الوجه الثالث : إلام يحتاج اليتيم بداية ؟.
لو طرحت هذا السؤال على كل من عرف ظروف هؤلاء الأيتام وواكب معاناتهم ، لكان جوابه : إن أول ما يتطلعون إليه هو : المأوى . وهذا عين ما ذكره القرآن في التفاتة رحيمة بهذه الفئة . قال تعالى مخاطبا قدوة الأيتام r : { ألم يجدك يتيما فآوى ؟ } الضحى- 6. هذا أفضل ما عولجت به ظاهرة اليتم في شتى المجتمعات : توفير المأوى والملاذ الآمن لكل يتيم ، وبسرعة كبيرة على مايفيده العطف بالفاء . فكأن الآية خطاب إلى الأمة بالنيابة مؤداه : أيتها الأمة أمني لكل يتيم مأوى .
في الآية أيضا معنى لطيف لا يخفى على المتأمل وهو : لما امتن الله تعالى على نبيه r بإيوائه ، دل هذا على أن هذه نعمة تستحق الذكر . والذي ينظر في من آوى محمدا r يجد أنه جده عبد المطلب ومن بعده عمه أبوطالب ، مما يُفهِم أن من تمام نعمة الإيواء أن يوضع اليتيم في كنف أسرة وضمن عائلة ، إما قريبة وهذا هو الأصل ، يشهد لذلك الآية الكريمة :{ يتيما ذا مقربة }. وإلا فبعيدة .
وإن كنت أيها القارئ اللبيب ممن يعولون في فهم القرآن على معنى الألفاظ وعلاقاتها المنطقية فيما بينها ، فإليك هذه المعلومة اللغوية تأكيدا لما سبق . إذا كان اليتم هو : انقطاع الصبي عن أبيه ، فإن الإيواء هو : ضم الشيء إلى آخر . ولك أن تتخيل مدى التكامل في الآية التي نزلت دستورا للمجتمع . قطع هنا باليتم ، ووصل هناك بالإيواء ، يعني : لا مشكلة أبدا .
وإليك من كلام النبي r حول ذات الموضوع هذه النكتة . يقول r : [مَنْ مَسَحَ رَأْسَ يَتِيمٍ لَمْ يَمْسَحْهُ إِلا لِلَّه ،ِ كَانَ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ مَرَّتْ عَلَيْهَا يَدُهُ حَسَنَاتٌ] أحمد .
يتيم وشعر وحسنات . ما هو الرابط المعنوي بينها يا ترى ؟. إنه النمو ! . فاليتيم ينمو والشعر ينمو والحسنات تنمو وتزيد . وكما يخشى على الحسنات من السيئات ، وعلى نمو الشعر من الأوساخ والآفات ، كذلك يجب أن يخشى على اليتيم من الإهمال والضياع . فرجل أشعث أغبر قبيح المنظر ، مقراف للذنوب سيئ الخلق ، حاله هذه من حال المجتمع الذي لا يهتم باليتيم . إن كلمات الحديث نفسها تقطر خوفا وجزعا على مصير اليتيم .
قل لي بربك : أين تجد مثل هذه الصورة الحية في غير كلام النبي r الحريص على الأيتام والغيور على حقوقهم ؟ . من غيره r أوتي جوامع الكلم وأسرار العبارة يخاطبنا ، حتى نستولد نحن المعاني من ألفاظها حية نابضة ، تزعج عقولنا فتلهب نفوسنا إلى تطبيق الأمر الشرعي ؟. ومن غير المسلم وفقه الله تعالى إلى أن يطوي كل هذه المعاني العظيمة ، بمسحة واحدة من يده ؟! .
الوجه الرابع : كيف تفوز بجوار النبي r ؟.
لقد كانت نظرة الإسلام إلى مجتمع اليتامى نظرة إيجابية واقعية فاعلة ، لعب فيها عنصر الإيمان وحافز الثواب دورا أساسيا . فهم في المجتمع المسلم ليسوا عالة على المجتمع ولا عبئا على أفراده ، وإنما هم من المنظور الشرعي حسنات مزروعة تنتظر من يحصدها ليفوز بجوار النبي r ورفقته يوم القيامة . يقول النبي r : [ أَنَا وَامْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ ـ السفعة : أثر تغير لون البشرة من المشقة ـ كَهَاتَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوْمَأَ يَزِيدُ ـ الراوي ـ بِالْوُسْطَى وَالسَّبَّابَة .ِ امْرَأَةٌ آمَتْ مِنْ زَوْجِهَا ـ توفي زوجها فأصبحت أيما لا زوج لها ـ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ حَبَسَتْ نَفْسَهَا عَلَى يَتَامَاهَا حَتَّى بَانُوا ـ كبروا وتفرقوا ـ أَوْ مَاتُوا ] أبو داود.
حافز الأجر هذا هو الذي جعل الأم الصابرة تتعلق بأطفالها بعد وفاة زوجها في صورة مشرقة من عطف الأمومة على الطفولة . فهجرت الزينة والتبرج ، ونزعت الراحة من نهارها والنوم من ليلها تحوطهم بأنفاسها وتغذيهم بدمها قبل حليبها حتى ذهبت نضارتها لم يهزمها الموت بل اعتبرته جزءا من استمرار الحياة ، فالآن يبدأ دورها .
لم تكتف هذه الأم الطيبة بدور الأمومة ، وقرنت إليه كفالة الأيتام أيضا ، فمنحت ليتاماها بصمودها هذا أمتن عروة يستمسكون بها تغنيهم عن البحث خارجا عمن يأويهم ، ثم شكر النبي r لها ومدحها فجاءت جائزتها مجزية وثوابها مضاعفا . مشهد بليغ يصوره هذا الحديث الشريف ، في رسالة واضحة إلى المجتمع مضمونها :
1- أن الأم أولى باليتامى من أنفسهم .
2- أن الأمومة هي الملاذ الثاني لليتيم بعد الأبوة . فليس بعدها إلا الضياع أو يد محسن . ( أمومة بديلة)
3- إن كان هذا ممكنا في أم مع أولادها لأنهم قطعة منها ، فهو ممكن أيضا مع كل امرأة صالحة تريد القيام بهذه المهمة الشريفة مع أطفال ليسوا منها . مع أجر أكبر وثواب مضاعف حتما .
الوجه الخامس : هل نؤمن بالقرآن ؟ .
مكمن الداء أن البعض منا إذا تناول هذه المعضلة الاجتماعية ، فإنه يتناولها من ناحية نظرية ، وإن تحدث عنها فمن زاوية وعظية ، ولما يستوعب خطورة هذا الشأن . فالقرآن الكريم اعتبر من يدعُّ اليتيم مكذّبا بالإسلام . يقول تعالى : { أرأيت الذي يكذّب بالدين . فذلك الذي يدعُّ اليتيم } الماعون- 1/2 . تُسمى هذه السورة أيضا بسورة التكذيب . وفي بدايتها استفهام فيه تشنيع وفضح وتعجيب من هذا المذكور ، وبيان أنه يقف في دائرة بعيدة عن حقيقة الدين كما يفهم من اسم الإشارة للبعيد : فذلك .
وفي الآيتين السابقتين اتهام مباشر لا التواء فيه ، فكذلك ينبغي أن نعامل كل مقصر في هذا المجال . وقد سعت السورة للدلالة على خطورة دعِّ اليتيم ، أنْ ربطته بالعقيدة . وارجع – وفقك الله – إلى سورة البلد لتجد كيف سبق إطعام اليتيم فيها ، الكينونة مع الذين آمنوا . قال تعالى : { فلا اقتحم العقبة . وما أدراك ما العقبة ؟ . فك رقبة . أو إطعام في يوم ذي مسغبة . يتيما ذا مقربة . أو مسكينا ذا متربة . ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالحق وتواصوا بالمرحمة } البلد – 11/17.
ومعنى يدع اليتيم : يدفعه بعنف عن استيفاء حقوقه . وليس الدَّعُّ إلا كلمة عجيبة اشتملت – بالإضافة إلى التشديد الكائن في مادة الكلمة – على كل معاني الإقصاء والإهمال والشدة والعنف وسائر مظاهر الظلم التي تلحق باليتيم . ومثلها كلمة القهر في سورة الضحى ، بل هي أعجب لما انطوت عليه من ممارسات الضغط النفسي والبدني التي تفترض شخصا فاعلا وآخر مفعولا به ، وهي حبلى بكل المعاني التي تورث الإهانة ونقص الكرامة والشعور بالضعف والنقص ... يدل على هذا أصل الكلمة اللغوي وهو : الأخذ من فوق كما في لسان العرب لابن منظور .
وقد ذكر القرآن الكريم أن الذين يأكلون أموال اليتامى إنما يأكلون نارا في بطونهم. ووجه المناسبة أن الذي يأكل مال اليتيم ظلما ، فإنه يعرض اليتيم بذلك لنار الجوع والفقر ، ولفح الحاجة والمرض ... فما يأكله هو نار ، لأن الحصاد من جنس الزرع .
الوجه السادس : من المسؤول عن دعِّ اليتيم وقهره ؟
نريد في هذا السياق أن نصحح مفهوما خاطئا عن اليتم ، وهو ارتباطه في الأذهان بالظلم والقهر والحرمان النفسي ... فلا نكاد نسمع عن يتيم إلا وتقفز أمامنا صورة طفل ذليل تتقاذفه الأبواب والطرقات . والواقع أن هذه صورة صحيحة ، ولكن ما ليس بصحيح هو عزو سبب ذلك إلى اليتم والحال أنه ليس شرا في ذاته وليس هو المسئول عن هذا الواقع ، وإنما المسئول هو المجتمع ثم المجتمع . عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَن النَّبِي ِّ r قَالَ : [ خَيْرُ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُحْسَنُ إِلَيْه .ِ وَشَرُّ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُسَاءُ إِلَيْهِ ] ابن ماجة .
إن مظاهر الظلم والقهر والإهمال وكل الاضطرابات النفسية التي تحتل نفوس معظم الأيتام ، لا علاقة لها باليتم أو بفقد النسب ، بل هي من صناعة المجتمع الذي يهمل يتاماه . ولهذا لم يخاطب القرآن الكريم اليتيم لأنه لا دور له في ما حصل له ، بل اليتم قدر من الله تعالى لحكمة يريدها . وإنما انصرف بخطابه إلى المجتمع مباشرة يحمله وزر التفريط في فئة من أبنائه كما في الآيتين السالفتين ، لأن ضمير الخطاب فيهما عائد على الجماعة المسلمة ، كل من موقعه . ونظير ذلك قوله تعالى : { وأن تقوموا لليتامى بالقسط} النساء – 127. وقوله تعالى : {كلا بل لا تكرمون اليتيم } الفجر- 17. وقوله تعالى : {وأما اليتيم فلا تقهر } الضحى- 9... إلخ . واضعا بذلك أسس المعاملات التي تحمي اليتيم من كل أشكال الظلم الاجتماعي والقهر النفسي .
ولفت الشرع الانتباه إلى ظاهرة اليتم أن جعلها الله تعالى محلا لعدة أعمال صالحة . وسببا من أسباب المغفرة ودخول الجنة بإذن الله تعالى . قال r: [ مَنْ قَبَضَ يَتِيمًا مِنْ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ إِلَّا أَنْ يَعْمَلَ ذَنْبًا لَا يُغْفَرُ لَه ] الترمذي . ولن نكون مبالغين إذا قلنا : إنه مصدر (دواء) نافع في علاج مرض نفسي يشكو منه كثير من الناس وهو: قسوة القلب . ولو صح من الناس العزم على الشفاء من هذا الداء بهذه الوسيلة ، لما بقي على الأرض من يتيم . [عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّه rِ قَسْوَةَ قَلْبِهِ فَقَالَ لَه:ُ إِنْ أَرَدْتَ تَلْيِينَ قَلْبِكَ فَأَطْعِمْ الْمِسْكِينَ وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيم ] أحمد .
نتمنى أن نكون قد توصلنا بهذه الكلمات إلى المسح على هذه الرؤوس الصغيرة التي تشابهت ظروفها كزهور متعانقة في مغرس واحد تنتظر الماء والغذاء . كما نرجو أن تكون رسالة إلى المجتمع واضحة لأنه المسؤول الأول عن يتاماه . لقد خلق الله تعالى الأيتام للحياة ، فكيف يحل لنا وأدهم بالإذلال والإهمال ؟ . وإذا كان سبحانه قد جعل هذه الأغصان الخضراء للثمر ، فكيف نقطعها نحن ونجعلها للحطب ؟ .
إنه لايصح شرعا ولا طبعا ولا وضعا أن يحرم هؤلاء مرتين . مرة من حنان الأمومة وعطف الأبوة ، وأخرى من رحمة المجتمع ورعايته . نقول هذا ونحن نعلم أن في مجتمعاتنا المسلمة نفوسا رحيمة وقلوبا عطوفة تتلهف لخدمة اليتيم بأن تمسح شعرة على رأسه أو دمعة على خده . ولئن كان التقصير فرديا في هذا الباب ، إلا أنه لن يكون عاما بحال من الأحوال . فالخير باق في الناس إلى يوم القيامة .
ختاما نقول : مهما قلنا أو فعلنا ، فلن ندرك أبدا كيف هو شعور من يكتشف في لحظة أنه بدون أب أو أم ؟ . ولن نعيش أبدا إحساس من أدرك في غفلة من المجتمع ، أنه مجهول الوالدين ؟. ولن نحصي مطلقا كم من الأطفال كتب عليهم ألا يروا آباءهم ؟ . ولكننا قد ننجح إذا صحت منا النية واشتدت الإرادة ، في أن نكون ممن يمسحون دموع هؤلاء الصغار ، ويبلسم جروح الكبار منهم ؟ .
ساحة النقاش