جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
ولادة مدينة _ (الثورة )
قصة قصيرة ــــــــــــــــــــــــــــــــــ مهند طالب هاشم
"
"
في ميسان , أجدادي قد أرهقهم الطوفان كثيراً , في كل مرةٍ يبتلع مزروعاتهم ويهدم بيوتاتهم ويقتل مراعيهم , لم يكن هنالك من سدودٍ تحمي هذه البقعة من الأرض , فهي في صراعٍ مع المدِّ والجزرِ , لقد ضاقوا ذرعاً بهذا الحال رغم جمال الحياة وروعتها لولا هذا الطوفان المشؤوم , أجتمعوا ذات يوم عند جدي الذي هو من أشراف المنطقة ووجهاءها , كان الأجتماع ضم كبار البيوتات والمناطق الأخرى التي تضم قبائل وعشائر مختلفة كان محور الأجتماع هو الوصول لمخرج من هذا الوضع المتعب الذي كلفهم الكثير , وفي بغداد كانت الحياة بدأت تستعيد عافيتها في ظل الحاكم عبد الكريم قاسم العقيد العسكري الشيوعي , كان محبوبا جدا من العراقيين بل رمزا للعدالة والأبوة التي اغدقها هذا القائد على شعبه , في عهد عبد الكريم قاسم تنفس العراقيون الأمل فقد كان هذا القائد قد تعاقد مع شركات كبيرة وكثيرة لتطوير البلد وأزدهاره , ولما أطمأن الناس في دولته بدأت الهجرة الى بغداد تزداد بكثرة طمعاً في قربهم من هذا القائد الأب الذي كانت تتجسد فيه كل قيم القيادة والرعاية لشعبه , وقد تكونت مدن جديدة في داخل بغداد على شكل عرصات والعرصات هي بيوت غير نظامية عشوائية مختلفة البناء والتكوين , فكانت في مناطق متفرقة هنا وهناك تضمنت قبائل وعشائر من الوسط والشمال والجنوب , كان سكنة بغداد بعضهم من اليهود والمسيحيين وبعض الطوائف كالمندائيين والصابئة اما السكان الأصليين فهو فراتيين أوسطيين جاءوا من القرى والاقضية القريبة من على نهر الفرات وقد كانوا يعرفون بالبغداديين او البغاغدة واغلبهم هم من الزّهاويين , يتحدر آل الزَّهاوي مِن أرومة كُردية لكن العِراق جعلهم في منأى عن الصِّراع القومي مِن دون نسيان الأُصول والسَّكن القديم ببغداد يؤثر في النُّفوس ويميل بها إلى التبغدد والمفردة قديماً تعني التَّمدن وإن للتَّوحيدي (ت 414 هـ) طنباً مع هذه المفردة (الرِّسالة البغدادية). من آل الزَّهاوي المتدين إلى حد الدَّروشه مثل الشَّيخ أمجد الزَّهاوي (ت 1967) وكان والده مفتياً لبغداد أما هو فاكتفى بالقضاء والمحاماة ومنهم السَّائر على خطى تشالز دارون (ت 1982) ونظريته في أصل الأنواع مثل الشاعر المتفلسف جميل صدقي الزَّهاوي (ت 1936).
كما ان الفيليين هم الاكثرية الكوردية التي سكنت بغداد ولهم تاريخ طويل في هذه البقعة وما زالت بيوتاتهم موجودة واثارهم في تلك البيوتات والفيلية هم كورد شيعة لهم جذور في ايران وكل مناطق العراق الوسطية والجنوبية والشمالية بل هم السكان الاوائل للكورد في العراق , اما الشماليين فقد كانوا بمنأى عن الوضع السياسي الداخلي أي انهم منعزلون اقتصاديا واجتماعيا عن مدن العراق الاخرى مع عدا التجارة التي كانت تأتي من خلالهم او تذهب لهم من خلال منافذهم مع الدول المجاورة .
بعد ان أجتمع أجدادي ذلك الاجتماع العشائري قرر اغلبهم الهجرة والنزوح الى بغداد خصوصا عن ما يسمعونه من اخبار طيبة ومطمئنة عن هذا القائد الرائع , فمنهم من قرر البقاء ومنهم من هاجر ولا ننسى ان الوضع كان مزري في الجنوب البطالة والجوع والخوف من الفيضانات دفعتهم للنزوح الى بغداد , فكان أجدادي ضمن تلك العرصات التي تكونت وتجمعت هنا وهناك وقد استقروا هذه المرة في محل ملعب الشعب الدولي حيث لم يكن موجود هذا الملعب حينها وهذه البقعة كانت مكتضة بالعرصات , ثم قرر الزعيم القائد عبد الكريم قاسم تخليص الناس من هذه العشوائية التي يعيشون فيها لان العرصات كانت فوضوية البناء والتكوين وهنا انطلقت فكر توزيع الاراضي على الناس وتقسيمهم الى مدن متفرقة ولكنها نظامية مدروسة بدقة , وكان اجدادي ضمن التوزيع الذي وضعهم في مدينة (الثورة ) نسبة الى ثورة العشرين التي تم توزيع رقعتها الجغرافية الى ثلاثة شوارع رئيسية هي ( الداخل- والفلاح - والجوادر ) على يد وزيرة البلديات نزيهة الدليمي ومن هنا بدأت ولادة مدينة (الثورة ) التي انتقلت فيها الاسماء لكنها بقيت الثورة ومن اشهر اسمائها (الرافدين - مدينة صدام (المقبور) واخيرا -مدينة الصدر - نسبة للسيد الشهيد الثاني محمد محمد صادق الصدر رحمه الله )وهي ذاتها الشوارع الرئيسية الثلاثة ,. كان كل شيئ معد للتمدن والتطور فقد أسس القائد عبد الكريم قاسم مشاريع كبيرة لانجاح السكن في بغداد وخصوصا مدينة الثورة , لكن الوضع السياسي تغير عندما قام البعثيون السفلة بأغتيال هذا الأب الكبير ليستولوا على الحكم وتبدأ ديكتاتورية البعث العفلقي السفاح , عندما استولى البعثيون على زمام الحكم في العراق وجدوا كل المشاريع التي خطط لها القائد المغدور العقيد عبد الكريم قاسم على ما يقوله المثل الشعبي (حار ومكسب ) لقد وجدوا مشاريع جاهزة وكاملة للنهضة بهذا الوطن , وباشروا بتحقيقها مما جعل الناس تعتقد ان هؤلاء مصلحون وانهم حزب بنّاء لهذا الوطن , حتى اذا ما استقروا بدأوا بفرض سلطتهم الغاشمة من التسلط على رقاب الناس والنكد عليهم والاساءة ومصادرة الرأي وفرض القوة على الانتماء لهم , وبعد سنوات تلاشت الاحلام في هذه المدينة وتحولت الى مدينة مضطهدة تعاني اسوء العذاب بل اسوء من الفيضان نفسه اسوء من الجوع , بدأت المدينة تعاني الخوف والقلق والموت على ما تحويه من شخصيات لها باع في السياسة ورفضت النظام البعثي وحاولت بكل قوة من خلال الشيوعيون ومن خلال حزب الدعوة هذين الحزبين هما كل مكونات هذه المدينة السياسية المعارضة للحكم البعثي التي امتدت معارضتها الى مدن اخرى وقد صدرت قضيتها الى مدن العراق كله , لكونها ذات جذور تعود للجنوب والوسط .
كنت صبياً لكني أعي وافهم كل مافي هذه المدينة عن ما اسمعه من الكبار فيها , كان في هذه المدينة الكثير من الاسماء المشهورة التي فرضت نفسها لتكون مناطقها باسمها مثل مريدي او شارع السادة او جمالة والعورة وسفارة الكيارة وسينما علاء الدين وسوق الوحيلات وساحة الفتيان ودكتور ناهض وسوق عريبة وجامع سيد حسين الاورفلي كسرة وعطش كان هناك شخصيات مشهورة ايضا في المدينة ففي كل منطقة او (قطاع) وهو الاسم الدلالي لمجموعة بيوت تقدر بـ 800 بيت كان لكل قطاع مجنونها او عبقريها او فنانها او رسامها او شاعرها , كان (كينفذ ) مجنون مشهور في مدينة الثورة وقد لمح البعض انه يدعي الجنون لاسباب يجهلها الناس .
وكذلك شخصية (ابو كرك ) يعني ابو مسحاة وهو رجل خمسيني العمر كان من شخصيات المدينة التي يشار لها بالضحك والتحشيش .
كان هنالك نساء غجريات متجولات في المدينة مهنتهن بيع الاسنان الذهبية والعاجية اسنان فارغة يتم تركيبها على السن التالف كبديل له او كنوع من الجمال للابتسامة وهن يمارسن هذه المهنة رغم انها اختفت الان بوجود التمدن .
وايضا هنالك شمهودة المرأة (اللطامة ) التي تلطم في مجالس العزاء التي تذهب الى اي مجلس عزاء وتلطم فيه من اجل ان تحصل على لقمة لها تسد به جوعها او تاخذه لاهلها , واخيرا تركت الحياة شمهودة اللطامة عندما اغتالتها سيارة مفخخة ولم تجد من يلطم عليها رغم انها لطمت في اغلب عزاءات المدينة .
اما الشخصيات الراقية في هذه المدينة فهي مذهلة وكبيرة جدا اكاد اعجز عن ذكرها , لانها شخصيات كبيرة في كل المجالات الفن والادب والسياسة والاقتصاد والاجتماع والفلسفة والتربية , لقد اخرجت هذه المدينة عمالقة في شتى المجالات وبنفس الوقت خرج منها شخصيات تافهة جدا اساءت للمدينة كثيرا وشوهت سمعتها , لكن الغالب على المدينة هو طابع الخير والمحبة فكل من يجد نفسه ي هذه المدينة سيجد الحرية والطمأنينة والمحبة الناس رائعون جدا يساعدون اي محتاج ويقفون الى جنبه وهم اجتماعيون محبون للجلسات والحوارات والنقاشات ولديهم روح التعاون والمؤاخاة , في هذه المدينة ولدت انا وانتمي لها بكل فخر واعتزاز , لقد قدمت هذه المدينة ما لم تقدمه اي مدينة في العراق اطلاقا فهذه المدينة ذات الكثافة السكانية الكبيرة التي هي اكبر من شعب دولة قطر والبحرين والكويت , انها مدينة الابطال والشهداء , من كل الاحزاب قدمت تضحياتها من الشيوعيين والدعوة ثم تلاها الاحزاب الاخرى المتأخرة المعاصرة ,بقيت هذه المدينة من عهد الستينات ولحد الان تعاني الاهمال ولم ترتقي الى مستوى المقبولية لدى الناس ولكثافتها السكانية فان خط الفقر مال زال ممتد في قطاعتها وبيوتاتها .
ولدت هذه المدينة ولكنها ما زالت شابة فهي لا تشيخ ابدا.
انتهى\ بقلم الكاتب مهند طالب