العلمي في البحث. فالباحث يبدأ بالشعور بالمشكلة و تحديدها ووضع الفروض المناسبة و جمع المعلومات و البيانات لاختيار الفروض و الوصول إلى النتائج و التعميمات. كما أن رجوع الباحث إلى الأدلة غير المباشرة من خلال رجوعه إلى السجلات و الآثار و الأشخاص الذين عاشوا الأحداث أو كتبوا عنها. لا يعتبر نقطة ضعف في البحث التاريخي إذا اخضع الباحث معلوماته و بياناته للتقدير و التحليل و التمحيص.

ب – إن التجريب هو جوهر الطريقة العلمية و الفاحص الناقد للمصادر هو التجريب في الطريقة التاريخية. كذلك مسألة الفروض و النظرية و التعميم ( ونؤكد أن اكبر نتائج البحث فائدة و دلالة تكون في التعميمات و المبادئ المستمدة من البيانات و المعلومة الحقيقية و البحث التاريخي و الوثائقي ) من هذه الناحية قد أدى إلى تعميمات و فروض كثيرة. و الباحثون في العلوم الإنسانية بصورة عامة يدركون و يلاحظون الفروض أو تغييرات الأحداث التاريخية خلال فترو معينة. بخاصة فيما يتعلق بالتصرف على كيفية و سبب وقوع هذه الأحداث. ومن الواضح أن كل واحدة من التغييرات تمثل تعميمات موضوعة بحرص و عناية معتمدة البيانات الحقيقية المستمدة من تحليل الوثائق. أي استخدام الأسلوب الوثائقي ( التاريخي ) يتضمن أكثر من مجرد تجمع الحقائق.

إن الباحث التاريخي يخضع دليله بشدة التحليل النقدي للتعرف على أصالته و صدقه و عندما يقرأ نتائجه فأنه يستخدم قواعد الاحتمالات المتشابهة لتلك التي يستخدمها علماء الطبيعة.

ج – إذا كان العالم الطبيعي لا يستطيع التحكم في المتغيرات بصورة مباشرة و بالتي فان مصادر المعرفة للنقد الخارجي و الداخلي. يتصل الأول بأصالة الوثيقة. ويتعلق الثاني بمعناها و درجة اتصالها بالحقيقة مما أشرنا إليه في موضع أخر.

د – إن المعرفة التاريخية معرفة جزئية أكثر منها كلية. ولكن هذا لا يمنع من أننا نتبع فيها كل الطرائق العلمية و نتخذ فيها كل الاحتياطيات الموضوعية. و مادامت طبيعة الحادثة التاريخية مختلفة عن طبيعة الحادثة الطبيعية فلا تستطيع أن تطالب الباحث المؤرخ بقوانين تشبه قوانين الطبيعة. إن الأسباب في الحادثة التاريخية أكثر عددا و اشد تعقيدا و لذلك ففروضه أكثر واشد غموضا و تعميماته اقل دقة و موضوعية.

و يبقى المنهج التاريخي علميا و ضروريا لدراسة نوع من الحوادث و مادام الباحث يبحث عن الحقيقة. فلا بد أن يتبع المنهج التاريخي في سبيل الوصول إلى الحقيقة التاريخية.

أهم ما ألف في المنهج التاريخي:

-1مقدمة في مناهج البحث التاريخي و العلوم المساعدة. و تحقيق المخطوطات بين النظرية

و التطبيق للدكتور حمان خلاف.

-2مناهج البحث التاريخي بين الماضي و الحاضر للدكتور مصطفى أبو حنيف أحمد.

- 3 مقدمة في البحث الاجتماعي للدكتور علي.

- 4علم الاجتماع و العلوم الاجتماعية. علاقات و مجالات و ميادين. لصلاح مصطفى التوال.

-5 مناهج في البحث في علمي التاريخ و السياسة. لشيخة البنراوي.

-6مناهج البحث في التربية و علم النفس للدكتور أحمد عاظم.

-7 منهجية ابن خلدون التاريخية للدكتور محمد الطالبي.

-8منهج البحث التاريخي للدكتور حسن عثمان.

-9محاضرات في البحث التربوي. للدكتور عبد الغني النوري.

المصدر: http://wessam.allgoo.us
  • Currently 40/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
12 تصويتات / 2252 مشاهدة
نشرت فى 17 ديسمبر 2010 بواسطة abbasallam

ساحة النقاش

دكتور عباس راغب علام

abbasallam
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

368,150