في عالم معجون بالتملق وزيت الخرافة، تصبح الحقيقة سلعة كاسدة على الأرصفة القذرة، في حين تتولى الميديا الموجهة حشو رؤوس المواطنين الفارغة بكل غث. وفي بلاد يتم تسييل الحقائق فيها لتصبح قلائد كاذبة حول أعناق الجلادين، يغامر الصحافيون بألسنتهم وأرزاقهم حين يتتبعون آثار الخبر بغية الوصول إلى فخ الثعالب. فمنهم من يعود بعضة، ومنهم من لا يعود. وتكريما لهذا الصنف من هواة التلسق فوق أسوار المحظور، احتشد خمسمئة مغامر في محفل كبير بالعاصمة الكندية.
وفوق منصة التكريم، وقف أحمد شيخ ليصرخ في حشد من المسحوقين: "أنا صحفي، ومهمتي أن أقول الحقيقة." لكن الصحفي التركي الذي قضى عاما خلف قضبان زنزانة تركية ضيقة، لم يجد من التصفيق ما يكفي للترويح عن روحه المكدودة، أو لمسح بصمات الجلادين من فوق إنسانيته المهانة. ولأن الرجل يعلم جيدا أن التكريم لن يدوم طويلا، وأنه سيعود مجددا ليقف أمام فريق الاتهام نفسه ليواجه اتهامات بالإرهاب تصل عقوبتها إلى السجن المؤبد، لم يفرح أحمد بإكليل الحرية الذي وضعته حول رقبته المعروقة مؤسسة كندية غير ربحية تقديرا لموقفه. كتابان وسلسلة من المقالات الحرة كلفتا أحمد شيخ عاما من الحزن والنفي، وما خفي من الأحكام كان أغلظ وأقسى.
يوما استدار أحمد ليواجه بوابة السجن من الخارج لأول مرة، وليقسم أن يضع القاضي والمحقق والشرطي الذين تآمروا على صوته في زنزانة مماثلة. لكنه ربما يجد نفسه قريبا مضطرا للتكفير عن قسمه بصيام طويل مع رفاق المحبس من الصحفيين الذين تجاوز عددهم الخمسين داخل السجون التركية. ربما لن يمر أربعاء آخر على الرجل الواثق بتاريخ العدالة في بلاده قبل أن يجلس القرفصاء فوق بطانيته القذرة ليسمع شخير حارسه غير الأمين.
في تورونتو، وعلى بعد فراسخ من بلاد لا كرامة فيها لصحفي، ارتفعت صيحات خمسمئة حنجرة محتقنة تطالب بالقصاص من الطغاة وأذنابهم في المحاكم والنيابات ودور القضاء، وتناشد الأمم المتحدة والمنظمات الدولية بالتدخل من أجل حماية رقاب الكلمات من مقص الرقيب. لكن أصواتهم المبحوحة لن تغني من حبس انفرادي جائر، وصفعات إجبارية من الأكف الغليظة.
يوما حاول أحمد أن يتجاوز بكاميرته أسلاك المحظور، وبالفعل تقدم الشاب خطوات جريئة في طريق مختلف لم يسبقه إليه مغامر، فأغضب عسكر بلاده، واتهم بالتآمر ضد الأمن والسلم الأهليين، وتحولت القضية من قضية رأي إلى تهمة تخابر. وزاد طين تهمه بلة كتابه "جيش الإمام" الذي عوقب على نشره بالسجن عاما مع النفاذ عام 2011.
لماذا يكرم الباحثون عن الحقيقة في تورونتو ويهانون ويسجنون ويقمعون في بلادنا؟ ولماذا تصم أمريكا آذانها، بل وتتدخل أحيانا لإيقاف أحكام بالبراءة على بعض صحافيينا كما حدث مع الصحفي اليمني عبد الإله حيدر شائع حين تدخل أوباما شخصيا لإعادة البدلة الزرقاء إليه بعد أن قام بتسليمها لإدارة السجن؟ وكيف يمتلك الصحافيون في بلادنا رؤوس أقلامهم وهم لا يأمنون على رؤوسهم من مشانق الاتهامات المعلقة فوق جدران العدالة الغائبة؟ ومتى يمتلك الصحفيون المحررون أقدامهم ليقفوا فوق منصات بلادهم لتكرمهم على جهودهم المضنية في البحث عن الحقيقة؟ وإلى متى يستمر مسلسل الحبس في اسطنبول والتكريم في تورونتو؟
عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات