ركب عزير حماره وخرج إلى ضيعة له يتعاهدها، فلما انصرف في وقت الظهيرة وكان الجو حاراً، نزل عن حماره ليستريح في ظل مكان خرب، وأخرج طعاماً ليأكله، وكان معه سلة فيها تين وسلة فيها عنب، فاعتصر العنب في القصعة ثم وضع فيها خبزاً يابساً ليبتل قبل أن يأكله، ثم استلقى على قفاه وأسند رجليه إلى الحائط فنظر سقف تلك البيوت ورأى ما فيها وهي قائمة على عروشها وقد باد أهلها ورأى عظاماً بالية فقال: كيف يحيي الله هذه بعد موتها؟ فبعث الله ملك
الموت فقبض روحه، فأماته الله مائة عام.
وبعد مائة عام، أرسل الله له ملكاً فبعثه الله وأحياه مرة أخرى، فقال له الملك: كم لبثت؟ قال: لبثت يوماً أو بعض يوم. قال: بل لبثت مائة عام، فانظر إلى طعامك وشرابك، لم يتغير منه شيء. فنظر فإذا الخبز ما زال يابساً وكذلك التين والعنب ما زالت ناضجة، فكأنه أنكر في قلبه فقال له الملك: أنكرت ما قلت لك؟ فانظر إلى حمارك. فنظر إلى حماره قد بليت عظامه وصارت نخرة. فنادى الملك عظام الحمار فأجابت وأقبلت من كل ناحية ثم ألبسها العروق والعصب ثم كساها اللحم ثم أنبت عليها الجلد والشعر، ثم نفخ فيه الملك فقام الحمار رافعاً رأسه وأذنيه إلى السماء ناهقاً، فلما تبين لعزير قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير.
ركب عزير حماره ليعود إلى منزله، فأنكر الناس وأنكره الناس كما أنكر منزله، فقد تغير كل شيء، فراح يخمن مكان منزله حتى وصل إليه، فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة عمرها نحو مائة وعشرون سنة، هذه المرأة كانت أمة لهم، وكانت شابة في العشرين من عمرها وقت أن اختفى عزير عنهم.
سأل عزير هذه العجوز وقال لها: يا هذه أهذا منزل عزير؟
فبكت وقالت: عزير؟ نعم، هذا منزل عزير، وما أدراك به؟ لقد نسيه الناس، وما رأيت أحداً يذكره منذ زمن بعيد.
فعرف عزير المرأة وقال: إني أنا عزير، ألا تذكريني؟ إن الله قد أماتني مائة سنة ثم بعثني.
قالت: سبحان الله! إن عزيراً قد فقدناه بالفعل منذ مائة سنة فلم نسمع له بذكر.
قال: إني أنا هو.
قالت: فإن عزيراً رجل مستجاب الدعوة يدعو للمريض ولصاحب البلاء بالعافية والشفاء، فادعوا الله أن يرد عليّ بصري حتى أراك فإن كنت عزيراً عرفتك.
فدعا عزير ربه ومسح بيده على عينيها فصحتا، وأخذ بيدها فأطلق الله رجليها فقامت صحيحة، فلما نظرت إليه قالت: أشهد أنك عزير.
وانطلق عزير مع أمته إلى أندية ومجالس بني إسرائيل، وكان في مجلسهم شيخ كبير وهو ابن عزير، وحوله بنيه شيوخ وهم أحفاد عزير، فنادت المرأة فيهم: يا سيدي، هذا عزير قد جاءكم. فكذبوها، فقالت: أنا فلانة مولاتكم، جاء عزير فدعا لي ربه فرد علي بصري وأطلق رجلي وزعم أن الله أماته مائة سنة ثم بعثه.
نهض الناس أقبلوا إليه فنظروا إليه مندهشين فقال الشيخ الكبير ابن عزير: كان لأبي شامة سوداء بين كتفيه. فكشف عزير عن كتفيه فوجدوها.
قالت بنو إسرائيل: فإنه لم يكن فينا أحد يحفظ التوراة غير عزير، وكان “بختنصر” قد حرق التوراة ولم يبقى منها شيء إلا بعض ما يحفظه الرجال، فإن كنت عزير اكتبها لنا.
قال عزير: إن أبي قد دفن التوراة أيام “بختنصر” في موضع لم يعرفه أحد غيري، فانطلقوا معي نستخرجه.
فلما استخرج التوراة وجد أوراقها قد تلفت وتعفنت، فجلس في ظل شجرة وحوله بني إسرائيل، ونزل من السماء شهابان حتى دخلا جوف عزير فتذكر التوراة، فتلاها على بني إسرائيل وجددها لهم، فانحرفت بنو إسرائيل من بعده وقالوا: لم يستطع موسى أن يأتينا بالتوراة إلا في كتاب وأن عزيراً قد جاءنا بها من غير كتاب. فرماه طوائف منهم وقالوا: عزير ابن الله. وانقطع تواتر التوراة من بعد العزير.