كان الأربعاء الماضى يوما سيئا فى حياة جوردون براون زعيم حزب العمال و رئيس وزراء بريطانيا ، حيث كان فى جولة انتخابية فى مقاطعة مانشستر ، و أثناء حديثه مع الناس أمام كاميرات التليفزيون : ظهرت أمرأة فى السادسة و الستين و اشتبكت معه فى مناقشة ساخنة عن نقص فرص العمل أمام البريطانيين ، فما كان من براون إلا أن أنهى الحوار بلباقة و صافحها برفق ، و عاد مسرعا لسيارته ليلحق بموعد أخر ، و لسوء حظه نسى أن يغلق الميكروفون الصغير بسترته ، و بالتالى استمر صوته عبر شبكات التليفزيون و هو يتحدث لمساعديه داخل السيارة معبرا عن غضبه من هذه السيدة التى وصفها بأنها : أمرأة متعصبة ، و أن لقائه معها يعتبره مصيبة .
و عليه فبعد ساعة واحدة : كانت الفضيحة تتردد فى كل أنحاء بريطانيا بأن : رئيس وزراء بريطانيا أهان مواطنة بريطانية و اتهمها بالتعصب لمجرد أنها تخالفه الرأى .
و علمت السيدة ، و غضبت غضبا شديدا ، قبيل يومين من الإنتخابات العامة ، و وجد براون نفسه فى ورطة حقيقية ، فما كان إلا أن اتصل بالسيدة هاتفيا معتذرا ، و لكن ذلك لم يكن كافيا ، فظهر على شاشات التليفزيون و اعتذر للسيدة أمام الشعب كله ، و وعد أنه لن يكرر ذلك الخطأ مستقبلا ، و لم يكن ذلك كافيا أيضا ، فاضطر للذهاب إلى مقاطعة مانشستر لمنزل المرأة : و اعتذر للسيدة ، التى قبلت اعتذاره ، و لكنها رفضت أن تخرج لوسائل الإعلام لتعلن عفوها عنه ، و أعلن رئيس وزراء بريطانيا إرتياحه النفسى لقبول السيدة اعتذاره .
فى نفس الوقت و اليوم : كان مئات المواطنين فى مصر و زوجاتهم وأطفالهم ينامون فى العراء أمام مجلس الشعب و مجلس الوزراء ، يشتكون من تدهور أحوالهم المعيشية ، إلا أن رئيس الوزراء المصرى لم يكلف نفسه مشقة الخروج لهؤلاء البؤساء للإستماع إليهم و حل مشاكلهم ، بل سافر الرجل مع عروسه الجديد فى رحلة استجمام إلى الغردقة .
أما الشباب الذى تظاهر من أجل تعديل الدستور و المطالبة بالحرية و إلغاء قانون الطوارئ ، فقد تم ضربهم و اعتقـالهم بواسطة قوات الأمن المركزى ( جيش الإحتلال المصرى الجديد ) ، بل إن بعض نواب الحزب الحاكم طالبوا بإطلاق الرصاص عليهم .
هذه المفارقة الغريبة بين سلوك رئيسى الوزراء فى مصر و بريطانيا : تدفعنا للتساؤل : لماذا تتعامل السلطات فى بريطانيا بكل هذا الإحترام مع مواطنيها ، بينما تتعامل السلطات المصرية مع مواطنيها على أنهم مجرمين أو حيوانات ؟
الفرق هنا أن رئيس الوزراء البريطانى أختير فى ظل نظام ديمقراطى ، يعلم جيدا أنه جاء كخادم للشعب الذى هو مصدر كل السلطات ، و يعلم جيدا أنه لو خسر ثقة الناخبين ، فإن ذلك يعنى نهاية مستقبله السياسى .
اما فى مصر ، فإن أحمد نظيف ليس منتخبا ، و إنما معين من قبل الرئيس ، و بالتالى فإن ما يهمه هو رضا الرئيس و ليس ثقة الشعب .
كما أن الرئيس نفسه لم ينتخبه أحد ، و إنما هو يقبض على السلطة منذ ثلاثين عاما بواسطة القمع و الانتخابات المزورة ، و بالتالى فإن إرضاء الشعب لا يعنيه طالما كان قادرا على إخضاعهم عن طريق أجهزة الأمن .
إن طريقة تولى الحاكم للسلطة هى التى تحدد سلوكه تجاه المواطنين أثناء الحكم .
هذه الحقيقة مازالت غائبة عن بعض المصريين الذين يحاسبون الحاكم على سياساته ، و يتناسون طريقة توليه للحكم .
بعض المصريين يحلمون بالمستبد العادل : الذى تكون إرادته فوق الجميع ، لكنه يستخدم قوته الباطشة فى تحقيق العدل ، تماما مثل اللص الشريف .
و لكن كيف يكون المستبد عادلا ، إذا كان الاستبداد نفسه ظلما فاحشا ونذكر هنا أن الإسلام الحقيقى قد قدم نموذجا ديموقراطيا عظيما قبل أن تعرف أوروبا الديمقراطية : إذ يكفى أن الرسول ( صلعم ) لم يختر خليفة له ، بل ترك للمسلمين حرية اختيار خليفتهم الذى يحكمهم من بعده ، و هذا الخليفة يكون خاضعا للرقابة الشعبية كما يحدث اليوم فى أفضل بلد ديموقراطى .
و كفانا فى أبو بكر رضى الله عنه قـدوة حيث قال ما إن تولى السلـطة : " أيها الناس ، لقد وليت عليكم و لست بخيركم ، فإن أحسـنت فأعينونى ، و إن أسأت فقـومونى ، أطيعونى ما أطعت الله و رسوله ، فإذا عصيت الله و رسوله فلا طاعة لى عليكم " .
هذه الخطبة العظيمة تحدد العلاقة الديموقراطية بين الحاكم و المواطنين .
ثم بدأت بعدها عصور طويلة من الإستبداد ، وضعت فيها دساتير : أن الدين فى خدمة الحاكم ، و أن الحكم لمن غلب مادام يستطيع الحفاظ عليه بالقوة ، و أن طاعة المسلمين للحاكم واجبة حتى و إن كان ظالما و فاسدا .
و بهذا تم سلب الحقوق السياسية للمسلمين و تغييب فكرة الديموقراطية عن عقولهم ، مما جعلهم أميل للإذعان للقوة و الفساد .
إن الأوضاع فى مصر قد وصلت إلى الحضيض ، فصار معظم المصريين يطالبون بالتغيير الذى يحقق لهم العدل و الحرية و الكرامة .
إن التغيير لن يتحقق إلا عندما يتمكن المصريون بإرادتهم الحرة من انتخاب من يحكمهم و من يمثلهم فى مجلس الشعب ، حتى يتساووا جميعا أمام القانون .
عندئذ فقط سيبدأ المستقبل ، و سيكون رئيس الجمهورية أحرص الناس على كرامة المواطن ، كما حدث فى بريطانيا الأسبوع الماضى .
ساحة النقاش