تقول القصة التى يتداولها المثقفون السعوديون إن قاضيا فى المدينة المنورة وقع على صكوك بيع مزورة لأراض لا يملكها البائع. وحين فوجئ صاحبها بما حدث، فإنه أبلغ الجهات المعنية، وأثبت لها أنه مالكها الحقيقى. وأيدت التحريات صحة كلامه حيث اكتشفت أن القاضى كان يعلم بتزوير عقد البيع، وأنه تلقى رشوة لتسجيله. قال البعض إنها نحو 4 ملايين ريال وقال آخرون إنها 40 مليونا. وحين توافرت الأدلة والقرائن التى أكدت أن الرجل حصل بالفعل على الرشوة، تمت مواجهته بالتهمة. وبعدما وجد صاحبنا أن الجريمة ثابتة بحقه لم يجد مفرا من الاعتراف بأنه قبض المبلغ حقا، لكنه قال للمحققين إنه لا ذنب له فيما حدث لأنه مسلوب الإرادة. سئل: كيف؟ فرد قائلا: إن جنيا يسيطر عليه ويتحكم فى سلوكه، وهذا الجنى هو الذى تقاضى المبلغ وصرفه بينما ظل هو مكبلا لا حول له ولا قوة!
أسقط فى يد المحققين، الذين نُصحوا بأن يستعينوا بأحد الشيوخ المختصين بمثل هذه الأمور ويعرفون كيف يتعاملون مع الجن. وحين تم انتداب الشخص المناسب للمهمة فإنه اختلى بالقاضى وأجرى اتصالاته مع عالم الجن، وتوصل إلى نتيجة خلاصتها أن القاضى تحت سيطرة أحد الجان فعلا، وبالتالى فإنه لا يعد مسئولا عن أفعاله التى منها مسألة الرشوة موضوع الاتهام. وكانت تلك الشهادة كفيلة بإيقاف البحث فى القضية، حتى إشعار آخر.
لا أعرف ماذا تم بعد ذلك، ولكن ما همنى فى الموضوع هو الحجة التى استخدمت والتى لم يستطع المحققون أن يجدوا لها ردا، فعلقوا مهمتهم، ولا أخفى أننى حين سمعت بالقصة تذكرت تساؤل الشيخ محمد الغزالى ذات مرة، الذى قال فيه: لماذا وحدنا الذين يتقصدنا الجن ويركبوننا؟ ولماذا لم نسمع عن شىء من ذلك فى الدول الغربية مثلا، أم أن الجان تحمل جنسيتنا ولا يطيب لها العيش إلا فى بلادنا العربية والإسلامية؟ كان الشيخ رحمه الله يطرح هذه الأسئلة ثم يقول ضاحكا إن البنى آدم هو الجنى الأكبر الذى ينبغى الحذر والخوف منه.
لست ممن يجيدون الحديث فى عالم الغيب. وإن كنت أؤمن وأسلم بكل ما أورده القرآن خاصا به، لكنى اعتبر أن لدينا فى عالم الإنس الكثير الذى يشغلنا عن عالم الجن. ثم إننا إذا كنا نعانى الأمرين من شياطين الإنس. فما بالكم لو فتحنا ملف عالم الجن. لكننى تذكرت هذه الأيام قصة القاضى الذى ادعى أنه مسلوب الإرادة وأن الجن الذى يركبه هو الذى تقاضى الرشوة (لم نعرف أين أودع المبلغ وكيف أنفقه الجنى!!)
ما جعلنى استحضر القصة هو تعدد الوقائع والحوادث التى نصادفها ونعجز عن أن نحدد الفاعلين فيها. بدءا بإطلاق الرصاص على المتظاهرين فى ميدان التحرير من فوق أسطح البنايات عند انطلاق الثورة فى شهر يناير الماضى وانتهاء بإطلاق الرصاص على المتظاهرين فى شهر أكتوبر الحالى. سيقول قائل: إن لدينا من أجهزة الاستقصاء والتنصت والتحرى ومن أساليب الاستنطاق وحيل الإيقاع والاصطياد، ما يسمح لنا بفك أى لغز وتبديد أى غموض أو لبس. وربما قال آخر إن كفاءة الأجهزة الأمنية لا يشق لها غبار، وهى التى قيل يوما ما إنها مكنت الحكومة من أن ترصد دبيب النمل فى البلد وأن تحصى أوراق الشجر المتساقط فى الخريف. وربما أراد هؤلاء أن يقولوا لنا فى نهاية المطاف إن الشرطة فى مصر بعد الثورة خرجت ولم تعد، رغم النداءات والتوسلات التى يطلقها الناس كل يوم لاستدعائها. لكنى لم أقتنع بهذه الحجج لأن الشرطة إذا كانت غائبة فإن الأجهزة الأمنية لاتزال حاضرة، سواء تلك التابعة للداخلية أو لغيرها من مؤسسات الدولة. فضلا عن أن أجهزة التحقيق والنيابة مازالت عاملة ولم تتأثر بغياب الشرطة. وحين فهمت من بعض النمامين أن التحقيق فى بعض القضايا يخضع للملاءمات السياسية، فإننى كدت أقتنع بأن كشف الحقائق فى قضايا معينة، وإخفاءها أو التسويف فيها فى قضايا أخرى وثيق الصلة بالإرادة السياسية. بأكثر من اتصاله بالاعتبارات القانونية والتحريات الأمنية.
لاأخفى أن هذا الهاجس أقلقنى، لأنه يعيدنا إلى أجواء مرحلة ظننا أن الثورة تجاوزتها وطوت صفحتها. صحيح أن الأخبار التى تنتشر بين الحين والآخر عن تعرض بعض الناشطين للترهيب والتعذيب تشيع بيننا شعورا بالإحباط وتدفعنا إلى إساءة الظن بأولى الأمر. لكنى ما تمنيت أن يصل الأمر بنا إلى الحد الذى يجعل القرار السياسى أو السيادى هو الذى يحدد مصير قضايا كبرى تهم الوطن والسلام الاجتماعى.
حلا لإشكال الغموض الذى يحيط بالفاعلين فى بعض القضايا المهمة، وجدت أن قصة الجن الذى سلب قاضى المدينة إرادته وقبض الرشوة يمكن أن تخرجنا من المأزق، بحيث نقول مثلا إنه تم التعرف على الذين أطلقوا النيران على المتظاهرين ولكن تبين أنهم كانوا مسلوبى الإرادة. لأنهم كانوا مركوبين من الجن الذين فعلوها. وربما بدا ذلك حلا مريحا، لكن المشكلة أن القصة التى صدقها البعض فى السعودية يتعذر تصديقها فى مصر. وأننا إذا أوردناها فقد نخرج حقا من المأزق، لكننا سنقع فى فضيحة بجلاجل!
ساحة النقاش