جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
تغيرت شخصية المصري وفقاً لتغيرات بيئته المحيطة، تلك البيئة التي تشكل في مجملها ذلك الجوّ المحيط الذي يترعرع فيه الطفل وينشأ: البيت، الأسرة، الجيران، الحي، الأقارب، المدرسة، الشارع، المجتمع، الوطن ...
يكبر محيط تلك البيئة مع الإنسان في نموه وتطوره من الطفولة إلى المراهقة، ومنها إلى الشباب والكهولة. يتأثر فيما يتأثر به بعفة الألفاظ ونظافة اللسان (فمن يستخدمون السلالم والمصاعد للطلوع والنزول، يعلو صوتهم وسبابهم إلى داخل الغرف المغلقة، ومن يتعاركون في الشارع أو يصرخون في سياراتهم يؤذون المسامع ويخدشون الحياء، دون إحساس ودون إدراك بأن ما يفعلونه تلوث أخلاقي لفظي في منتهي القسوة). ناهيك عما يدور من حوارات يكون فيها الشتم نوعاً من الاستمتاع دون اعتبار لصفته النابية، يمتزج بالضحك والمزاح على المقاهي وفي الـ Coffee Shops ، وكذلك في النوادي، على نواصي الشوارع، وأمام محلات التيك أواي.
يدخل في إطار كل هذا الصخب، على نحو مقنن غزو داخلي من أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة، يتأجج بانتشار الفضائيات وغزوها لخصوصياتنا، فنجد مسوخاً تؤذي البصر بأشكالها، تعكرت بالماكياج الثقيل، وحوارات في برامج عشوائية ومسلسلات هزيلة، تُضعف النفس وتكسر صفاءها، كما نسمع أغنيات ثقيلة الدم، فَجّة المعني، تائهة لاهثة، فنرى فيما نرى من تتلوي وتتأوه وتتعرى على الأرض وفي الفراش وأحياناً في الفضاء.
من خلال كل ذلك قد نري الولد الصغير وهو يحب رؤية خاله (على سبيل المثال لا الحصر) وتقليده، أو محاكاة أبيه بالتلفظ بالأسوأ ليثبت أنه رجل، نجده يشب متعلماً اللغة حديثاً وطوله لم يتعد الشبرين، طويل اللسان، بذيء يؤذي من حوله، وهم بدورهم يؤنبونه ويعنفونه، غير مدركين أنهم قد شكلوا نواة وعيه وخلقوا له بيئة ملوثة اللفظ والحركة والمعني لينشأ كما يروه وأنه ابنهم وليس لغيرهم، وقد أصبح ملحاحاً عنيداً ومخجلاً.
في الثلاثين سنة الأخيرة، حدث نوع من الإغتراب اللغوي لصالح اللغات الأجنبية خاصة الإنجليزية الأمريكية، وظهر ذلك بينًا على المحلات وفي إعلانات الكباري والشوارع والميادين وكذلك صفحات الصحف، كما حدث خلق مفردات جديدة غريبة مثل (أَبَرْوِِْنْ) في قول لشاب بالجامعة الأمريكية بمعنى المعاناة من حالة بارانويا Paranoid State ) أي (الإحساس بالاضطهاد وبالخوف وبالإنزعاج وبالجزع من أصدقائي ومن الغرباء)، وهي حالة نفسية معروفة لدى بعض المرضى النفسيين، لكن تعقدات الحياة اليومية، الصوت العالي، العراك، الشجار، الازدحام المروري، الشك في الآخر والارتياب في مقاصده، أدّى إلى ظهورها، بل إلى تزايد حدوثها، الازدحام، الاحتكاك، الاكتظاظ، الاعتداء على مساحات الآخرين، (فإذا كان الشارع الواسع مختنقًا بالسيارات والمسئول يمر مع الضباط بأجهزتهم اللاسلكية يمنعون المرور، يلوّح أحدهم من نافذة سيارته في الهواء تعبيرًا عن الغضب؛ فإذا بالآخر الذي على يساره يتصوّر أنه يتوعده؛ فيجزع ويصاب بحالة من الهلع قد تؤدي إلى أعراض جسمانية شديدة)، إذا تكررت تلك التجربة وذلك المشهد عدة مرات مع أشخاص حساســين؛ فإن الأمر قد يتطور إلى حدّ تكويــن ما يصطــلح عليــه بالشــخصية الاضطــهادية أو البارانويــة Paranoid Personality ؛ فإن اضطرابه يعني الكثير، بمعنى أن المشكلات السلوكية والاجتماعية التي تحيط باضطراب الشخصية غالبًا ما تكون معقدة، مركبة وتختلف عن (سمات الشخصية) وخصائص الفرد المصري، ومن هنا فإن اضطراب الشخصية نتيجة ضغوط الحياة المادية، النفسية، الحسية، الانسانية، والعيش وسط كل التناقضات الممكن تخيلها من إباحية شديدة إلى التعصب الديني الأقوى إلى حالة التربص والإستنفار والتحفز لكل ما هو آت مما فد يحدث أعراضًا قد تكون في منتهى الإثارة وأيضًا في منتهى الإحباط، لمن يتعامل معها سواء كان في البيت أو العمل، الشارع، أو حتى في إطار العلاج مما يخلق حالة مشحونة بالارتباك والترقب والإنتظار
المصدر: علماء الآثار | archaeologists
صحيفة " الوطن العربى الأسبوعية " المستقلة الشاملة - لندن ، المملكة المتحدة ..
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير :
د. علاء الدين سعيد