تروج في مصر هذه الأيام مجموعة من الأساطير والشائعات التي استدعت إلى فضائها ما يمكن أن نسميه بالهم الكاذب، الذي بات يخيف بعضنا من أشباح وعفاريت لا وجود لها.
(1)
بعض تلك الأساطير وثيق الصلة بمستقبل الدولة وهويتها. في ظل الصعود الراهن للتيارات الإسلامية بعد الثورة.
ذلك أننا مازلنا نقرأ تعليقات وتحليلات تتحدث عن إقامة الخلافة الإسلامية والدولة الدينية في مصر.
وهي ذات التهمة التي ما برحت تلاحق حتى الآن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان من قبل معارضيه السياسيين، خصوصا حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه كمال أتاتورك في عشرينيات القرن الماضي، ولا يزال يعتبر نفسه الحارس الأول للجمهورية والعلمانية في تركيا.
ذلك أن قادة الحزب ومن لف لفهم من خصوم أردوغان ومنافسيه اعتبروا أن خلفية أردوغان الإسلامية هي نقطة الضعف الأساسية في سجله.
ورغم أن الرجل انفصل عن حزب الرفاه الذي نشأ في رحابه ثم طور أفكاره التي انطلق منها، ليؤسس مع الرئيس الحالي عبدالله جول «في عام 2002» حزب العدالة والتنمية بحسبانه حزبا ليبراليا محافظا، إلا أن خصومه ومنافسيه لا يزالون يتهمونه بأنه يخفى بين جنبيه مشروعا خفيا لإقامة الخلافة وتأسيس الدولة الدينية.
وكانت تلك هي «التهمة» التي حاولوا إلصاقها به في الانتخابات التشريعية الأخيرة «يونيو 2011»، إلا أن الجماهير صوتت لصالحه لأنهم رأوا إنجازاته على الأرض، ولم يكترثوا بما يدعيه الآخرون عن أجندته الخفية.
أدرى أن بعض المتدينين مهوسون بمسألة الخلافة التي تشكل ركنا أساسيا في مشروع حزب التحرير الإسلامي الذي نشأ في الأردن «عام 1953»، لكن أعضاءه لا يكادون يتجاوز عددهم أصابع اليدين في مصر على الأقل.
أما مسألة الدولة الدينية فإن أحدا لا يستطيع أن يأخذها على محمل الجد في هذا الزمان. لأن أحدا لم يعد يقبل فكرة القيادة التي تستند إلى الوحي أو الغيب في إدارة الدول.
مع ذلك فإن النموذج القريب من تلك الفكرة المطبق في إيران (انطلاقات فكرة ولاية الفقيه) لا يستطيع أن يدعي ذلك، لأن المعارضة موجودة والولي الفقيه لم يدع عصمة ولا هو منزه عن النقد.
ذلك إلى جانب أن الفكرة في خصوصية المذهب الشيعي الجعفري، بل إنها تعبر عن إحدى مدارس المذهب، وليس لدى مراجع الشيعة إجماع عليها في داخل إيران وخارجها.
من ثَمَّ فغاية ما يمكن أن يُقال بحق المسألتين «الخلافة والدولة الدينية» إنهما من قبيل الأحلام التي تراود قلة استثنائية من الناس، إلى جانب أنه يتعذر تنزيلها على الأرض،
هذا إذا أحسنا الظن، أما إذا فتحنا باب إساءة الظن فسنقول إن التلويح بهما هو من قبيل الفرقعات والقنابل الصوتية التي يراد لها أن تحدث الضجيج والفزع لا أكثر.
(2)
ثمة فرقعة أخرى أطلقت في الأسبوع الماضي محذرة من غزو قطري لمصر أطلقت عليه وصف «القطرنة» أسوة بالأمركة والفرنسة والأوربة.
وتستند المقولة إلى ما اعتبرته اختراقا لقناة الجزيرة للوجدان المصري واختراقا اقتصاديا تمثل في إقدام قطر على الدخول بقوة في السوق المصرية. عن طريق شراء أحد البنوك وتأسيس بعض المشروعات الكبرى. إضافة إلى وديعة الملياري دولار التي قيل إن قطر قررت وضعها في البنوك المصرية، ثم الإعلان عن استثمارات بقيمة 18 مليار دولار لتمويل مشروعات ستنفذ في مصر خلال السنوات الخمس القادمة.
تدهشنا المقولة من جوانب عدة. إذ من الناحية النظرية لا أعرف كيف لعاقل أن يستوعب فرضية قيام دولة مثل قطر لا يزيد تعداد مواطنيها على 600 ألف نسمة باستيعاب و«قطرنة» مصر التي يزيد سكانها على 90 مليون نسمة.
والقائلون بذلك لا يدركون أن حجم الاقتصاد المصري أكبر بكثير من تستوعب قطر، علما بأن حجم الدين الخارجي والداخلي لمصر بحدود 200 مليار دولار، ومن يريد قطرنة مصر عليه أن يتحمل ذلك العبء ابتداء، ولا أظن أن قطر مستعدة لذلك.
من ناحية ثانية، فإن ما يتردد عن دعم مالي خليجي لمصر خصوصا من قطر فيه من الضجيج والمبالغة الإعلامية أكثر مما فيه من الحقائق الماثلة على الأرض. فالمليار دولار اللذان أعلن عنهما أخيرا تسلمت مصر منهما نصف مليار فقط سيولة نقدية، أما المبلغ المتبقي فيفترض أن يقدم كوديعة تجدد كل ثلاثة أشهر. وتلك مدة تخرج المبلغ من الاحتياط المصري، لأنه يشترط لذلك أن تستمر الوديعة لسنة واحدة على الأقل، وهي لا تحتسب حتى إذا نقصت عن السنة بيوم واحد.
أما مبلغ الـ18 مليارا التي تستثمر خلال السنوات الخمس المقبلة، فهو أمر مرحب به لا شك، لكن المبلغ لا يزال من قبيل السمك في الماء كما يقال، بمعنى أن حقائقه بشروطه ومجالاته لم تتضح بعد.
الجانب الذي لا يراه الذين يروجون لفكرة القطرنة أن الدول النفطية الخليجية تحققت لها في السنوات الأخيرة فوائض مالية هائلة تجاوزت بكثير توقعاتها.
ولأن حجمها أكبر من أن يستوعبه الاقتصاد المحلى، فإنها تصبح أمام أحد خيارين،
إما أن تودع تلك الفوائض في المصارف العالمية بفائدة نصف في المائة،
أو تودع لدى أي وعاء استثماري آخر بضعف تلك الفائدة.
بالتالي فنحن لسنا بإزاء قطرنة مصر، وإنما أمام حالة ترشيد لاستخدام الفوائض لجأت إليها قطر، وبوسعها أن تودع تلك الفوائض في أي بلد آخر.
بالمناسبة فإن أسطورة الاختراق القطري لمصر لها أصل، منذ كانت قناة الجزيرة ضمن المنابر التي علت فيها أصوات المعارضين للرئيس السابق، ولم تذهب في ذلك إلى أبعد مما ذهبت إليه المعارضة المصرية في الداخل.
علما بأن أغلب المسؤولين عن تلك الأنشطة في داخل القناة كانوا من الإعلاميين المصريين.
ولأنها اعتبرت آنذاك «مصر مبارك»، فإن الرئيس السابق وأبواقه اعتبروا أن معارضة الرئيس بمثابة مخاصمة لمصر. وشاع ذلك الانطباع لدى كثيرين .
جدير بالذكر أن ما يمكن أن يسمى نفوذا إعلاميا قطريا في مصر، ليس أكثر وربما أقل من النفوذ السعودي أو الأمريكي،
وفي ظل النظام السابق كان النفوذ الإسرائيلي حاضرا بقوة. لكن ما حدث أن قطر تحدثت بصوت عال سمعه الجميع، في حين أن الآخرين كانوا أكثر حنكة وخبرة، ومارسوا نفوذهم واختراقاتهم دون أن يسمع لهم صوت.
(3)
التخوف من «العفريت» الإيراني فرقعة من مواريث العهد السابق، وبمقتضاها أصبح بيننا من بات يعتبر أن إيران هي العدو الحقيقي وليس إسرائيل.
وهو نجاح حققه أبالسة السياسة وعمموه على أكثر من قطر عربي خصوصا في منطقة الخليج.
وهناك أسطورتان في هذا الصدد. واحدة تتحدث عن تهديد إيران لأمن مصر ومساندتها للإرهاب، فيها
والثانية تتحدث عن تشييع مصر أو نشر المذهب الجعفري فيها.
الأسطورة الأولى تبنتها أجهزة الأمن وغذتها سياسة الولايات المتحدة منذ أعلنت حربها العبثية ضد الإرهاب، ومن ورائها إسرائيل التي لاتزال تعتبر إيران عدوا استراتيجيا لها.
حقيقة الأمر في هذا الجانب أنه ليست هناك مشاكل أمنية حقيقية بين مصر وإيران. لكن هناك بعض الأمور العالقة (قضية شارع الإسلامبولي مثلا) التي ما كان لها أن تؤدي إلى القطيعة بين البلدين لأكثر من ثلاثين عاما، علما بأن القطيعة بدأت قبل اغتيال السادات وفي عهده.
ولست أعني أنه لا توجد اختلافات بين البلدين، وأن هناك اتفاقا بينهما في كل وجهات النظر.
لكن أقر بأن لمصر حساباتها وتحفظاتها على بعض السياسات الإيرانية، لكن ذلك لا يمنع ولا ينبغي له أن يمنع تبادل المصالح بين البلدين في أمور أخرى.
ولست بحاجة لأن أذكر بأن دول الخليج الأكثر تخوفا من إيران وحساسية إزاءها تحتفظ بعلاقاتها شبه كاملة معها، على الصعيدين الدبلوماسي والاقتصادي.
ولأن الأمر كذلك فإنني أزعم أن مخاصمة مصر لإيران تعد من توابع «اعتدالها» الذي ألحقها بالسياسة الأمريكية والإسرائيلية، إذ حين أصبح رئيس مصر كنزا استراتيجيا لإسرائيل فمن الطبيعي أن يصبح تلقائيا خصما لإيران. وهذا ما حدث.
أسطورة تشييع مصر يبالغ فيها بعض المتدينين ويهول منها أغلب السلفيين.
ولست أخفي شعورا بالدهشة إزاء طرح ذلك الاحتمال فحصانة مصر المذهبية أقوى من أن تخترق بهذه السهولة، ووجود بضع مئات من الشيعة وسط 90 مليونا مصريا لا يقدم ولا يؤخر.
مع ذلك فالأمر يمكن التعامل معه برصانة وحكمة بحيث تغلق أبواب الفتنة التي تترتب على محاولة نشر المذهب الجعفري بين أهل السنة، علما بأن تلك المحاولة يقوم بها بعض المراجع وليس الدولة الإيرانية بالضرورة، ومن هؤلاء المراجع من يعيشون خارج إيران ويمارسون دعوتهم من العراق أو لبنان.
(4)
لابد أن يثير انتباهنا في هذا السياق أن الفلسطينيين لهم الحصة الأكبر من الأساطير التي تروج لما أسميته بالهم الكاذب.
فثمة أسطورة تعتبر حركة حماس خِصما لمصر وتهديدا لها.
وأخرى تتحدث عن تطلع الغزاوين للتمدد في سيناء
وثالثة تتهم حماس بالهجوم على أقسام الشرطة وفتح بعض السجون إبان الثورة، والمشاركة في قتل بعض المتظاهرين.
لقد فهمت أن تكون حماس خصما لإسرائيل وعلى خلاف أو عراك مع فتح أبومازن، لكن أي عاقل لا يستطيع أن يستوعب فكرة خصومتها لمصر، إلا إذا كانت مصر قد ناصبتها العداء في عهد الرئيس السابق، واعتبرت ذلك جزءا من معركة النظام مع الإخوان.
وفي هذه الحالة لا نكون بصدد خصومة لحماس مع مصر، ولكن بإزاء اشتباك مصري مع حماس، جعلها تغض الطرف عن اجتياح الإسرائيليين لغزة وتشارك في حصارها.
وما سربته وثائق ويكيليكس في هذا الصدد منسوبا إلى رئيس المخابرات السابق اللواء عمر سليمان يؤيد ذلك الادعاء.
مما هو مستغرب أيضا أن الادعاء بتطلع الغزاويين إلى التمدد في سيناء يتجاهل تماما أن الطريق إلى ذلك ظل مفتوحا طوال 15 عاما تقريبا كانت إسرائيل خلالها محتلة لسيناء بالكامل، وكان بوسع الغزاويين أن يأخذوا راحتهم في التمدد في ربوعها، ولكنهم لم يفعلوها.
ولكن أبالسة الدس بين الشعبين اختلقوا تلك الشائعة، وروجوا لها للإيحاء بأن الفلسطينيين يهددون أمن مصر القومي.
أسطورة فتح السجون المصرية وقتل المتظاهرين تحتاج إلى تدقيق وتحقيق.
ومعلوماتي أن مجموعة من عناصر حزب الله هم الذين انتهزوا الاضطراب الحاصل في مصر إبان الثورة، وقاموا بتخليص زملاء لهم لفقت لهم قضية في عهد النظام السباق.
وهو عمل غير مشروع لا ريب، لكن تعميم الادعاء واتهام الفلسطينيين وجماعة حزب الله بفتح بقية السجون وقتل المتظاهرين، أمر يتعذر الاقتناع به، حيث لا مصلحة لهم في ذلك،
وقد فهمت أن ذلك الادعاء ردده بعض قادة الشرطة والأجهزة الأمنية في مصر لتبرئة ساحتهم من التواطؤ في المسألتين.
إنني أخشى أن تصرفنا مناقشة الهموم الكاذبة عن همومنا الحقيقية،
ولا أخفى شعورا بالحزن، والأسف حين أجد أن بعض إعلاميينا مشغولون بالهموم الأولى دون الثانية.
<!--EndFragment-->