مرحباً بكل نظريات مهنة الاقتصاد
جورج أكيرلوف, جوزيف ستيجليتز
إن الأزمة الاقتصادية والمالية كانت بمثابة لحظة كاشفة لمهنة الاقتصاد، وذلك لأنها وضعت عديدا من الأفكار على محك الاختبار. وإذا كان من المستطاع تعريف العلم بقدرته على التنبؤ بالمستقبل، فإن فشل القسم الأعظم من مهنة الاقتصاد في توقع قدوم الأزمة الحالية لا بد أن يكون مدعاة لقدر عظيم من القلق والانزعاج.
لكن أوساط مهنة الاقتصاد تشتمل في الواقع على قدر من التنوع في الأفكار أعظم مما نتصور. ففي هذا العام فاز بجائزة نوبل في الاقتصاد اثنان من العلماء, اللذان كرسا حياتهما العملية لاستكشاف السبل البديلة. لقد ولَّد الاقتصاد ثروة من الأفكار، التي زعم كثير منها أن الأسواق ليست بالضرورة مستقرة أو كاملة الكفاءة، أو أن النماذج المعيارية للتوازن التنافسي التي تستخدم في إدارة الاقتصاد في عديد من البلدان لا تصلح لوصف اقتصادنا، ومجتمعنا.
فالاقتصاد السلوكي على سبيل المثال يؤكد أن المشاركين في السوق كثيراً ما يتصرفون على نحو لا يمكن التوفيق بينه وبين العقلانية بسهولة. وبالمثل فإن اقتصاد المعلومات الحديثة يبين لنا أنه حتى لو كانت الأسواق تنافسية، فإنها من غير الممكن أن تتمتع بالكفاءة في كل الأحوال تقريباً ما دامت المعلومات منقوصة أو غير متساوقة (فبعض الناس يعرفون أموراً لا يعرفها آخرون، كما حدث في الكارثة المالية الأخيرة) ـ وهذا وضع دائم.
لقد أظهر خط طويل من الأبحاث أنه حتى في حالة استخدام نماذج مدرسة اقتصاد «التوقعات المنطقية» المزعومة، فمن غير الممكن أن تتصرف الأسواق على نحو مستقر، وأن نشوء فقاعات الأسعار أمر محتم. لقد قدمت هذه الأزمة أدلة وفيرة حقاً على أن المستثمرين بعيدون كل البعد عن العقلانية؛ لكن العيوب في خط التوقعات العقلانية ـ الافتراضات المستترة كتلك التي تزعم أن كل المستثمرين مطلعون على القدر نفسه من المعلومات ـ كانت واضحة قبل وقت طويل من اندلاع الأزمة.
وتماماً كما كانت الأزمة سبباً في إعادة تنشيط التفكير في الحاجة إلى التنظيم، فقد أعطت أيضاً زخماً جديداً لاستكشاف مسارات بديلة للتفكير من شأنها أن توفر فهماً أفضل للكيفية التي يعمل بها نظامنا الاقتصادي المعقد ـ وربما أيضاً للبحث عن السياسات التي قد تحول دون تكرار الكارثة الأخيرة.
ومما يدعو إلى التفاؤل أنه في حين كان بعض خبراء الاقتصاد يدفعون بفكرة التنظيم الذاتي، والأسواق كاملة الكفاءة التي ظلت دائماً قادرة على تشغيل العمالة بالكامل، فإن غيرهم من خبراء الاقتصاد وعلماء الاجتماع كانوا عاكفين على استكشاف مجموعة متنوعة من المناهج المختلفة. وهذه المناهج تتضمن النماذج القائمة على أساس العوامل الاقتصادية، التي تؤكد تنوع الظروف؛ ونماذج الشبكات التي تركز على العلاقات المتبادلة المعقدة بين الشركات (مثل تلك التي مكَّنَت حدوث موجات الإفلاس)؛ ونظرة جديدة إلى العمل المهمل لرجل الاقتصاد هايمان مينسكي الذي تناول الأزمات المالية (التي تزايدت وتيرتها منذ بدأت عملية إلغاء التنظيمات منذ ثلاثة عقود من الزمان)؛ والنماذج الإبداعية، التي حاولت تفسير ديناميكيات النمو.
إن قدراً كبيراً من أكثر الأعمال إثارة في العملية الاقتصادية الجارية الآن يسعى إلى توسيع حدود الاقتصاد، حيث تشمل عمل علماء النفس، وعلماء السياسة، وعلماء الاجتماع. والواقع أننا ما زال علينا أن نتعلم كثيرا من التاريخ الاقتصادي. ورغم كل هذه الجعجعة المحيطة بالإبداع المالي، فإن هذه الأزمة عظيمة الشبه بالأزمات المالية السابقة، ولو أن التعقيد الذي تتسم به المنتجات المالية الجديدة كان سبباً في تقليص الشفافية، وتفاقم المخاوف بشأن ما كان ليحدث في حالة غياب عمليات الإنقاذ العامة الضخمة.
إن الأفكار لا تقل أهمية عن المصلحة الذاتية، بل لعلها أكثر أهمية. والواقع أن المسؤولين التنظيميين والموظفين الرسميين المنتخبين في بلداننا كانوا واقعين تحت الأسر سياسياً ـ فقد حققت المصالح الخاصة بالأسواق المالية قدراً عظيماً من المكاسب نتيجة إلغاء التنظيمات والفشل في تبني الهيكل التنظيمي اللازم لضبط عمل المنتجات الجديدة. ولكن الساسة والجهات التنظيمية كانوا أيضاً تحت رحمة الأسر الفكري, وهم يحتاجون إلى مجموعة أوسع وأكثر قوة من الأفكار المفيدة لعملهم.
ولهذا السبب كان من المثير للغاية أن نستمع إلى الإعلان الذي ألقاه جورج سوروس أخيرا في جامعة أوروبا الوسطى في بودابست عن إطلاق مبادرة «الفكر الاقتصادي الجديد» للمساعدة على دعم هذه الأفكار. ولا شك أن المنح البحثية، والندوات، والمؤتمرات، والجريدة الجديدة ـ كل ذلك سوف يساعد على تشجيع ازدهار الأفكار الجديدة والجهود الجماعية.
ولقد حصلت مبادرة الفكر الاقتصادي الجديد على الحرية الكاملة ـ فيما يتصل بتحديد المضمون والاستراتيجية ـ وإن المرء ليتمنى أن تتمكن هذه المبادرة من اجتذاب مزيد من الدعم من مصادر أخرى. والواقع أن الالتزام الوحيد لهذه المبادرة يتلخص في دعم «الفكر الاقتصادي الجديد» بأوسع معاني الدعم الممكنة. وفي الشهر الماضي جمع سوروس لفيفاً من ألمع نجوم الاقتصاد، من مختلف أطياف المهنة ـ من النظرية إلى السياسية، ومن اليسار إلى اليمين، ومن الشباب إلى المسنين ـ لمناقشة الحاجة إلى مثل هذه المبادرة والآفاق التي قد تمتد إليها، والكيفية الأفضل للمضي بها قدماً إلى الأمام.
على مدى العقود الثلاثة الماضية، عكف المنتمون إلى خيط واحد في جديلة مهنة الاقتصاد على بناء نماذج افترضت أن الأسواق تعمل على أكمل وجه. وكان ذلك الافتراض سبباً في حجب كم هائل من الأبحاث التي ساعدت على تفسير الأسباب وراء قصور عمل السوق في كثير من الأحيان ـ فلماذا بحق الله نشهد الآن هذه الإخفاقات واسعة النطاق التي انزلقت إليها السوق.
إن سوق الأفكار أيضاً كثيراً ما تعمل على نحو أقل من مثالي. وفي عالم اللاعصمة البشرية والفهم المنقوص للتعقيد الذي يتسم به الاقتصاد، فإن مبادرة الفكر الاقتصادي الجديد تعدنا بالسعي إلى مسارات فكرية بديلة ـ وبالتالي إلى علاج أو تخفيف النقائص التي تعيب هذه السوق باهظة التكاليف، على أقل تقدير.
المصدر: الاقتصادية السعودية
نشرت فى 4 مايو 2010
بواسطة TalasEco
عدد زيارات الموقع
952
ساحة النقاش