جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
قصة قصيرة
نهاية..
وسط الحديقة العامة.. وعلى كرسي مهترىء ضاق بجالسيه، يجلس عمي محمود منحنيا بظهره إلى الوراء.. يتصفح إحدى الجرائد حيث جال ببصره بالعناوين الرئيسية فقط.. ثم ما لبث أن رماها جانبا. فالجرائد في وطنه ذاتها.. لا شيء يُثلج الصدر. أخبار اليوم كأخبار الأمس.. عالم يطفو على القتلى والفقر كعادته. والهجرة والنزوح في تزايد مستمر.
كانت عيناه تكتشفان المكان يمينا ويسارا حتى وقعتا على مقهى بالجهة المقابلة.. كان شبه خال من رواده عدا اثنان أو ثلاث أشخاص راح كل منهما يجول ببصره في أركانه وكأنه يكتشفه لأول مرة. أما هو فأخذته ذاكرته بعيدا حين كان شابا يافعا وكان مالك هذا المقهى.. حيث المكان يعج بالزبائن.. أما اليوم فقد استلم هذه المهمة أحد أبنائه الذي راح يشكو ويتذمر من هذا الوضع المزري.. فلا بيع ولا شراء، وكل الزبائن اختفوا.
فمنهم من قضى نحبه.. ومنهم من ينتظر المجهول وما يحمله له.. أما البعض الآخر ففضل الهجرة إلى بلاد بعيدة لأجل حياة آمنة مستقرة.
ثم فجأة راح عمي محمود يتأمل مشهدا أخر.. أوراق الأشجار وهي تتطاير في السماء متناحرة، مودعة عرشها.. مزدانة بِصُفرة لونها. لتغفو على الأرض حيث منفاها الأخير.
أخذ حينها شهيقا عميقا ثم زفيرا تخللته ابتسامة خفيفة رُسمت على مُحيّاه وهو يتمتم: غريب أمرك يا وطني.. كل شيء فيك يُفضل الهجرة والرحيل. البشر.. أوراق الشجر.. وربما الحجر سيمّلك ويمل مكانه يوما ما.
لتراوده هو أيضا فكرة الرحيل إلى بلاد أخرى.. فلا يريد أن يكون استثناءا. ثم ما فائدة الوفاء لوطن ضاق بساكنيه، وأشبعهم موتا وتشردا حد التخمة.
ثم يعود لرشده ويلعن الشيطان وساعة هذه الأفكار:
أ في هذا السن..؟ لا لن أبرح أرض وطني.. ففي الهجرة نكران جميل وقلة وفاء وأدب. وتناس للأصل والمكان. وهذا ما لا أريده.
والناس والأصدقاء.. سينعتونني بالجبان، والهارب من الموت.
ثم إن هذا الوطن احتوانا طول العمر، وأعطانا الكثير. فكيف لي أن أملّه وأتركه وحيدا في أول محنة له.
ولنفرض أني تركته، هل سيتركني هو..؟ هل سيتحرر مني..؟ هل يهجرني..؟
لا أبدا.. سيضل عالق بي، يسكنني بالداخل.. يشاركني كل أحداثه. يؤرقني.. يسعدني ويحزنني. فهو قطعة مني وأنا قطعة منه.. وغياب أحدنا ضياع للآخر.
وأي منفى وأي أرض تحتويني وتكون أحّن علي من أرض وطني.؟
لن أحذو حذو الآخرين.. ربما سيكونون سعداء هناك. لكن دون معنى.. لأنهم لا يفقهون معنى أن تموت في سبيل من تحب.
لن أتركه وليكن ما يكن.. فما يفعله هؤلاء البشر هو تنفيذ إرادة الله لا أكثر ولا أقل. ولا مناص من حكمه.
ثم يستفيق من حلمه هذا ويَعدل عن فكرته الأخيرة ويضرب بها عرض الحائط. ليعود مرة أخرى إلى التفكير بالرحيل. ثم ما يلبث أن يلعن هذه الفكرة مرة أخرى.
ظلَ على هذه الحالة عدة أيام.. سابحا في دوامة أفكار، تتضارب فيما بينها.. بين أخذ ورد من رحيل وعدمه.. ذهاب وبقاء. لتبقى قصة الهجرة مجرد سجينة فكر.. تنتظر منه التحليق بسماء الواقع وأخذه بعيدا لديار الغربة.
كعادته اليوم وبنفس المقعد يجلس متأملا المكان.. فجأة تتسلل حبات مطر مبلّلة أوراق الشجر المتراكمة على الأرض منذ أيام.. مما ساعد على التصاقها بالتربة جيدا، فكان هذا بمثابة تشييع لجثمانها الأخير.
كل هذا كان يحدث أمام مرأى عمي محمود الذي لم يأبه للمطر وهو يبلِّله إلّا حين اشّتد
غزارة.. لينهض بعدها متكئا على عكازه، وبخطى متثاقلة يهُم بالعودة للمنزل.
في صباح اليوم الموالي.. المكان خال تمام من الناس. والمقهى مغلق وقد علقت على بابه ورقة صغيرة كُتب أعلاها: إعلان وفاة..
نعم.. وفاة عمي محمود.
وأخيرا نال شرف الهجرة الذي طالما حلم به.. ومارس الهجران الذي تمناه.
ليُحلق بعيدا عن هذا الوطن. لكن ليس لديار بلد أخر..
فكف القدر كانت سبّاقة في أخذه لدار الحق.
- بقلمي.. سمير دعاس