أدعوا إلى وقف إطلاق النار بين المسلمين والأقباط فى مصر. وأقصد به الشحن التعبوى الذى يملأ النفوس بالنفور والبغض طول الوقت. وأزعم أن كل ما ندعو إليه من جهود للإصلاح أو ترميم العلاقة بين الطرفين لن تؤدى ثمارها طالما استمرت عمليات الشحن هذه ولم نضع لها حدا. أدرى أن التعصب أصبح يعشش فى أرجاء بلادنا، ومن التسطيح والخفة أن ينسب إلى طرف دون آخر، أو أن يؤرخ البعض للتعصب بظهور الجماعات الإسلامية أو ما يسمى بالإسلام السياسى. ذلك أن بعض الأمور التى يثار من حولها الجدل الآن وتعتبر موضوعات خلافية (التمثيل فى وظائف الدولة والمجالس المنتخبة مثلا) ناقشه قبل مائة عام المؤتمر المصرى (انعقد فى 29 أبريل سنة 1911) قبل أن تعرف مصر ظاهرة «الصحوة» أو ما يسمى بالإسلام السياسى.
تحليل ظاهرة التعصب تتداخل فيه عوامل عدة تختلف من مجتمع إلى آخر، وهى ليست دينية أو ثقافية فحسب، ولكنها اجتماعية وسياسية أيضا. ولأسانده علم الاجتماع كلام كثير فى هذا الصدد لا مجال للخوض فيه الآن، لأننى فى الوقت الراهن معنى بأمرين أولهما التحذير من تسطيح المسألة وعدم اختزالها فى سبب واحد أو فئة دون أخرى. وثانيهما وهو الأهم هو التصدى لعوامل تأجيجية وتحويله إلى مفجر يستهلك طاقة المجتمع ويصرف الناس عما هو أهم وأعمق فى حياتهم.
تتعدد منابع الشحن والتعبئة المضادة التى تشيع المفاهيم المغلوطة وتزرع بذور البغض والفتنة. فمنها الموروث الشائع ومنها خطاب الدعاة والقسس عبر المنابر الدينية والفضائيات والمطبوعات، وبينها الثقافة السلفية المشتبكة مع كل من عدا السلفيين من مسلمين وغير مسلمين.
أدرى أننا لن نستطيع فى الأمد القصير أن نتصدى لكل مصادر الاحتقان، خصوصا ما كان منها موروثا تاريخيا، لكن ذلك لا يحول دون أن نفهم طبيعة تلك المصادر من ناحية، وأن نتعامل بجدية وحزم مع ما كان منها فى متناول أيدينا من ناحية ثانية، أن ثمة تركيزا على عمليات الشحن التى تصدر عن الدعاة المسلمين سواء فى مواعظهم أو فى القنوات الفضائية التى تعبر عنهم أو فيما يصدر عنهم من كتابات، وهذا شىء مفهوم سواء لأنه يحتل حيزا كبيرا فى الفضاء الثقافى أو لأنه يعلن على الملأ. ومن المهم أن يرصد باستمرار ما يصدر عن تلك المنابر متجاوزا حدود اللياقة فيما يخص الديانات الأخرى وأن يساءل المسئولون عن ذلك التجاوز.
من ناحية أخرى، ثمة سكوت غير مبرر على ما يصدر من تجاوزات من المنابر القبطية المماثلة، التى تسهم بدور كبير فى التعبئة المضادة وتسميم الأجواء. وثمة معلومات متواترة وتسجيلات متداولة لما يردده البعض فى داخل الكنائس فى هذا الصدد. وثمة كتب مطبوعة ومنشورة وفضائيات يسمعها كل أحد تقدم دروسا يومية فى تعميم الكراهية، وتسهم فى تشكيل إدراك يؤسس للمفاضلة ورفض العيش المشترك. مع فارق جوهرى هو أن أغلب الدعاة المسلمين يحسبون على جماعاتهم ولا علاقة لهم بما نسميه المؤسسة الدينية. حيث الباب مفتوح لكل من هب ودب أن يقول ما عنده بغير ضوابط، إلا إذا تعلق الأمر بأمن الدولة بمفهومه السياسى. أما نظائرهم من الأقباط فإنهم لا يعتلون منابرهم إلا إذا تم ترسيمهم من قبل الكنيسة. بما يعنى أنهم يمثلون المؤسسة الدينية بالدرجة الأولى. لذلك فإن وقع كلامهم وتأثيره يكون أكبر وأعمق. والتصدى لهذا الموضوع ينبغى أن يتم على مستويين على الأقل، الأول يتمثل فى الموقف الحازم للمؤسسة الدينية على الجانبين، والثانى بالتطبيق الشجاع لنص القانون الجنائى الذى يجرم ازدراء الأديان. وهو ما أدعو إلى توسيع طاقته ليشمل حتى خطاب السلفيين إذا اتسم بالتجاوز والمساس بغير المسلمين.
سوف ادهش إذا أغضب هذا الكلام أحدا، كما حدث من قبل حين أطلقت دعوى إخضاع موارد الكنائس المالية لإشراف الجهاز المركزى للمحاسبات تطبيقا للقانون الذى تخضع له المساجد. وأثار ذلك احتجاج شرائح واسعة من الأقباط، مع أنه ليس أكثر من دعوة لاحترام القانون وسريانه على مؤسسات المجتمع دون استثناء.
لست أشك فى أن جهودا ينبغى أن تبذل لتجفيف ينابيع التعصب وتوسيع نطاق التفاعل والعيش المشترك، وأزعم أن الممارسة الديمقراطية وإحياء الحلم المشترك تحتل موقعا متقدما منها. لكن هدفا جليلا كذلك الذى نسعى إليه لن نبلغه إلا إذا قطعنا أشواطا عدة. وأحسب أن تطهير الأجواء من الاحتقان وعوامل التسميم يحتل أولوية فى ذلك المسار. فضلا عن أن خطوة من ذلك القبيل فى متناول أيدينا، ولسنا مضطرين إلى انتظار إحداث تغيير سياسى واسع النطاق لإنجازها.
ساحة النقاش