جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
ارهقت كثيراً بسبب التفكير في مسألة الاختيار.. فهل يملك الإنسان الحرية المطلقة ليمارس الاختيار.. هل أمكنه يوماً ما تحقيق حلمه للعيش في بلاد الأحرار.. البلاد التي تنادي بشعارات الديمقراطية والمساواة في الحقوق الإنسانية مهما توالت الأيام واختلفت الأقدار.. أم أن هذا يعتبر مجرد ضرب من ضروب الأوهام وسعي وراء خيالات صنعت عن عمد أو دون عمد لجعلنا نتوهم أننا نتمتع بالاختيار ونحلق طائرين عاليا في عالم الأحرار..
في مؤلف "دمعة وابتسامة" لجبران خليل جبران، كان هناك جملة أثرتني: (رأيت الحرية الحقيقية تسير وحدها في الشوارع وأمام الأبواب تطلب مأوى والقوم يمنعونها. ثم رأيت الابتذال يسير بموكب عظيم والناس يدعونه الحرية)..
وأجد نفسي في حالة دائمة من الانبهار المبهج عند قرأة كتابات جبران خليل جبران واكتشاف عظمة إبداعه وروعة وصفه للمشاعر والحالات المعاشة. ولقد أثار تأملي اشارته في مواقع عدة من مؤلفه إلى مختلف القيود التي تكبل حرية الإنسان، وتضعه داخل قضبان حديدية.. قضبان قد لا يراها، ولكنه يعيشها، بل ويظن أنها من صنعه واختياره.
قرأت أيضاً مقال لكاتبة أجنبية حاز اعجابي، تحت عنوان " أفضل نصيحة قدمها لي أبي.. ابقي على عزمك لفعل أي شيء تختارينه".. وتحكي الكاتبة أنها قد تلقت هذه النصحية وهي تقريباً في بداية سن المراهقة.. والتزمت بتطبيقها كمبدأ أساسي في أسلوب حياتها العملية، حيث عملت في عدة مجالات حرة.. وفي كل مجال كان لديها التصميم الكافي لتنفيذ ما اختارته، والعزم الجيد لتحقيق النجاح في مجال العمل الذي اختارته.. إلى أن استطاعت في نهاية المطاف تكوين عملها الخاص وتأسيس شركتها وإنمائها وتطويرها..
وتمنيت أن نحظي بمثل هذا النوع من الحرية.. الانتقال من مجال عمل لمجال آخر, والاشتغال بمهن مختلفة.. ممارسة أعمال نختارها ونؤديها بحب وشغف وليس بإكراه وبغض.. ولكن للأسف يبدوا أن اغلب الأعمال والوظائف التي نؤديها، نقوم بها من قبيل منطق الجبرية.. المنطق الذي يحد من قدرتنا على الاختيار, فمثلاً البعض منا يقوم بعمل معين أو وظيفة ما نظراً لأنه لا يوجد أمامنا خيار آخر، فحاجتنا للعمل والظروف الاقتصادية للمجتمع الذي نعيش فيه، أو حتى ظروفنا الخاصة، هو الذي يفرض علينا مبدأ الجبرية ويحد من فرص الاختيار.
وبالتأكيد هناك عوامل أخرى مشاركة في الحد من فرص الاختيار.. كالموروثات الثقافية والشكليات الاجتماعية.. فالبعض من الشباب قد يخجل من القيام ببعض الأعمال في المجال الخدمي أو المهني، فقد يرفض الشاب العمل في مكان ما لخدمة بعض الزبائن وتقديم وجبات الطعام لأنه يرى أن هذا العمل لا يليق به، وقد يلحق به نظرة الاحتقار في عين أصدقائه وأقاربه.. وذلك لاعتقاده أن مثل هذه النوعية من الأعمال تهين كرامته وتحط من منزلته الاجتماعية, وخاصة إذا ما واتته الجرأة لخطبة فتاة.. وقد يدعم الأهل هذا الموقف للشاب، وذلك من خلال عدم تشجيعه على الاشتغال بالأعمال الخدمية أو المهنية.. ويأتي هذا من منطلق الحب الزائد للأبناء أو الوصاية الزائدة عليهم والمبالغة في حمايتهم من أي اهانة أو وضع قد يسيء لهيئتهم الاجتماعية.. طالما أن الأب يرى أنه بإمكانه التكفل بمطالب ابنه المادية، ولذا يفضل أنه لا يؤدي أياً من الأعمال الخدمية أو المهنية..
وتلعب الموروثات الثقافية والمرجعيات الفكرية دوراً جوهرياً في تحديد أو تأطير حرية اختيارنا للأشياء والأمور.. يدخل ضمن هذه الموروثات والمرجعيات العديد والعديد من القيود والضغوط التي تحد من حرية اختيارنا للأمور.. منها على سبيل المثال ضغوط الخوف والقلق.. الخوف من المستقبل، القلق على الأبناء.. الخوف من فقد شخص عزيز، الخوف من الوحدة والتقدم في العمر، الخوف من ضياع العمر دون تحقيق الأهداف والآمال المنشودة.. الخوف من العوز والحاجة والفقر، القلق على الثروة والمال من الضياع أو الزوال.. فالمال والثروة يمارسا ضغوط مخيفة وغير متوقعة للحفاظ على تملكهما.. فكلاهما له قوته وسلطته الجبرية على تقييد حرية الاختيار، وعلى صاحب المال ذاته، نظراً لما يفرضه عليه من آمال واطماع لا تنتهي، آمال وأطماع تظل تعلو وترتفع وتسير مسرعة غير مكترثة بمأساة بعض البشر..
ومن أشكال قيود الحرية التي تفرض نوع معين من التحكم في اختيارتنا، الصورة الاجتماعية التي نحرص دائماً على رسمها بشكل معين وبألوان قد تكون صناعية، وذلك حتى نكتسب مكانة الاحترام والتوقير الاجتماعي بأعين الآخرين.. وحتى نتجنب "كلام الناس".. كلام الناس الذي قد يمثل هو أيضاً قيد من قيود حرية الاختيار، بل ويشكل نوعاً من الضغوط الجبرية لتوجيه خيارتنا الحياتية.. كأن يضطر الفتى/ الفتاة قبول الزواج بأي شخص تحاشياً لكلام الناس والتعرض للمعايبة والمعايرة.. أو تجنب المطالبة بالطلاق بالرغم من المعاناة اليومية من حياة بائسة تعسة..
بل وقد يتمادى البعض في التفنن في كيفية تجميل الصورة بأجمل الألوان خوفاً من التعرض للمعايرة ونظرات الاحتقار والتدني في درجات القيمة الاجتماعية.. وبسبب ذلك يتنامى الخوف بداخل كثير منا من مخالفة الأعراف والنواميس الاجتماعية المقبولة.. وإن بدى أن هذا الخوف قد تراجع في ظل الأحداث الجارية نتيجة حدوث بعض التغيرات ونمو حدة بعض التعبيرات الثورية.. ولكن بالرغم من ذلك مازال هناك اهتمام بالغ لدى البعض بتجميل الصورة..
وكما يتفنن البشر في تجميل صورتهم كواجهة اجتماعية.. هناك أيضاً هيئات أو جهات متخصصة في صناعة الواقع.. كتجميل صورة شخص معين، كما في حالة الانتخابات.. أو توجيه الرأي العام لقبول أو رفض وضع معين أو سياسة ما.. أو حتى التشكيك في مسلمات فكرية أو تراثيات معينة.. كل هذا وغيره يمثل نوعاً من الضغوط والقيود للحد من حرية الاختيار.. وتدعيم فرض نظرية الاجبار.. حتى في بلاد الأحرار.. البلاد التي حملت شعار الديمقراطية والحرية عبر البحار.. ولكنها فرضت أيضاً نظمها وقيودها التي تعزز نظرية الاجبار والحد من فرص الاختيار..
وستظل الحرية حلم نلاحقه ونسعى لتحقيقه، فكلً منا يحمل تصوره الخاص عن مفهوم الحرية، يفلسفه كما يشاء.. بدءً من رؤية الحكام وانتهاءً برؤية الشعب.. وأياً كانت الرؤية.. فمن المؤكد أن هناك مجموعة من القيود والضغوط التي تتحكم في نظام الحياة.. قد تكون قيود صناعية (صنعت بمعرفة أشخاص أو بلدان) أو تكون قيود حياتية تشكلت على مر الأيام.. ولكن سيظل الإنسان يتمنى تحقيق حرية الاختيار والعيش في بلاد الاحرار مهما اُثقل بالضغوط وكُبل بالقيود.. فقد تكون إرادته القوية شكل من أشكال الحرية.. تلك الإرادة التي بإمكانها تحويل أحلام الخيال إلى واقع، وحياة غير بعيدة المنال..
المصدر: د. نهلة أحمد درويش -
دكتوراة في الآداب - علم الاجتماع
صحيفة " الوطن العربى الأسبوعية " المستقلة الشاملة - لندن ، المملكة المتحدة ..
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير :
د. علاء الدين سعيد