بدا قلقاً مضطرباً، بعبث بهاتفه ، يهرش شعر رأسه المبعثر، يرتجف كالمحموم ... لقد فرَّت من البيت .. ضاقت به ذرعاً، سئمت من إرضاء غروره وتكبره، تعبت من إهاناته وتطاوله، كلما أرخت له العنان تسلق بطغيانه على كرامتها.. إلى متى ستتجرع الذل؟ عملت كالآلة، بل قل كخادمة محتقرة ، تقوم بالبيت كطاحونة ألم، تهتم بنظافته المبالغة، وطعامه البطر، وغسيله الكثير، وكي ملابسه المؤنقة، ولهوه الباذخ، ونومه الفاحش.. بينما هو الملك... يجب عليها أن تسبِّحَ بحمده وتقدِّسَ له، دون تأففٍ أو اعتراض. فبماذا قابل كل هذا البذل والعطاء اللامتناهي ؟ باستهجان وازدراء .. كان يزدري طهوها، ولبسها، وكلامها، وضحكتها.. يقدمها لأهله كفضل كمتاع مهان، لا يخجل أن يسفِّه حديثها أمام صديقاتها.. ويمتهن كرامتها ويُعرِّض بوالدها وإخوتها... هكذا حالها كل يوم، ينغص عيشها بسافل القول وسيء السلوك يشعرها دائما أنها رقم زائد في حساب بيته يتكرم عليها بزاد بطنها الذي لا تهنأبه ، لم يفارقها شعور بالندم على عمرها الذي ضاع من بين يديها، فقد سرق شبابها بحفنة دراهم معدودة، ليت والدها لم يعمل يوما عند أبيه، وليتها خالفت رأي والدتها.التي رأت في الحاجة مبررا لهذا الإرتباط المهين
.
بات صفعها وشتمها وتقريعها والتهديد بالزواج من أخرى أمام أطفالها أمراً معتاداً، فإلى متى ستتحمل الغصص تتجرعها كل يوم من أجل أطفالها، بعد أن صارت فريسة هواجس وأوهام وخيالات تلاحقها كظلها، تجاوزت حكايتها أسوار بيتها، وبات حل مشكلتها أمراً مستحيلاً، فما الذي يجبرها على البقاء مع هذا المغرور المتعال، الذي لم يقدِّر يوما جهودها وتضحياتها، فلم يعد الموت قهرا من أجل أطفالها .أمراً مستساغا .
فقد تجاوزت قسوته حدود التصور. اصبحت في ذلك اليوم وعصا المقشة الغليظة تورَّم جسدها وتشبعه ضرباً ، ولم يكتف حتى صار يركلها كالكرة ويدحرجها على عتبات سلم البيت، لا لشيء سوى أنها اعتذرت عن كي ملابسه البارحة ، بعد أن أنهكها التعب والإجهاد.. فالعذاب والويل جزاء من يجرؤ على رفض طلب من طلباته التي لا تتوقف ولا تنتهي؟
لاحقه صيته السيء في كل زقاق من أزقة القرى، وكل طريق من طرق المدينة، فلم يقبل أحد به صهراً، ولم ترغب فيه امرأة قط. عاد يجر خيباته المتلاحقة، استسلم لضعفه الذي كان يخفيه خلف قناع السطوة والجبروت، وجد نفسه عاجزا عن تلبية طلبات أولاده اليومية، فقد ساء طعامُهُم ولباسُهُم وتخلفوا عن مدارسِهِم واضطرب نومُهُم وصحوتُهُم وتدنت مستوياتُ دراستِهِم.. تكاثرت القمامةُ في بيتِهِ، وتكدست الأطباقُ، وتسربتِ الروائحُ من مطبخِهِ حتى تأذى منها الجيران. عيشة لا تحتمل وحال لا يسر ، حاول جاهداً مجبراً أن يقوم ببعض ما كانت تقوم به، فلم يحتمل ألم ساعة. ضاق صدرُه بنفسِه، صار يثور لأتفه الأسباب، لتأفف أطفاله، وشكواهم المستمرة، لعدم توفر حاجاتهم. ارتبكت حياته وتداخل ليله بنهاره، واضطربت نفسه، لم يعد قادرٌ علي التظاهرِ بالثقةِ والتوازنِ، تلقى إنذارا بالفصل من الخدمة، بعد أن كثر تأخره عن عمله وإهمال واجباته. وجد نفسه في حصار نفسي واجتماعي يطوقه من كل جانب ومكان، يخنق أنفاسه. حتى ضعفت قواه وأصبح غير ذلك الرجل الأنيق المهندم ، بل صار منكسرَ البأس، معكرَ المزاج، مظلمَ الوجه، غائرَ العينين، خائرَ القوى.
وقف منتصباً يسند ظهره بكلتا يديه ، وخاطب صورة لها تتوسط غرفة المعيشة مهلوساً: عودي.. عودي أرجوك.. عودي لقد شارفت سفينتنا على الغرق.. لكنها لا ترد. فجأة انتفض ويصرخ في هستيريا وهو يلوح بيده وسبابته: ليتني أعرف ماذا تريدين؟ ليتني أفهم سر عنجهيتك .. إنك تعاقبينني.. تدمرنني.. تنتقمين مني.. ، ثم انكفأ على أريكة بجواره وانهمر في بكاء هستيري: عودي وسأتنازل لك عن كل شيء، فقط عودي.. فقد جفت جداولي ، وامتنعت سماؤني، ذهبت ضحكة أطفالي..
ثم انتصب ثانية وأمسك بهاته وكأنه يمسك بعنق عدو يتعقبه: يا لك من هاتف ملعون..متواطئ حقير.. سأحطمك، سأحطمك ، سئمت من تكرار هذه الجملة البغيضة: "الرقم خارج الخدمة" ...تطايرت أجزاء ذلك الهاتف متحطماً على الجدار المقابل غيظا وحنقا .