جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
رق مسكوت عليه
فى مصر رق من نوع خاص مسكوت عليه. السيد فيه ليس مالكا يتحكم فى خلق الله ويسومهم سوء العذاب. ولكنه جهاز إدارى يقوم بنفس المهمة. وفى حين أن الأول يبسط سلطاته على اقطاعية صغرت أو كبرت، وربما استطاع بعض عبيده أن يهربوا بجلدهم من جبروته، فإن السيد الثانى يمد أذرعه ليحاصر وطنا بأكمله، وليس بوسع أحد أن يعتق نفسه منه، إلا إذا ألقى نفسه فى البحر أملا فى العثور على أمله فى وطن آخر.
وصف العلاقة بين جهاز الإدارة والمواطن المصرى بأنها «رق» ليس من عندى. ولكن خبيرا دوليا من «البيرو» (أمريكا اللاتينية) هو الذى أطلقه. بعد أن كلف بدراسة الموضوع من قبل الحكومة المصرية. وأدهشته طبيعة تلك العلاقة التى حولت جهاز الإدارة إلى «سيد» وجعلت من المواطنين عبيدا وأقنانا له، يأمرهم فيطيعون ويذلهم فيمتثلون.
الرجل ــ اسمه هيرناندو دى سوتو ــ روى قصته مع الإدارة المصرية فى مقالة نشرتها له صحيفة «لوفيجارو» الفرنسية، بعدما وجد أن مصر تغيرت بقيام ثوة 25 يناير، الأمر الذى تمنى أن يؤدى إلى انعتاق المصريين من عسف جهاز الإدارة واستعباده لهم. قال صاحبنا إن الأوضاع الاقتصادية المتردية فى مصر التى أزعجت الحكومة فى عام 1997، دفعتها إلى اللجوء لمعهد «الحرية والديمقراطية» الذى يرأسه، للحصول على معلومات دقيقة عن وضع الاقتصاد المصرى. خاصة القطاع غير الشرعى منه. وطلب من المعهد تحديد أعداد المصريين العاملين خارج إطار الاقتصاد الرسمى، فى الأغلب هربا من تعقيدات الجهاز الإدارى وبطشه. وهذه الفئة من العاملين خارج القانون لا تستطيع أن تحصل على أية قروض من المصارف، وليس للمنخرطين فيها أى تعامل مع السلطة، واستهدفت الدراسة إعادة تقييم الإطار القانونى لتذليل العقبات التى تحول دون النهوض بالاقتصاد المصرى.
اشترك فى الدراسة 120 خبيرا مصريا وبيرونيا، تعاون معهم 300 مسئول محلى. وبعدما أجرت عددا كبيرا من المقابلات أعدت فى سنة 2004 تقريرا من ألف صفحة، انتهى إلى خطة عمل واقترحت عشرين نقطة على وزير المالية المصرية، لكن شيئا منها لم يؤخذ به!
عملية مسح ما أسماه بالاقتصاد السفلى انتهت إلى أن المشاركين فى ذلك النشاط هم أكبر صاحب عمل فى مصر. ذلك أن القطاع الخاص يوفر 6.8 مليون فرصة عمل. كما يوفر القطاع العام العمل لـ5.9 مليون شخص، فى حين أن الذين يمارسون نشاطهم الاقتصادى خارج الإطار القانونى فيقدر عددهم بـ9.6 مليون شخص.
قدرت الدراسة أن 92٪ من المصريين لا يملكون مستندات ملكية مصرية. كما قدرت قيمة المبادلات والملكيات غير الشرعية فى ريف مصر ومدنها بمبلغ 248 بليون دولار. أى 30 مرة أكثر من قيمة سوق الشركات المسجلة فى بورصة القاهرة. و55 مرة أكثر من قيمة الاستثمارات الأجنبية المباشرة فى مصر منذ حملة نابليون. واليوم تبلغ قيمة هذه الأصول المالية الخارجية على إطار الاقتصاد الرسمى نحو 400 مليون دولار.
لماذا يختار معظم المصريين البقاء خارج الاقتصاد القانونى؟ ــ سأل الرجل ثم أجاب قائلا: إن مصر شأنها فى ذلك شأن بقية الدول النامية لا تمكن صاحب أى مشروع اقتصادى من أن يؤدى عمله بصورة ميسرة وآمنة. فالإجراءات الإدارية الرسمية المطلوبة لفتح مخبز صغير تستغرق 500 يوم. ويحتاج إصدار صك ملكية قطعة أرض خاوية 10 أعوام، ويضطر المقاول الشجاع الذى يحاول أن يلتزم بالقوانين إلى التعامل مع 56 وكالة حكومية، كل منها يقوم بعملية تفتيش أكثر من مرة لكى تحرر الأوراق إلى غيرها.
فى ختام مقالته خلص السيد دى سوتو إلى أن التخلص من ذلك الاستعباد الاقتصادى يتطلب وضع إطار قانونى حر، جديد وفعال. ونبه إلى أن الحكومات قد تتغير وكذلك الانظمة السائدة، وقد تهب رياح الديمقراطية لتنعش آمال الناس. ولكن رغبة الشارع المصرى فى تحسين مستوى معيشة لن تتحقق إلا إذا تم إصلاح الإطار القانونى والإدارى بحيث يعتق المجتمع من تلك القيود الثقيلة التى تكبله وتعطل قدرته على الحركة.
إن الدرس نعرفه جيدا، لكن المشكلة فيمن يستوعبه ويضع الجرس فى رقبة القط.
المصدر: الشروق / بقلم : فهمي هويدي
ساحة النقاش