جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
يتقرر في الفلسفة السياسية الحديثة أن الدولة كيان اصطناعي ابتدعته المجتمعات الإنسانية لتنظيم اجتماعها، وضبط صراعاته بوضع قواعد لها تكون محط مواضعة واتفاق، وموطن احترام وتوقير، ويقترن بهذه الفكرة التسليم بأن ماهية الدولة ذاتية، تكون منها هي: كتمثيل للمجتمع والأمة، لا من خارجها،
وأن وظيفتها اجتماعية وليست أخلاقية أو دينية، أي أنها تنصرف إلى إشباع حاجات مادية في المجتمع (الأمن، حماية الكيان، تدبير الشؤون العامة . . الخ)، لا إلى خدمة مبدأ أعلى: أخلاقي أو ديني أو ما في هذا المعنى . ذلك أن المبدأ الذي أسس الدولة في التاريخ هو المصلحة العامة والمشتركة للناس في مجتمع ما . وهذه موضوع اتفاق وتراض بينهم، وهما معاً لا يحصلان إلا بمقتضى قاعدة سياسية هي التنازل المتبادل لتكوين المساحات المشتركة . أما الأخلاق والدين، فليسا موضوع اتفاق وتراض، ومساومة وتنازلات متبادلة، لأنهما ليسا من المصالح وإنما من المبادئ واليقينيات . والدولة – لهذا السبب – لا تتدخل فيهما إلا في حدود حماية حق المجتمع في ممارستهما بوصفهما حقاً مكفولاً، فيما هي تسلِّم بأن دائرة هذه المبادئ واليقينيات هو المجتمع حصراً .
الدولة الحديثة دولة لمواطنيها كافة بمعزل عن انتماءاتهم الدينية والمذهبية والعرقية . وهي، بهذا الاعتبار، لا يمكنها أن تنحاز إلى فريق بعينه من مواطنيها فتتبنى عقيدته على حساب فريق آخر أو فرقاء آخرين، خاصة أن الأعم الأغلب من مجتمعات العالم متعدد التكوين الديني والمذهبي . أما الذهاب إلى القول إن الدولة تتبنى دين أغلبية مواطنيها ففيه نقض لمفهوم المواطنة من جهة، وفيه – من جهة ثانية – خلط فاضح بين معنى الأغلبية – والأقلية – وهو معنى سياسي بامتياز، وبين معنى الجماعات، وهو معنى ثقافي وأنثروبولوجي وديني لا يتمأسس سياسياً – في الدولة – كما تتمأسس الأغلبية السياسية التي يصنعها الاقتراع . إن الفارق عظيم بين أن يقول المرء إن المجتمع الأمريكي – مثلاً – يتألف من أغلبية مسيحية، من أغلبية بروتستانتية خاصة، وبين أن يقول إن الولايات المتحدة الأمريكية دولة مسيحية أو بروتستانتية . فأن يكون المسيحيون فيها، والبروتستانت خاصة، أغلبية دينية فهذا أمر مفهوم وطبيعي كما في أي مجتمع آخر فيه أغلبية وأقليات دينية، أما أن تكون الولايات المتحدة دولة بروتستانية، فهي لا تعود حينذاك دولة مواطنيها كافة من الكاثوليك، والأورثوذوكس، والمسلمين، والبوذيين، والهندوس، واليهود وسواهم من عشرات الملايين من المواطنين المعتقدين بديانات مختلفة .
لا تقوم الدولة المدنية الحديثة على الدين، لأن الدين ليس من مقتضياتها ولا من مقتضيات المبدأ الأساس الذي عليه تقوم، وهو المواطنة . لكن أمرها لم يكن كذلك – دائماً – في الماضي، إذ قام بينها وبين الدين علاقات من التخلل والتداخل، وأحياناً من التماهي (كما في حالة الدولة الثيوقراطية)، وباسمه قامت دول وسقطت أخرى، ونشبت حروب، وحصلت غزوات، وكان للمؤسسة الدينية دور فيها يصغر أو يكبر تبعاً لنوع الصلة بينها وبين الدين . ولقد يكون للدين، في تلك العهود الوسطى من التاريخ دور في بناء اللحمة بين الجماعات الاجتماعية المختلفة وتوحيدها على مقتضى فكرة جامعة . ذلك، مثلاً، ما نعرفه من تاريخ الإمبراطورية الرومانية حين تبنت المسيحية عقيدة رسمية لها، بعد طول حرب عليها، وذلك – أيضاً – ما نستفيده من تاريخ الدولة في بلاد الإسلام حيث أقامت شرعيتها على الدين . لم يكن في الدولتين مواطنون بالمعنى الحديث، ولا كانت المواطنة قد ظهرت بعد في الفكر والاجتماع السياسي، كانت الرعية هي جمهور الدولة الاجتماعي، والناس رعايا للإمبراطور أو للخليفة أو السلطان، و- بالتالي – لم يكن ممكناً أن تلحظ حقوق غير المنتمين إلى الجماعة الاعتقادية الكبرى لأن الدولة في حاجة إلى مشروعية، ولم يكن ثمة من مشروعية، في تلك العهود، سوى المشروعية الدينية .
وليس معنى هذا أن دول العهد الوسيط لم تحترم الحقوق الدينية للمخالفين في الملة حين كانت تنتصر لدين أغلبية سكانها، فلقد كان هناك يهود في قلب الإمبراطورية الرومانية، وكان هناك مسيحيون ويهود وصابئة في قلب الدولة الإسلامية، واعتُرف لهم بحقوقهم الدينية، وكانوا – عند المسلمين – “أهل كتاب” و”أهل ذمة” أخذت تشريعات الدولة اختلافهم في الحسبان، ثم طورت الدولة العثمانية منظومة حقوق الأقليات الدينية في “نظام الملل” الذي حفظ لتلك الأقليات شخصيتها من الانحلال والذوبان . . إلخ . ومع ذلك، لم يكن يحق لغير المنتمي إلى الأغلبية الدينية أن يمارس الولاية العامة: رئاسة الدولة أو القضاء أو قيادة الجيش، أو ما شاكل، لأنه لا يدين بدين الدولة . ثم إن “تديُّن” الدولة كان طائفياً باستمرار، فلم تكن الدولة دولة المسيحيين بإطلاق، كانت دولة الأورثوذوكس في مكان (شرق أوروبا)، ودولة الكاثوليك في آخر (الدولة الرومانية، ثم دول جنوب أوروبا)، ثم دولة البروتستانت في مكان ثالث (شمال أوروبا وأمريكا بعد الإصلاح الديني) . ولم تكن الدولة دولة المسلمين بإطلاق، كانت دولة السنة في بغداد العباسية، ودولة الشيعة في القاهرة الفاطمية، ودولة الزيدية في اليمن، ودولة الأباضية في عمان، وهي – اليوم – دولة مذهبها في كل بلد عربي وإسلامي، كما لو أن مفاعيل العهد الوسيط لاتزال مستمرة في اجتماعنا .
لقد فكت الصلة بين الدولة والدين في الدولة المدنية الحديثة، لكنها استمرت – وستظل مستمرة ولن تنقطع – بين المجتمع والدين، حتى إن أكثر المجتمعات حداثة أو علمانية، كالمجتمع الأمريكي مثلاً، هو أكثرها تديناً لأن علمانيته تحترم الأديان، وتحمي حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر . ومع ذلك، ينبغي فهم عبارة “فك الصلة بين الدولة والدين في الدولة المدنية الحديثة” فهماً دقيقاً لئلا تُبنى عليها استنتاجات خاطئة . إن فكها لا يعني سوى أن مصدر السلطة والتشريع في الدولة الحديثة مصدر وضعي، بشري، غير متعال أو مقدس، وأن الحكم فيها لا يمضَى باسم السماء، بل باسم مبدأ اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي . ولكن أحداً لا يملك أن يمنع السياسة من أن تستنبط أو تستلهم بعض المبادئ العليا للدين مثل العدل، والتضامن والتكافل، والرحمة والعفو، ونكران الذات، والتسامح، فستدخلها في منظومة التشريع كما استدخلت الإنسانية الحديثة الكثير من مبادئ المسيحية والإسلام في منظومة حقوق الإنسان .
المصدر: دكتورعبدالاله بلقزيز -
صحيفة " الوطن العربى الأسبوعية " المستقلة الشاملة - لندن ، المملكة المتحدة ..
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير :
د. علاء الدين سعيد