قراءة ونقد في قصيدة الشاعرة الأستاذة حميدة العسكري 
" في الامتثال" 
............................... الناقد مهند طالب هاشم
" في الامتثال"
ربما توجَّعَ نبيُّ وحيِها ، وربما مرّتْ عليه ..
سحابةً عابرة ! ....
يامَنْ تَشهّى ظُلمَ اخلاصٍ مِثالي
حاشاكَ جَوْرا ان تُكنْ أصلَ اعتلالِ
"عيناك" أُقسمُ اِنّما وَحيُ التداعي عندما هبطَتْ قوافي الارتجالِ
مِن فوقِ سبعٍ في عقاربَ عُدّةِ الساعاتِ اذْ باعدْتَ أرصفةَ احتلالي
اذْ أنَت تأمرُ نبضَها وَصْفا تَرى
فيه استعادةَ مشهدٍ بشريطِ بالي
في رنةِ الارسالِ تذكُرُ زجَّها؟
"عمري صِفيها " ...عَزَّ وصفي يا مُحالي!!!!
يا انتَ في تكويرِها يا بؤرةَ الضوءِ الذي ما شابَهُ داجي الليالي
فوصفتُها شغَفي تكوَّرَ حولَ كونِ الكونِ في داني الجَنى بِفمِ السِّلالِ
ما بالُ ذاكرةِ الهوى شَجَبَتْ قُلوعَ تَطوّعي فتحطَّمَتْ والموجُ عالِ ؟
قد أشرَكَ الجوّالُ "كُفرا" حينَ سجدةِ اصبَعٍ سهْوا فهلْ كَفرَ اختزالي ..
اِيّاكَ عينَ القلبِ وِتْرَ فُروضِهِ
بِتعبُّدي أو شفْعَهُ بِمَدى ابْتهالي
خُذْها مِزاجَ الدمعِ لهفةَ مهجةٍ
صَفَّتْ بنبضةِ أبهرٍ نبضَ ارْتجالي :
"عيناكَ قاربُ رحلتي نحوَ اكْتمالي
ويداكَ دِفءُ الكونِ يختصرُ اشْتعالي"
وأنا وأنتَ أنايَ خُذني ذاهِبا
منّي اِليكَ لِأحتَفي بي في وِصالِ
عيناكَ فكرةُ سائحٍ غجريةٌ
في الرملِ خَطّتْ خطوَها بمدى الخَيالِ
وأنا هُنا رُطَبُ الجَنى في نخلةٍ
مُتساقِطٌ بفخاخِ رِمشِكَ ، ما اْحتيالي؟
عيناكَ تقترحانِ نحْرَ تصبُّري
فأرى ثُمالةَ كأسِهِ تأسُو لِحالي
وهُما أعادا لي فقيدا مِنهما
موشورَ ضوءِ الروحِ يمتشقُ اللآلي
فـــــــتعالَ كنْ لي قاتِلا اِرهابُهُ
غفرَتْهُ أنظمةُ الحنانِ رَضيةً بعدَ احتلالِ
لِأصوغَ بعدَ تكسُّرِ الأضلاعِ مني دمعةً زانَتْ "أسىً" جِيدَ احْتمالي
حميدة العسكري / نيسان 2015
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العنوان اخذ حيزا كبيرا في الدراسات الحديثة حيث أُعتبر العتبة الأولى في النص التي تعكس الكثير من الدلالات المعرفية المشتقة من النص وحيث يساهم العنوان في توضيح دلالات النص وفتح مغاليقه والاشارة أليه من حيث التركيب والفهم والتفكيك وسبر اغوار المعاني فيه , كما انه اداة يتحقق منها مقروئية النص وانساقه ومقاصده والعلاقة القائمة بين المضمون والمعنى بالحيز الكلي والجزئي , وهنا تأتي منهجية سيميوطيقية تتفرع الى ثلاث مراحل هي البنية والدلالة والوظيفة , فالعنوان ليس محصورا كشكل تعريفي للنص بقدر ما هو عنصر موازي وضروري في بناء الدلالات وتفكيك العتبات النصية وما يصاحبها من استكشاف للدوال تتموقع في حيثيات النص , لقد اهتم الباحثون كثيرا في العنوان وخصوصا المعاصرون منهم لدراسة السميولوجية التي تناولت العنوان باعتباره عنصر مهم وفعال وضروري في استكشاف الدلالات المركزية التي ترتبط مع النص , لذلك كان للعنوان اعتبارا اخرا وهو انه يمثل نصا اخرا في النص من حيث ثنائية الاندماج والتآلف ,
" في الامتثال" عنوان يحتوي رؤى عميقة الأبعاد على ما تضمنه من معانٍ واسعة الطيف تعكس مضمون النص وما يليه من لواحق يترجمها لنا النص فنجد الرابط والعلاقة بين النص والعنوان قد تلاقحت ضمنياً في مدلولاتها ودوالها المعرفية . وهنا نجد العنوان هو الخضوع والاستسلام للواقع فكلمة أمتثال تعني في قاموس اللغة " اسم " ( مصدر اِمْتَثَلَ ) لَمْ يَكُنْ أمَامَهُ إلاَّ الامْتِثَالُ لِقَرَارِ الْمَحْكَمَةِ : أَي الخُضُوعُ ، الانْقِيَادُ, الامتثال أي الطاعة , وهنا نحتاج النص لنعرف ماهية الطاعة والخضوع للواقع الذي استسلمت له الشاعرة وتحدثنا فيه عن رؤيتها الشعرية في هذا النص .
النص :
البحر الكامل / الضرب : مرفل .. دخله الإضمار
أصل بنائه :
مُـتَفاعِلُنْ مُتَفاعِلُنْ مُتَفاعِلُنْ *** مُتَفاعِلُنْ مُتَفاعِلُنْ مُتَفاعِلُنْ
تقول الدكتورة "بشرى موسى" (جاء اهتمام (القارئين) بمظاهر النص كلها: شكل الحروف، علامات الترقيم، علاقة البياض بالسواد، النقاط، القطع، التدوير.. الخ، للوصول نحو الغرض الاستكشافي فإن القراءة: (تقترح مفاتيح خاصة ليست هي مفاتيح الآخرين، وتبتكر الى النص طرقاً جديدة ليست هي طرق الأخرين).
تعطينا هنا الشاعرة موحيات ذات خطاب انزياحي ذاتي التعبير , فهي السائل وهي المجيب في هذا النص ولم نجد هنا مسمى آخر يكون الخطاب موجه اليه انما هو سرد شعري مبني على الاشتغال الذي تنحصر في طياته كل السردية أشبه بالمونو دراما التي يكون فيها البطل ممثل واحد يتحدث عن كل المسرحية وينهيها ويكون كل الموجودين فقط اجساد تتحرك والبطل وحده المتحدث , ومن هذا ندرك نوع السرد الشعري واشتغالاته الوصفية , لا اريد تأويل النص قراءياً فهذا حق المتلقي في تحديد ماهيته , ولكن سوف أسلط الضوء على ادوات الشاعرة في تشكيل هذا النص , اذا نجد ((ربما توجَّعَ نبيُّ وحيِها ، وربما مرّتْ عليه ..
سحابةً عابرة)) وهنا تعطينا رمزية متوسطة ذات تشبيه قريب يسهل ادراكه فكلمة ((ر بما)) تعطيها الاحتمال القائم على العذر او الاحتمال القائم على الحيرة , نلاحظ ((ربما توجَّعَ نبيُّ وحيِها)) المقصود هنا بالنبي هو العقل والوحي الفكر فيأتي التوجع التعب الارهاق الألم الذي يسببه كثرة التفكير والتركيز على حدثٍ ما ((وربما مرّتْ عليه ..سحابةً عابرة ! ....)) ثم يأتِ احتمالٌ أخرٌ يفك قيد الحيرة , ليصير التصريح تلميحاً ,(( حاشاكَ جَوْرا ان تُكنْ أصلَ اعتلالِ "عيناك" أُقسمُ اِنّما وَحيُ التداعي عندما هبطَتْ قوافي الارتجالِ)) ينطلق السؤال الفاتح للحالة الشعرية للغربة وتتفرق , الصورة مفعمة بالجمال ، لا ينتقص من جمالها الإقرار في الفعل (( أُقسمُ )) إقرارا لا يقبل الشك ، ولا بأس لأن التجربة تتحرك في واقع الحياة تحوله إلى هذا النص, تصادم المنطق تصادم العقل والفكر بالعاطفة والبديهة والموهبة والتلقائية ((مِن فوقِ سبعٍ في عقاربَ عُدّةِ الساعاتِ اذْ باعدْتَ أرصفةَ احتلالي , اذْ أنَت تأمرُ نبضَها وَصْفا تَرى , فيه استعادةَ مشهدٍ بشريطِ بالي)) إن تحديد الوقت بالساعة يدل على أن الأمر يشير الى نضج في مخيلة الشاعرة, وأن الأسى والحزن قد وصل إلى حده النهائي, ولم يبق إلا فعل التعبير عن النفس, فاليأس والحزن في تطور وتكاثر بما يفوق الاحتمال , نحن أما صراع واضح بين الماضي والحاضر , أو بين زمكانية الشاعرة وذاكرتها , نجد ((اذْ أنَت تأمرُ نبضَها)) وارتباط دلالاتها بكل الألوان, ولكنها تتوشح هنا بثوب الذاكرة, فالشاعرة ترى كلَّ شيء يتراءى لها صوريا في ذاكرتها .(( ما بالُ ذاكرةِ الهوى شَجَبَتْ قُلوعَ تَطوّعي فتحطَّمَتْ والموجُ عالِ)) تتراقص الجُمل بإيقاع حزين, أشبه ما يكون بمعزوفة اللحن الأخير, إنه إيقاع داخلي جنائزي ذاتي حزين, والنص يفيض بالإيقاع الداخلي المدهش لكلماته التي تتحرك بهدوء , مع أن النص سريع الحركة أمام عيوننا, ولكنّ الملاحظ في القراءة نجد ان السطر مع سرعته إلا أنه بطيء جداً في التخيل والتنفيذ, ((قد أشرَكَ الجوّالُ "كُفرا" حينَ سجدةِ اصبَعٍ سهْوا فهلْ كَفرَ اختزالي)) إن الصورة الشعرية لعبت دوراً بارزاً في إيصال الفكرة وارسالها والدهشة التي لازمت التساؤول, وهي التي تؤكد الشاعرية وشعرية القصيدة , وأرتبطت الصورة الشعرية ارتباطاً وثيقاً بالإيقاع الداخلي للنص, أن الموسيقى استأثرت بمصطلح الإيقاع منذ بداية النص , الشاعرة ترسم صورة شعرية مدهشة جداً, تبدأ بدعوة إجبارية للرسم وبتحديد زمن محدد له, فكلمة ((أشرَكَ الجوّالُ)) كانت ضابطة لإيقاع القصيدة ((فهلْ كَفرَ اختزالي))وهي القائدة الفعلية لفاتحة الإيقاع الداخلي, ثم تنقلك الشاعرة إلى جو التلاشي والبرودة . ((خُذْها مِزاجَ الدمعِ لهفةَ مهجةٍ
صَفَّتْ بنبضةِ أبهرٍ نبضَ ارْتجالي)) الشاعرة تحَدث الانفعال وتؤثر , تتجاوز حدود الشعرية ويمكن عدها وثيقة احتجاج مما زاد من تألقها الشعري ومن دلالاتها في التعبير عن مكنونها فأحدثت لدى القارئ تخاطر انفعالي , إنها اشبه بمرثية ذاتية ترسمها الشاعرة في نص ذا نبرة حزينة ملؤها الألم، إنها بكائية الشاعرة التي أطلقت زفراتها حارة تعبّر عن حالاتها الانفعالية النفسية وهي ترى مهاترات الواقع بغير صورته المعهودة فهي تعيش الم هذا الواقع .(( في الرملِ خَطّتْ خطوَها بمدى الخَيالِ ..وأنا هُنا رُطَبُ الجَنى في نخلةٍ ..مُتساقِطٌ بفخاخِ رِمشِكَ ، ما اْحتيالي؟
عيناكَ تقترحانِ نحْرَ تصبُّري ..فأرى ثُمالةَ كأسِهِ تأسُو لِحالي )) تبث الشاعرة القلق والحيرة في النص، إنها متألمة كتومة ولكن غير يائسة متحسرة ولكنها لم تفقد الرجاء , قد فجرت الدلالات في خلجاتها لتوحي بمعنى الضياع والقلق فهي كغيرها من الشعراء تعيش حالة من القلق النفسي والغربة والضياع الذي يفجر في داخلها هذا التمرد، تمرد على كل شيء, إن الغربة التي تعاني منها الشاعرة ما هي إلا غربة نفسية أفرزتها جراحات الذات فهي غربة الكلمة والمصير والضياع فهي تحاول إيقاظ المشاعر التي شاخت وهرمت وانطفأت فيها جذوة العزيمة.(( فـــــــتعالَ كنْ لي قاتِلا اِرهابُهُ ..غفرَتْهُ أنظمةُ الحنانِ رَضيةً بعدَ احتلالِ ..لِأصوغَ بعدَ تكسُّرِ الأضلاعِ مني دمعةً زانَتْ "أسىً" جِيدَ احْتمالي)) الشاعرة تكتب تصوراتها وكأنها صور ناطقة تحاكي الواقع والقارئ لتخلق علاقة خاصة بين النص من جهة والقارئ من جهة اخرى وهي تتمتع بأسلوب خاص في صياغة واختيار أفكارها وكلماتها عند مخاطبة حالها , الأسلوب الذي اعتمدته الشاعرة يثير لهفة القارئ لأنها توظف دلالة الكلمة في الصورة الحسّية معتمدة على المزاوجة بين الخيال والواقع في رسم صورها الشعرية التي تكتبها بانفعال عاطفي واضح، نابعة من مصداقية ذاتها المتشبعة بطيبتها الفطرية, لذا فقد حملت أحاسيسها في هذا النص الذي حمل دلالات هذا الحب, إنها هواجس واحتشاد موجع للنفس، وزفرات للحب وانين اغتراب تسوقها الشاعرة في نصها , ويبقى صوت الشاعرة هو وحده يعرف المعنى الحقيقي الذي يتحكم في جميع حركات كلماتها مازجا الذات بالموضوع وهذا الصوت هو عبارة عن تصحيح للواقع المهزوم ولهذا الإنسانة المسحوقة، فنبرة الشاعرة التي تلف النصوص تمكنها من استيعاب حركة الصراع ببعديها "الذاتي_ الموضوعي" تستوعب في صلبها مفارقات الحياة فكل ما فيها يوحي بحركة الجدل التي تعمل في الواقع لذا فهي توظف الألفاظ التي توحي بالمفارقة وما ينتج عنها من صراع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرؤى :
النص حمل استعارة وتشبيه وتجسيد عالي المضمون وكان ذا لغة فارهة وفاخرة من حيث الفصاحة والبلاغة التي اعتمدتها الشاعرة في تشكيل جُملها الشعرية ونجد ان الايقاع الشعري قد تضمن لغة ذات مجاز مكثف ورمزية معتدلة تناسقت مع المعنى لتعكس مفهوما واضحا لا يرهق المتلقي لفهمه او استدراكه او استنباطه , الشاعرة حميدة العسكري قدمت لنا هنا نص فاخر وجميل بكل محتوياته وادواته الشعرية كالصورالشعرية وعنصر الدهشة والضربة الشعرية والموسيقى , ليجد القارئ نصاً ثرياً مفعماً بانفعالاته التي تجعله يعيش في ذات الشاعرة يتموسق معها قراءيا ويتموضع في المعنى المراد ايصاله دون تكلف في احتواء المعنى , ولمعرفة عناصر الصورة الشعرية وإدراك خصوصياتها يقتضي معرفة حالة الشاعر الشعورية التي بلغت بها الذروة عند كتابة القصيدة وهذا يتطلب وجود حسّاً خاصاً لدى المتلقي يمكنه من الإحاطة بتفاصيل عالم النص ليكتشف قسماتها الظاهرة وينفذ إلى زواياها الباطنة ليكتشف وحداتها الدلالية ومنابع الإشعاع الشعري , إن النظرة الكلية للنص كوحدةٍ كاملةٍ, يعني إن لها منطقاً خاصاً فهي تعبّر عن حالات وجدانية ذاتية متوهجة وتطلعات روح الشاعرة وخلجات نفسها ونماء فكرها، كما تعكس لنا إيماءات المكان والزمان وهذه النظرة الكلية تقودنا مكانياً وزمانياً إلى منبع العطاء الفني والنظام اللغوي فندرك عندها العلاقات والتأثيرات التي من خلالها تمارس القصيدة سلطتها على القارئ.

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 537 مشاهدة
نشرت فى 4 يونيو 2015 بواسطة WWWkolElkhwater

مجلة كل الخواطر

WWWkolElkhwater
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

548,288