الدكتور القصبى زلط 
عضو هيئة كبار علماء الأزهر الشريف -المستشار العلمى للرابطة

ان الإسلام دين سلم وسلام، يدعو إلى السلم ويرغّب فيه، ويكره الحرب وينفر منها.

فالإسلام والسلام ـ أو السلم ـ من الناحية اللغوية مشتقان من مادة واحدة هي (س ل م) وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة208)، وقد فسر كلمة (السلم) في الآية بـ(السلام) المقابل للحرب، كما يفيده ظاهرها، وبهذا تكون الآية دعوة للمؤمنين أن يدخلوا في السلام جميعًا، ولا يُعرضوا عنه إذا دُعوا إليه، وفسرت أيضًا كلمة (السلم) بـ(الإسلام) أي ادخلوا في شعب الإسلام كافة: عقائده وعباداته ومعاملاته وأخلاقياته وتشريعاته، فتدخلوا بذلك في السلم الحقيقي، السلم مع أنفسكم، ومع أسركم، ومع مجتمعاتكم، ومع الناس كافة.

ولفظة (السلم) في أصل معناها تعني: الاستسلام والانقياد وترك المنازعة ومن هنا صلحت لتشمل المعنيين معًا: المعنى الأول: المسالمة والمصالحة وترك الحرب. والمعنى الآخر: الانقياد لله ولدينه ولشرائعه، وهو المعبر عنه بالإسلام.

وقد روي عن ابن عباس ومفسري السلف القولان كلاهما، ولا مانع من إرادتهما من النص، واللفظ يشمل جميع معانيه التي يقتضيها المقام.

ومن المعلوم أن الاستسلام لأمر الله والإخلاص له يتضمن الوفاق والمسالمة بين الناس، وترك التنازع والقتال والحروب بين المهتدين به والمعتصمين بحبل الله.

والأمر بالدخول في السلم: يشعر بأنه حصن منيع للداخل في كنفه وهو للكاملين منهم: أمر بالثبات والدوام عليه، والزيادة فيه، ولمن دونهم وبالتمكن منه وتحري الكمال فيه.

ومن روائع التوجيه والتربية هنا: أن الإسلام يحبب إلى المسلم كلمة السلام، ومفهوم السلام بأساليب شتى، لا توجد في دين آخر أو أيديولوجية أخرى. فالسلام من أسماء الله الحسنى، التي يدعو المسلم ربه بها، ويتقرب إلى الله يذكرها، كما قال تعالى: (وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) (الأعراف180).

والمسلم يقرأ في القرآن: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ) (الحشر23). والمسلمون هم الأمة الوحيدة التي يوجد فيها اسم (عبد السلام) أي عبد الله. والجنة التي يتوق إليها كل مؤمن ويعمل حثيثًا ليكون من أهلها تسمى: (دار السلام) كما قال سبحانه وتعالى: (لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام127). وأكثر ما يسمع في هذه الجنة: كلمة السلام، فهي تحية المؤمنين في الآخرة: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ) (الأحزاب 44). (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ). (يونس10). (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا  إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا) (الواقعة 25- 26).

وكما أن السلام تحية المؤمنين في الآخرة، فهو تحيتهم في الدنيا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. و(إفشاء السلام) من أفضل خصال الإسلام، وقد جاء في جملة أحاديث "أفشوا السلام".

والمسلم إذا جلس في صلاته للتشهد: يلقي السلام على نبيه محمد، وعلى نفسه وأمته: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين"، ثم يخرج من الصلاة: بإلقاء تحية الإسلام عن يمينه وعن يساره، إيذانًا بأنه كان في الصلاة في حالة سلام، فإذا انصرف من الصلاة استقبل الناس والحياة من حوله بالسلام، فهو سلام في عبادته، سلام في معاملته.

والمسلم لا يتمنى الحرب ولا يحرص عليها لذاتها، بل يتمنى السلام والعافية، ولكن إذا فرضت عليه الحرب على سبيل الله خاضها بقوة وجسارة وصبر، موقنًا أن له إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة، يقول تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (البقرة216).

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه عبد الله بن أبي أوفى: "لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموه فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف".

والقرآن يُعقِّب على غزوة الأحزاب، التي هاجمت جموع المشركين فيها من قريش وغطفان وأحابيشهما الرسول والمؤمنين معه في عقر دارهم بالمدينة بأعداد هائلة، يبتغون إبادتهم وتصفيتهم جسديًا وماديًا، حتى لا تبقى لهم باقية، لولا أن عين الله لم تغفل عن النبي  وأصحابه، ويده سبحانه لم تتركهم وحدهم، ولا سيما أن يهود بني قريظة انضموا إلى المهاجمين، ونقضوا عهد الرسول في أحلك الأوقات وأحوجها إلى مساعدتهم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) (الأحزاب 9-11).

والمقصود هنا: ما عقب به القرآن على هذه الغزوة حين قال: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ) (الأحزاب25). سورة تسمى سورة (الفتح) تبدأ بقوله تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) ويسأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفتح هو يا رسول الله؟ فيقول: "نعم هو فتح". ابتعدوا أن يكون فتح بغير حرب، ولكن الله تعالى سماه فتحًا بل فتحًا مبينًا، وامتن به على رسوله صلى الله عليه وسلم وأنزل في ذلك سورة سميت (سورة الفتح). وقال تعالى في هذه السورة ممتنًا. (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) (الفتح24). فهو هنا لا يمتن بكف أيدي المشركين عن المؤمنين فقط، بل يمتن أيضًا بكف أيدي المؤمنين عن المشركين أيضًا: (وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ) فهذا هو التعبير الحقيقي عن حب السلام الذي يسود الطرفين معًا.

وإذا اضطر المسلمون أن يخوضوا معركة فرضت عليهم، فإنهم مأمورون أن يقللوا من خسائرها البشرية والمادية ما أمكنهم، فلا يقتلون إلا من يقاتل، لا يقتلون امرأة ولا طفلاً ولا شيخًا فانيًا، ولا راهبًا ولا فلاحًا ولا تاجرًا، إنما يقتلون من يقاتل فحسب، كما أنهم لا يقطعون شجرًا، ولا يهدمون بناء، ولا يفسدون في الأرض، ولا يقومون إلا بما تقتضيه ضرورة الحرب، وللضرورة أحكامها، وهي تقدر بقدرها، فقد قيد القرآن ارتكاب الضرورة بعدم البغي والعدوان، حين قال بعد تحريم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

ومع هذا كله، يأمر القرآن المسلمين أن يستجيبوا لدعوة السلم إذا دُعُوا لها، ولو بعد وقوع الحرب، واشتعال وقودها. يقول تعالى: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) (الأنفال61- 62).

حتى مع احتمال إرادة الخداع منهم، لا ينبغي أن ترفض دعوة السلم بإطلاق، وإنما يجب أن نجنح لها كما جنحوا، على أن يتم ذلك بشروطه وضوابطه الشرعية. فليس من الجنوح للسلم بحال: أن تغتصب أرضى بالسيف، ثم تفاوضني على أن أترك لك بالصلح ما أخذته مني بالسيف، وتسمي ذلك جنوحًا للسلم، فهذا أبعد ما يكون عن الجنوح للسلم، كما يفعل ذلك الصهاينة اليوم والشرط أن يتوافر من العدو الجنوح للسلم، حقيقة لا دعوى، وأن تظهر دلائل ذلك في مواقفه.

وهذا ما طبقه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفعل، حين جنحت قريش إلى السلم يوم الحديبية، ولم يكن ذلك عن ضعف منه، ولا تقاعس من أصحابه، فقد بايعوه على الموت، ولكنه جنح للسلم، حين لمس من خصومه الجنوح إليها، فكان الصلح الشهير، والصلح خير، وقد تحقق من ورائه خير كثير لدعوة الإسلام، ودخل الكثيرون من القرشيين في دين الله، من أمثال خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهما.

ومن دلائل حرص الإسلام على السلم، ونفوره من الحرب: هذا الحديث النبوي الذي يقول: "أحبُّ الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن، وأصدق الأسماء: حارث وهمَّام، وأقبح الأسماء: حرب ومُرَّة". حتى لفظة (حرب) من المفردات التي يكره الإسلام تكرارها على ألسنة الناس، ولهذا يكرهها محمد صلى الله عليه وسلم، ويراها أقبح اسم يسمى به إنسان، وقد كان العرب في الجاهلية يسمون أبناءهم بـ(حرب) مثل حرب بن أمية، والد أبي سفيان بن حرب وغيره.

وروى الإمام مالك في الموطأ عن يحيي بن سعيد مرسلاً أن رسول الله قال لِلَقحةٍ (ناقة) تُحلب: "من يحلب هذه؟"  فقام رجل فقال: "ما اسمك؟" قال: مرة، قال:"اجلس"، ثم قال: "من يحلب هذه؟" فقام رجل، فقال"ما اسمك؟" قال: حرب، قال:"اجلس"،  ثم قال: "من يحلب هذه؟" فقام رجل، فقال: "ما اسمك؟" قال: يعيش قال له رسول الله  احلب".

وروى الإمام أحمد في مسنده، وروى البخاري في الأدب المفرد، وغيرهما عن علي رضي الله عنه قال: لما ولد الحسن سميته حربًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أروني ابني ما سميتموه؟" قال: قلت: حربًا، قال"بل هو حسن" فلما ولد الحسين سميته حربًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أروني ابني ما سميتموه؟" قال: قلت: حربًا. قال: "بل هو حسين" فلما ولد الثالث سميته حربًا، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أروني ابني ما سميتموه؟" قلت: حربًا، قال: "بل هو محسن".

وفي إحدى الروايات: أن عليًا قال: كنت أحب أن أكتني بـ(أبي حرب).

فهل يقول هذا إنسان متعطش للدماء، عاشق للحروب، كما تصوره أقلام المتعصبين المُنصِّرين والمستشرقين وأمثالهم، ممن يقولون على الله وعلى رسله الكذب وهم يعلمون؟!.

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 90 مشاهدة
نشرت فى 8 نوفمبر 2017 بواسطة Sofraaalazhar

مشروع سفراء الأزهر

Sofraaalazhar
تأهيل وتطوير شباب الأزهر (محلياً - دولياً) بأهم المهارات (تكنولوجيا - اتصال- إعلام - إدارة - ثقافة) بأحدث أدوات التدريب المعاصرة لتعزيز دور المسئولية المجتمعية للأزهر في التواصل مع الفئات المختلفة لمواجهة الأفكار المتطرفة وترسيخ ثقافة الحوار بالتشبيك والمشاركة مع المؤسسات الحكومية والمجتمع المدنى والقطاع الخاص محلياً ودولياً. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

6,002

نبذة عن المنظمة العالمية لخريج