جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
إن سبب ذلك قد يعود إلى ما أصاب العقل المسلم في العصر الحديث من اختلالات وبدع فكرية وفلسفية لم يكن لها سابق وجود لا في عهد السلف ولا في عصر الخلف، والتي حصلت بموجب عوامل ذاتية وموضوعية لعل أهمها غياب الكدح، وقلة اقتحام العقبات، وتفشي ظاهرة الوهن، والإخلاد إلى الأرض، وحب الدنيا وكراهية الموت، وكذلك التحامل المستميت لأعداء الأمة وتلاحق سلسلة تآمرها وكيفيات وأشكال استعمارها، من الاستيطان إلى تغيير العقليات وتشويه الذهنية العربية والإسلامية العامة، حتى تتهيأ للصيغ الفكرية الوافدة والرؤى الأيديولوجية والتيارات الهدامة المتعددة. فإعادة بناء العقل العربي الإسلامي وتجديد صياغته وفق منهج الإصلاح الإسلامي، يعد من أعظم المهام الاجتهادية المنوطة بدور الخاصة من الأمة، مجتهدين ومصلحين، وقادة ودعاة وخبراء وغيرهم، بل إنه الهدف الأكبر والإطار الأجمع الذي ستؤول إليه كافة الإصلاحات والاجتهادات، العامة والخاصة، الكلية والجزئية.
وليس هذا بدعًا، فهو متوارث نقلاً وعقلاً، فمن جهة النقل نلحظه في الخطاب المكي كما ذكرنا، حيث عمل في تلك الفترة على صياغة العقول، وتزويدها بالعقيدة الإسلامية الصحيحة المخالفة للبدع والهفوات الفكرية الموجودة عصرنا على نحو الشرك وعبادة الأوثان، والاستقسام بالأزلام، والتطير، والتعصب للقبيلة، والتشفي والثأر، والتنابز بالألقاب، وغير ذلك من النعرات الجاهلية والممارسات الشركية والعرفية والسلوكية، التي خالفت في طبيعتها ومنهجها وكيفيتها طبيعة الاعتقاد السماوي السليم وخاصية التعبد الإسلامي الموزون. أما من جهة العقل، فهو معلوم ومعقول أن تكليف مَن ليس له عقل أو من لم يتهيأ عقله بعد، سواء بعدم نضجه بتمام البلوغ أو بتمام الاستعداد والاقتناع، هو في حكم تكليف المجانين والبله الذين وإن كان لهم عقل فهو في عالم المادة أو الحس، المتمثل في كتلة المخ المحفوظة في الدماغ، وليس عقلاً يتمثل في ملكة الفهم والاستيعاب والتمييز والتفكي .
إن هذه الصياغة الجديدة للعقل لها مهمتان اثنتان:
_ إعادة التأصيل للعملية العقلية، حتى لا ينظر إلى القواطع والثوابت على أنها مما يعاد فيه النظر تحت ضغط الواقع وتأثير المتغيرات ومواكبة الحضارات والتطورات، فواجب العقل الخاص والعام التحرك في إطار المنظومة الشرعية والأبعاد الدينية والاعتقادية والأخلاقية، وفي اتجاه تقرير حق الخالق في العبودية والإلوهية الحاكمية والتصرف.
_ إعادة المعاصرة ، وتأكيد واقعية العقل وتفاعله مع الظنيات الاجتهادية المحكومة بالمقاصد الشرعية المنضبطة، ومناظرته للمستجدات والتطورات، واتسامه بالنزوع نحو العلمية والتخصصية والعملية والتجاوب مع فوائد الحضارة المعاصرة، والأخذ منها بأقدار مصلحية تستجيب للضوابط الشرعية والأخلاقية والحضارية .
ولعل من ضروب ذلك، الاستفادة مما توصلت إليه الحضارة المعاصرة من معارف ومعلومات عقلية يقينية أو قريبة من اليقين، يستعان بها خصوصًا في الترجيح والتغليب، شريطة أن لا تزل بها الأقلام والأقدام، وأن لا تبنى المقاصد فيها على المزاعم والأوهام.في ظل هذه الحالة كان التوق لعقلانية إسلامية عربية راشدة تنقل الشعوب من مصاف الانفعال الفوضوي إلي مصاف الانفعال النهضوي، فالإنسان كائن عقلي والعقل لديه هو سلطان وجوده كما قال الإمام محمد عبده-رحمه الله..وبدون العقل يفني الإنسان بفنائه لنفسه..فهو ميزانه ودليله..وليس أسلم للإنسان من حِكمة بالغة ووعي راشد خاصة في هذا الوقت..ليس هذا تأليها للعقل..فالعقل مرتبط بمصادره المعرفية التي تضم مصادر أخري كالنقل والوحي..وعليه فبرهان العقل ليس شرطا أن يُحمل علي تصور ذِهني تنظيري غير تجريبي..فكفاية الوحي والنقل تجعله متحد مع نفسه وبالتالي يَخلُص إلي نتائج –في هذه الحالة- هي عبارة عن حلول عملية لمشكلة ظن البعض أن لا ملجأ منها إلا إليها... المبدأ في هذه الحالة يتطلب الوقوف علي مقدسات لا يَخرقها انفعال أو فِعل أيا كان مصدره..وأري أن أولي واجبات النُخبة هو الوقوف علي ماهية تلك المقدسات وإعادة صياغتها وطرحها علي الشعوب بشكل يتناسب مع طبائع الشعوب وثقافتهم..فعلي سبيل المثال هناك بعض المقدسات كالإصلاح والوسطية وقضيتي فلسطين والمقاومة وقضية التعايش وقضية السلام وقضية الوحدة وما إلي ذلك من قضايا جوهرية لا خِلاف علي قًُدسيتها بين جميع الفُرقاء...فالبرجماتية النفعية والميكافيللية التبريرية قد تقضي علي بعض هذه المقدسات فيما لو تم التعامل مع هذه المقدسات كفكرة جامدة معروفة الأبعاد والثوابت فكان العجز عن مطابقتها مع الواقع والفشل الذريع بتكييفها مع المستجدات..
إذا كان التغيير ينصب على الذات فالإعداد ينصب على الجماعة المسلمة بالدرجة الأولى لكي يحمي من ثم الذات المؤمنة من التضييق في العالم ..
﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُم... ْ﴾ الأنفال:60والعلم الحديث ليس ابن الحضارة الغربية وحدها , لكي نتردد في احتضانه و تنشئته .. ولكنه تمخض أبدي لتراكم في الخبرة البشرية .. وكان لحضارة الإسلام نصيب وافر في وضع دعائمه , وتصحيح مناهجه .. إننا نجد العديد من المبادئ الأساسية للحياة الإسلامية من مثل الاستخلاف و التسخير و التوازن و الارتباط المحتوم بين معجزة الخلق ووجود الخالق .. لا يمكن تنفيذها و تعزيزها دون الاعتماد على العلم أداة لتحقيق هذه الأهداف .. ونجذ القرآن الكريم يطرح لأول مرة منهجا حسيا تجريبيا للنشاط المعرفي , هو نفسه الذي يعتمده اليوم العلم الحديث .. يذكر القرآن قصة نبي الله داوود و سليمان عليهما السلام ﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ . أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ. يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ سبأ:10-13
صحيفة " الوطن العربى الأسبوعية " المستقلة الشاملة - لندن ، المملكة المتحدة ..
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير :
د. علاء الدين سعيد