مدونة ايكة الشعراء للأديبة راندا كيلاني

:::: {{ رواية سيرة ذاتية - الجزء الثاني - }} ................................. 

{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}

[[[ الله .. كم هو قريب !! - د / محمد البكري - ]]]  

::::::::::::::::::: [{ الفصل الأول  - - - تقديم  - - - }] ....................

[][][][][][][][][][][][][][][][][][][][][][][][][][][][][][]

             تذكرت الآن شيئًا أضحكني ، وحدثت فيه زوجتي ليلة أمس . قلت لها أنني منذ نحو عشر سنوات مضت ، وفى عام ألف وتسعمائة وثمانية وثمانون ، وقبل زواجي منها ببضعة أشهر ، أعددت معظم مادة كتابي الذي سميته " الرحلة الشاقة " ، وكان موضوعه عن العلاقات العربية الإسرائيلية .. ماضيها وحاضرها وتشوفات المستقبل المنظور والبعيد  . 

واستطردت أقول : 

: كتابي هذا لم ينشر بعد ، وأكثر ما يعنيني فيه الآن هو ما حدثني فيه أحد أصدقائي .

فردت وهي تبتسم ..

: في حدود معلوماتي .. أنت حريص على ألا يكون لك أصدقاء ، وقد اكتفيت بإخوتك ، واعتبرتهم كل عالمك .

: نعم .. أنا أعرف أننى لا أمتلك أصدقاء بالمعنى المفهوم والمتعارف عليه بين الناس ، ولكني أسمى كل من أتحاور معهم وأكلمهم وأقضى معهم بعض الوقت " أصدقاء " .. فأنا لا أحب أن تخلو دنياي من هذا المصطلح الجميل ، وإن كانت طبيعة حياتى لا تعطينى الوقت لأكون صداقات فى تلك المرحلة العمرية من حياتى ، إلا أننى عشت هذا المعنى الإنسانى الرائع فى سنوات صباى وشبابي .

: المهم يازوجى العزيز .. من هو سعيد الحظ الذي سيدخل السجن بسببك عما قريب ؟

: "محمد مندور"

: أليس هو شقيق الصحفية التي تخرجت من كلية الإعلام ،  وتعمل الآن مراسل عسكري في الجيش ؟

: ومن أين لك بكل هذه المعلومات !

: أنت مصدر معلوماتي الوحيد ، وقلت لي أيضًا أن أخاها يفتخر أمامك دوما ، بأنه كان ضمن العاملين بالمخابرات الحربية .

: لك ذاكرة يحدسك عليها أمثاليّ .

: المهم .. ماذا دار بينكما بخصوص كتابك الذي جلب عليك المشاكل ؟

: سأقول لك كل شيئ .. لكني أشعر بالجوع الشديد كالعادة ، وأكتر شوية ، أنا لو كنت مركب عداد يسجل حركتى بالصيدلية ، ستكون قراءة العداد تكفى لوصولى الى القاهرة سيرا على الأقدام . جهزي عشاء يليق بالصيدلى الشقيان والخمسة عشر ساعة عمل وسأروى لك كل شيء . 

         قامت زوجتى تجهز العشاء الغير صحى بالمرة ، فالعشاء عندى يفوق الغداء ، ويمتلأ بالدسم فى مخالفة صريحة لكل ما اتفق عليه الأطباء ، لكنى لم أشكو أبدا من عسر الهضم كما يقولون ، ولم أعانى من الكرش الملازم لكل من إقتربوا من عمر الخمسين .

 ولأنى عادة ما أتناول عشائى على السرير ، وأنا أتابع التلفاز الصغير الذى أسمعه بالكاد حتى لا أوقظ أطفالى ، فقد إتكأت بظهرى وسرحت ، وأنا أستعيد الحوار الذى دار بينى وبين محمد مندور .

                                     **************************

          والحقيقة أن "محمد " كان قد أمضى فترة تجنيده بالقوات المسلحة ضمن سلاح المخابرات الحربية ، وما يزال محتفظا بعلاقات وثيقة بكثير من ضباطه ، ويُسمح له ببعض الصلاحيات التي يجامل بها الآخرين ، والأرجح أنه بعد انتهاء خدمته ، ظل يعمل من منازلهم ضمن هذا الجهاز . 

: جاءني محمد وهو يضحك ويقول :

: لو تحققت النبوءة الثالثة فسوف أرسل لكل الجهات الأمنية فى مصر ،  لكي يلقوا القبض عليك

: بتهمة إيه ؟

: التهم كثيرة .. أبسطها أنك تتنكر وتخفي عن الناس أنك "نبي" مرسل من السماء .

           أغرقت فى الضحك وبادلته مزحته وأنا أقول له وفي ذهني الرتب العسكرية ..

:  تقصد " نبي" متقاعد بدرجة لواء .

ضحك محمد وهو يقول لي ..

: ألا تذكر نبوءاتك الثلاثة في الورق الذي أطلعتني عليه .. أصول كتاب " الرحلة الشاقة "

: فاكر طبعا ..

: لقد قلت أن هناك حربا كبيرة ستقوم بالمنطقة ، وأن مصر ستكون طرفا فيها .. وفي أغسطس سنة ( 1990م ) قامت الحرب بين العراق والكويت ، لتنضم الدنيا كلها إلى هذه الحرب ، وكانت مصر بطبيعة الحال واحدة من الدول المشتركة .

: أذكر هذا وأذكر أيضًا أنني تحدثت في أحد فصول هذا الكتاب عن قوة إسرائيل النووية محاولا تقييمها .. ومستقيًا معلوماتي من خلال بعض المقالات المنشورة ، والكتب العربية ، سواء كانت لباحثين عرب أم مترجمة عن باحثين أجانب . وحين هرب أحد علماء الذرة الإسرائيليين ( فعنونو )إلى لندن بعد ذلك بأقل من عام  ، وأذاع أسرارا عسكرية تتعلق بقوة إسرائيل النووية قبل أن يعيده "الموساد" إلى بلاده مخطوفًا . جاءت تلك المعلومات التى نشرها مطابقة  لما ورد بالكتاب ..

                                    **************************

بادرني محمد مندور قائلًا ..

: الذي جاء بي الآن هو النبوءة الثالثة . لقد قلت في تلك الأوراق أن هناك حربًا أخرى ستقوم بعد عشر سنوات ، بل وحددت الشهر وقلت في شهر نوفمبر سنة 1998م ، وكنت دائم الحديث عن تلك الحرب خلال العام الماضي ، وقلت أيضًا أن الحرب ستشمل مصر وإسرائيل ، ومرت السنين ، وها هي تركيا تتحالف مع إسرائيل وتحشد قواتها ، وتهدد بضرب سوريا ، وقد تشتعل المنطقة كلها فجأة وبلا مقدمات !

        كان محمد يجلس أمامي ، وفجأة وبعد أن أنهى كلماته ، رأيته يستدير بشكل مسرحي  ليضرب رأسه بالحائط وهو يقول :

: النبوءة الثالثة سوف تتحقق يا دكتور محمد ،  والنبي قل لي ماذا سيحدث فيها !

قلت له مداعبا :

: لا .. أنا حدودي حتى هذا  الحد  فقط .. التفاصيل تلاقيها عند الشيخه "أمال" في مشتهر.

0 الشيخة أمال دجاله معروفة بمنطقتنا تدعى علم الغيب والعلاج بالسحر وتسخير الجان )  

عاد محمد يقول :

: بصراحة ..  مع أي جهاز مخابرات تعمل يا دكتور .. وسرك في بير .

وضحكت وأنا أقول له :

: تفتكر إنه في قدرة أجهزة المخابرات التنبؤ بحرب قبل قيامها بعشر سنين ؟

: طيب فهمني !

: أبدًا .. ببساطة شديدة مجرد إحساس .. أو استشعار عن بعد في قلب الزمن ، مع استقراءات على توقعات .. ثم جاءت الصدفة لتكمل الحكاية ،  وصحت تكهناتي وبقيت بقدرة قادر الشيخ 

" محمد ".. العارف بالنجوم والفلك والمتحدث الرسمي باسم المستقبل .

: لا.. أبدًا .. الحكاية ليست بهذه البساطة .. الحكاية أخطر من كده !

: بُص "يا حمام " ..  الحكاية لا هي خطيرة ولا حاجة .. أنت عارف إن الحركة الصهيونية انطلقت من برنامج "بازل" بسويسرا تحت زعامة " تيودور هيرتزل "، الذي قال عن هذا المؤتمر .. (  لو أردت أن أختصر ـ مؤتمر بازل" في كلمة واحدة ، وهذا ما لن أجاهر به صراحة ، لقلت أنه في ـ بازل ـ أُسست الدولة الصهيونية ، ولو قلت ذلك اليوم لقابلني العالم بالسخرية والضحك ، ولكن بعد خمس سنوات على وجه الاحتمال ، وبعد خمسين سنة على وجه التأكيد .. سيري هذه الدولة جميع الناس ) .

وأنت تعلم "يا حمام" أن هذا المؤتمر كان عام ( 1898م ) وبالفعل بعد خمسين عاما ، وسنة ( 1948م ) قامت دولة إسرائيل ، وسرى في نفسي اعتقاد بأن إسرائيل ستقوم بعد خمسين سنة أخرى وهي تحيي ذكرى مرور - مائة عام - على " مؤتمر بازل " بعمل يليق من وجهة نظرهم بتلك المناسبة ، وأنهم ربما شنوا هجومًا مباغتًا على سوريا لإجهاضها عسكريًّا ، خصوصًا وأن سوريا تمتلك من القوة العسكرية ما يُقلق إسرائيل . 

ربما صح هذا الظن ، وربما أخطأ  ،  فأنا بدأت من فرضية بسيطة كما ترى .. والبداية ربما كانت منطقية ، وليس بالضرورة مع ذلك أن تؤدي إلى نتائج حتمية . إنت عارف طبعا أني أمضيت ليلة سوداء بمباحث أمن الدولة بالجيزة  - وصفتها في كتابي -  ،  وعلى إثر تلك الليلة لم أحاول أن أطيل في البحث ليشمل الكثير ، وأنهيته على عجل لأرسل صورة من المسودة لرياسة الجمهورية ، متضمنة شكوى من ضباط مباحث أمن الدولة ، وجاءت الصورة النهائية التي كتبتها بعد ذلك ببضعة أشهر في مدينة " بريده " بالمملكة العربية السعودية ، لا تضيف شيئًا ولا تختلف في مضمونها الفكري عن المسودة . ولو كان للكتاب أهمية فيما سيحدث ، فهناك نسخة عند أكبر رأس في البلد ومن زمان . وعلى فكرة يا "محمد".. أنا لا أعتبر هذا الكتاب ذو أهمية خاصة لأنه بحث لم يكتمل ، حين أعلنت الدولة عن رفض الفكرة ،  وكل ما له من خصوصية شيئ يتعلق بي بشكل شخصى ، وجاء بحكم ولادة الكتاب ، من حيث الزمان والمكان والأحداث المحيطة .

                               ****************************

            أخذ "محمد مندور " شهيقًا عميقًا لتخرج كلماته بعد ذلك مع نسمات زفيره وهو يقول : 

: فاكر قبل محاولة اغتيال " حسني مبارك " في " أديس بابا " بثلاثة أشهر تقريبا .. لما دعوتك لزيارة المقدم/ عماد بوزارة الدفاع ؟

: فاكر طبعا وكأنها حدثت بالأمس .. وفاكر هذا اللواء الذي أتى ليشاركنا بعض الوقت ، وبعد انصرافه أكمل معنا هذا اللقاء لواء آخر .. هذا الذي وصفته أنت بأنه أهم لواء في المخابرات الحربية .. وأتذكر أنك قلت لى أن أحد اللوائين من بلدنا ، من طوخ ، وأنه من عائلة زعزع .

رد محمد مندور قائلا ..

: يمكن من حيث الرتبة العسكرية القدم عماد أقل  .. لكنه بلا شك  أذكى وأخطر وأهم منهما ومن وزير الدفاع نفسه !

: خلي بالك ..  الحب الزايد والتحيز لشخص معين ممكن يخلي حكمك غير موضوعي .

: المهم يا دكتور " محمد ".. يومها إنت سألت المقدم عماد عن مدى درجة الأمان في إجراءات حماية "الريس".

: ورده أنا فاكره كويس  وكأنه تحدث به قبل قدومك لزيارتى من ساعة . قال لي يومها .. ( أنه لو كُلف بتأمين قاعة سيحضر بها الرئيس اجتماعًا ما .. فنسبة نجاح أي محاولة اغتيال لن تتعدى الصفر فى المائة )  .. 

وروى لي حكاية الرجل الصعيدي الذي قُبض عليه وهو ينام في سيارة نص نقل بميدان العباسية ، وكان يحمل مسدسًا داخل "صديري" أسفل الثوب الذي يرتديه ، وكان هذا الموقع هو الخط الثالث من خطوط تأمين الرئيس ، وكان مقررًا أن يشارك الرئيس في إحدى المناسبات بمدينة نصر . 

وعلمت يومها من المقدم عماد ، أن هذا الخط يسبقه خطان ، واحد عند ميدان رمسيس ، والآخر على مشارف القاهرة عند شبرا الخيمة ، هذا بخلاف خطين آخرين بعد  ميدان العباسية  ، هذا بخلاق محيط قاعة الاجتماع ، وأن تأمين القاعة من الداخل يخضع للحرس الخاص برئيس الدولة .

بادر "محمد مندور" يقول :

: يومها أنت قلت للمقدم/ عماد بالحرف  ( إذا كانت الأمور ماشيه كده ،  هتتنقل محاولات الاغتيال خارج الحدود ) 

: يا صديقي أنا لا أنسى ما أقول .. ولكن ما الفائدة .. لم يهتم أحد بما قلت ، وكاد الرجل يلقى حتفه في أثيوبيا !

: ومن قال لك أن كلامك لم يؤخذ بمنتهى الجدية !

: تفتكر !

: تفتكر إنت إيه ؟

: أفتكر إننا بحاجة إلى كوب من الشاي !

: لا يا دكتور .. قهوة " مظبوط " وأنا من سيعدها بنفسه .. وإن كان لي سؤال أخير .

: تفضل .

: إيه حكاية النبوءات دي بالضبط. ومن الآخر .. عشان نفسى أفهم ؟

: من فضلك وضح لي الصورة ؟! 

: يا حمام الأصل في كل هذا أنني كاتب .. أو هكذا أ دعي .. ساعات أكتب مسرحية أو رواية أو قصة قصيرة أو حتى تحليل سياسي .. وأنا أدعي أن كل أنواع الكتابة لها روح واحدة ، والكاتب الذي لا يملك نبوءة .. أفضل له يشوف  شغلانة ثانية . والنبوءة ليست ضرب ودع واستطلاع نجوم .. النبوءة في الأدب لها مفهوم خاص ، وأعتقد أنها جزء أساسي من عمل الكاتب المجيد ، والنبوءة لا تعني بالتحديد الخوض في أحداث مستقبلية لاطلاع الناس عليها ، فالغد علمه عند علَّام الغيوب .. النبوءة رؤية ذاتية مخلوطة بأحاسيس روحية يتداخل فيها العقل والروح .. وسالف الأيام مجال لها ، كما هو الحال مع ما قد يأتي به المستقبل .

: من فضلك وضح لي الصورة ؟

قالها بنفس النغمة التي ورد بها السؤال في مقدمة فوازير رمضان على لسان شخصية ( فطوطة ) التى لعبها سمير غانم .. وأجبته .

: الرد من مقدمة الفوازير ، كما استعرت أنت نغمة صيغة السؤال منها .. سأوضح لك وأرجو ألَّا تفهم بالتقسيط. .

ضحك محمد وهو يمسح مقدمة جبهته بكف يده من عبارة الفهم بالتقسيط ، وتابعت أنا حديثي قائلًا :

: حينما كتبت مسرحية " ما بعد الصعود " وهو مسرحية تاريخية عن فترة رائعة من تاريخ مصر الفرعوني ، وفي أواخر عصر الأسرة الثامنة عشر . حين قام " إخناتون " يدعو الدنيا إلى الإله الواحد الذي رمز إليه بالشمس ،  لفتتني عظمة هذا الملك ولفتتني أكثر حادثة اغتياله ثم اغتيال ابنه " سمنح كارع " ومن بعده ابنه " توت عنخ آمون " ثم زوجته " نفرتيتي ". وبدأت أشك أن وراء كل تلك الاغتيالات رجل واحد ، ودارت شكوكي حول " آي ".. مستشار إخناتون وحافظ أسراره ، هذا الذي وصل إلي مرسي العرش ، رغم أنه من دماء غير ملكية - من خلال زواجه من الملكة "إن - با- آتون"... أرملة " توت عنخ آمون " بعد وفاته . 

وبعد أكثر من عشر سنوات من تسجيلي لمسرحيتي بهيئة الرقابة على المسرح ، نشر باحث إنجليزي نتيجة أبحاثه التي استمرت ثلاثون عامًا على نفس الأسرة ، ووصل إلى نفس النتائج التي وردت ضمن أحداث مسرحيتي .

الحكاية بالنسبة لي كانت مسرحية كتبتها في بضعة أيام ، ومهدت للكلام عنها بقراءة بعض الكتب عن تلك الأسرة وعلى مدى شهر واحد ، والباقي كله كان شغل خيال أو "نبوءة".

لم أكن بحاجة إلى تصوير المومياوات كما فعل الباحث الإنجليزي ، ولم أقرأ آلاف الصفحات وأقارن كل المعلومات ، وأسجل ملاحظاتي على " ديسكات الكومبيوتر " .. لقد قفزت فوق كل هذا بالإلهام .. أو سمه أنت الخيال ، وقد يسميه البعض " نبوءة " خاصة بالماضي المُبْهم . كانت تلك هي وسيلتي وأنا أحقق في جريمة قتل وقعت منذ نحو خمسة آلاف عام .

                       ******************************

: معنى هذا أنك تحل ألغاز جرائم وقعت قبل الميلاد ، وتصف أحداث ستقع في المستقبل .. وهذا يستدعي قرار سيادي بالقبض عليك وحبسك للاستفادة من قدراتك الروحية .

: كتر خيرك يا " محمد ".. عملت بأصلك .. طبعًا تربية المقدم " عماد " أخطر رجل في المخابرات الحربية !

: من فضلك يا دكتور .. إوعى تخوض في الذات الملكية !

: قلبك أبيض .. الطيب أحسن .. وربنا يكفينا شركم !

: تعرف يا دكتور " محمد ".. إنت مؤكد لا تعرف القلق على مستوى حياتك الشخصية !

: وإيه هو السبب الذي جعلك تعتقد  هذا الغير حقيقي بالمرة ؟

: لأنك أكيد عارف ما سيحدث لك في المستقبل ، وتستطيع أن تتفادى أي شر .

: الخير والشر قدر من عند ربنا ، ولا نملك حيلة أمامه ، والحذر يا صديقي لا يمنع القدر.

: يعني أنت لا تعرف ماذا سيحدث لك ؟

: والله إنت أدرى "مش انتوا الحكومة ".. وعمومًا اطمئنوا تمامًا .. فقريبا سوف يتوقف قلمي عن الكتابة ،  وإن كنت لا تعلم فسوف أخبرك بالقادم  .. إن نهايتي أقرب مما تتصور ، والتأخير حتى هذه اللحظة كان بسبب إصرار إلهي على أن تستمر حياتي ، وطاشت  من حولي سهام كثيرة ، أكثر مما تتصور !

: يا سيدي .. يا سيدي .. حماية إلهية بقى !

: وجعت دماغي يا أخي .. قوم إعمل القهوة .

                           ******************************

         قام محمد وتركني أمدد ساقي على " الكرسي " الذي أمامي وأنا أفكر في أشياء كثيرة ..

- ترى .. هل إحساسي بدنو النهاية يمكن أن يَصْدُق !

- ماذا لو تحققت نبوءتي فيما يتعلق بحياتي !

- هل سيلاحقني دوما هاجس الموت هذا !

- أليس هناك شكلًا أجمل للحياة يمكن أن يطاردني بعض الوقت ، حاملًا في يده باقات الورود !

- لو كانت النبوءة خليط من العقل والإحساس ، فهي في حالتي تلك خليط من العقل والتوجس ..

اللعنة على كل الأشياء !

- أنا لا أملك الوقت لتتبع جذور هذا الهاجس القذر . كنت أظن وأنا أكتب الجزء الأول من مذكراتي منذ نحو عشرين عاما مضى ، أن فترة تجنيدي بالقوات المسلحة هي السبب الرئيس وراءه .. ولكن ما باله يعود من جديد وبعد كل تلك السنين .. كيف قاومت تلك الجرثومة عوامل الفناء كل هذا الوقت !

- أتكون هناك أسباب أخرى أتت لتوقظ النائم وتضيف إليه جديدا لم يكن موجودا من قبل  ؟

من المؤكد أنني سأصل إليها وأنا أكتب الجزء الثاني من مذكراتي .

 -   ومن يدري .. ربما أكون مفرطًا في الخوف على حياتي ، وبالتأكيد سيكون هذا الخوف ، من عوامل التشويش على الإحساس ، الذي هو الشق الثاني اللازم لاكتمال نضج النبوءة بشكل طبيعي ، وعلى هذا فقد تصدق نبوءتي فيما يتعلق بالآخرين .. أفرادًا كانوا أو مجتمعات ، وهذا لا يحتم بالضرورة صدقها فيما يتعلق بحياتي أنا ، بل النقيض هو الأكثر احتمالًا !

والمسألة ببساطة شديدة : 

* أنني إذا اعتبرت النبوءة فعل عقل ، عظَّمْ من قدرات الإحساس ، فأنا في حالتي فقدت شرطًا من شروط إتمام المعادلة لتكون النتائج صحيحة ، حيث دخل التوجس بدلًا عن الإحساس ليفسد عمل العقل ، ولو كتبت المعادلتان بشكل رياضي فستكون الأولى هكذا   .. 

 [ عقل منظم + إحساس معافى = نبوءة صحيحة ] 

أما المعادلة الثانية فستكون .

{ عقل منظم + توجس وخوف = نبوءة خاطئة } 

وعموما صدْقُ ما أتنبأ به حول قرب سقوط نجمى من سماه متروك للقدر..

ولو كانت النهاية قريبة .. فالأصل في هذا أن يثير في نفسي نوازع السعادة .. لأنه يعني أن الله قد حقق بي ما خلقني من أجله ، وأن رسالتي في الحياة بلغت مداها ، ولم يعد أمامي ما أؤديه للإرادة العليا ، التي يحق لها كل الجلال والتقديس والطاعة والرضا ، ولتذهب بشريتي الضعيفة إلى الجحيم !

وعموما هناك منظور آخر لما استشعره بتلك الأيام ..

- ألم أرسل الجزء الأول من سيرتي الذاتية إلى مكتب الكمبيوتر منذ فترة - هذا العمل الطويل الذي سيأخذ بضعه أشهر حتى يكون جاهزًا للنشر - وكحالي دومًا يظل شبح الموت يحوم من حولي في مثل تلك الأحوال وحتى يخرج الكتاب إلى النور ، فيختفي هذا الشبح المقلق ، ويكثف من هذا الشعور الآن ، أنني بدأت بتلك الصفحات القليلة الماضية، كتابة الجزء الثاني من مذكراتي ، ودوما مع كل كتاب جديد أخشى ألا يمهلنى العمر حتى أتمه .

                                *************************

            كنت قد توقفت في أحداث الجزء الأول حتى عام ( 1984م ) وأريد الآن أن أتابع ما عشت من أحداث بعد ذلك حتى اليوم .

في الجزء الأول أنهيت أخر كلماتي يوم ( 6 / 10 / 1984 م ) بمدينة طوخ ، وبعدها قررت التوقف عن الكتابة لإحساسي بعدم جدوى أي شيء ، وأيضًا لرغبتي في الزواج والاستقرار الذي لا يتفق والاستمرار في الكتابة .. 

وها أنا أعود اليوم وفي ( 5 / 10 / 1988 م ) وبعد أربعة عشر عامًا إلا يومًا واحدًا .

ما أطول ما كانت أيام صمت الحملان تلك !

وما أجمل أن أعود أخيرًا لأبدأ رحلة جديدة مع القلم ، الذي دخل الكهف لينام مع أهله حتى ملً منهم ، وأفاق ليعود بكل وفاء وإخلاص . عاد يرقص طربًا وينفض غبار السنين . كما بات قلبي يعايش من جديد ، تلك الانفعالات التي طال بُعادها ، أيام صمت الحِملان التي التهمت أجمل السنوات !

                         ******************************

       لو فتشت أوراقي فسأجد شذرات مكتوبة هنا وهناك .. وبعض اليوميات في السعودية ، وقد أجد قصصًا قصيرة وأفكارًا  كنت أظنها تصلح لأن تكون مواضيع أكتب عنها يومًا ما ، وقد أتعثر في عناوين عنت لي في لحظة ، وتمنيت أن تكون عناوين لأعمال سوف تأتي بظهر الغيب .

        وبالطبع كل هذا لا يرقى إلى أن يكون نشاطًا أدبيًّا أو فكريًّا .. باستثناء كتابي عن العلاقات العربية الإسرائيلية الذي حمل اسم " الرحلة الشاقة " الذي تحدثت عنه في بدأ كلامي ، وكنت أتخيل وأنا أغزل خيوطه الأولى أنه سيكون دراسة موسوعية عن علاقتنا بإسرائيل ، وتاريخ اليهود بالمنطقة عبر آلاف السنين ، كنت أريد أن أرصد كل الحروب منذ أيام " داوود " وحتى الآن ، وكنت أرغب في تحميله بتشوفات مستقبلية للسلام فوق الأرض التي أثخنتها جراح الحروب الطويلة  .

            هذا الكتاب الذي خرج إلى الحياة مبتسرًا لأسباب أمنية ، أصابتني بالغثيان ، فتوقف قلمي عن الاستمرار في العمل  . حايلته فاستنكفت أن يمضي في هذا الجهد المضني من أجل من أشهروا سيوفهم في وجهه لأسباب لا يعرفها ، وحين أعياني البحث عن الأسباب لم أجد إلا تفسيرًا واحدًا يقول :  

: أن أجهزة الأمن نفسها لم تكن تعرف سببًا لما أقدمت عليه !

                          *************************************

           مضى الآن أقل من عامين منذ منتصف عام ( 1997م ) وحتى تلك اللحظة - ونحن بأواخر عام ( 1998م ) - أخرجت لي المطابع خلالها أحد عشر عملًا أدبيًّا ،  وكانوا على الترتيب :

رواية "أمل لا يموت" 

ثم المجموعة القصصية "حين نفتقد اللغة" 

ثم رواية "جسر الموت الكئيب" 

ثم "المسرحيات الثمانية" ، وقد طبعت كل مسرحيتين منها في كتاب. 

          والآن وفي تلك اللحظة التي أمسك فيها بقلمي لأكتب الجزء الثاني من رواية سيرتي الذاتية  ، تعمل الأيدي التى لا تتوقف في مكتب " كمبيوتر إسلام " لإعداد الجزء الأول ، وتلك هي أصعب المراحل ، ورغم الجهد والمراجعات لا يصدر كتابًا دون أخطاء ، وكيف لا وكل العاملات بالمكاتب يرسمون الكلمات دون فهم لمعناها، وما تصححه لهم في المراجعة الأولى والثانية تكتشفه وأنت تقرأ الصورة النهائية ، وحين تعدل فيها ما استطاعت عيناك أن تقع عليه ، تكتشف أخطاء أخرى في كتابك بعد أن يُطبع ويوزع بالأسواق . ومن المفارقات العجيبة أننى استعنت بصديق لى ، ينزلنى منزلة الأب فى نفسه ، منذ جمعتنا دراسة اللغة العربي بكلية الآداب ببنها . 

الأستاذ محمد الكشك . ابن بنها والذى يعمل بالسعودية الآن فى مطبعة الملك فهد لطباعة القرآن ، وأحد واضعى خطط التعليم بالمملكة ودويلات الخليج  . كان يمضى الليل بطوله ليراجع الكتب ، ويأبى أن يحصل على أجر فى المقابل ، ولكن كان جهده يضيع من خلال الفتيات العاملات بمكتب الكومبيوتر . 

ولكنى فى النهاية أقنعت نفسى بأن كتبى ما هى إلا مسودة حتى لا أفقد أعمالي ، وأننى حتما سأعيد طباعتها يوما ما ، متجاوزا أخطاءها النحوية والإملائية .. إن قدًر الله أن يمتد بى العمر .

                             ******************************

           ورغم ما أشرت إليه من جهد ، إلا أنه كما يقولون "في الفاضي".. فالأولى بعرق الكاتب .. إبداعاته الجديدة .. أما أن يجري وراء المطابع ، ومكاتب الكمبيوتر ، ويمقق عينه ويهلك عموده الفقري ، فوق أحد الكرسي المهترئة وهو يبحلق في الشاشات ، بحثًا عن خطأ لغوي أو إملائي في مئات الصفحات ، فهذا عمل آخر ، له من يجيده أفضل من الكاتب نفسه ، ليوفر الكاتب جهده لشيء جديد يقوله للناس !

          كل ما صدر لي من كتب حتى الآن كان من مخزون الكراتين التي تحتل ظهر الدولاب أو بطون الأسرة . وتلك هي المرة الأولى التي أمسك فيها بقلمي لأبذل جهدًا في " المليان ".. وأنا أخط الكلمات الأولى في الجزء الثاني من سيرتي الذاتي .. 

الآن فقط أشعر بالسعادة التي أفتقدتها منذ نحو خمسة عشر عامًا!!

{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}{}

* رقم الإيداع [11308 / 2000 ]

{ طوخ - 3 / 11 / 1998 م }

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 127 مشاهدة
نشرت فى 24 أكتوبر 2022 بواسطة Randakelani

مدونة خاصة للأديبة راندا كيلاني

Randakelani
ادبية ثقافية اجتماعية »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

43,695