لقد اعتبرت الفلسفة الكلاسيكية أن العقل قادر على إنتاج المعرفة انطلاقا مما يتضمنه من مبادئ فطرية اعتبرت خالدة و متأصلة فيه.
و على هذا الأساس ظل العقل يشتغل و ينتج معرفة و يعمل وفقا لذلك على تجريد الواقع من حركته و صيرورته و تناقضاته و ينفي كل الفوارق بين الأشياء و الذوات و يدخلها في شبكة من العلاقات تخفي تفردها و اختلافاتها واثقا من ثبات القوانين الطبيعية و حتميتها إلا أن تقدم العلوم الحديثة و تعرضها لأزمات داخلية خلال القرن 19 أديا إلى ظهور عقلانية جديدة مغايرة « للعقلية » للعقلانية الكلاسيكية، فبدل أن يتم تصور العقل بنية قبلية قائمة بذاتها و سابقة على كل معرفة أصبح ينظر إليه كأداة لإنتاج المعرفة لكنها تنمو و تتطور من خلال عملية إنتاج المعرفة ذاتها.
و هكذا أصبح العقل ينفتح على موضوعات جديدة و يوسع تصوراته و مبادئه لاستيعاب وقائع جديدة لم يكن يشتغل عليها من قبل مثل النقائض الرياضية و اللاحتمية الفيزيائية و الصدفة و الاحتمالات و قد استخلص كاستون باشلار نتائج هذه التطورات بالنسبة للعقل حين قال [ ينبغي إعادة العقل إلى الأزمة و إثبات أن وظيفة العقل هي إثارة الأزمات ] ذلك أن العقل يعيد النظر في تصوراته و مفاهيمه و مناهجه حينما تحدث أزمة معرفية فيحاول تجاوزها من خلال إيجاد حلول جديدة و هذا ما وقع في الفيزياء الحديثة حينما انتقلت الفيزياء من دراسة الظواهر الماكروسكوبية (الكبرى) إلى الظواهر الميكروسكوبية كالذرة و مكوناتها، لقد أصبح لزاما على الفيزياء الحديثة أن تعيد النظر في خطوات المنهج التجريبي، فبدل الملاحظة المباشرة سيتم اللجوء إلى الملاحظة الغير مباشرة.
كما أن ظهور نظرية النسبية مع إنشطاين سيؤدي إلى إعادة النظر في مفهومي الزمان و المكان و سيتم دمجهما في بعد واحد: الزمكان، كما أن التحولات الاقتصادية و الاجتماعية التي عرفتها أوربا و خاصة الأزمتين الاقتصاديتين و الحربين العالميتين سيؤديان إلى إعادة النظر في دور العقل و ستظهر نزعات لاعقلانية في مختلف مناحي الحياة الثقافية و خاصة في مجال الأدب و الشعر و المسرح.
و حينما يوظف في السيطرة على الإنسـان من خـلال تبرير عـلاقات الاستغـلال القائمة و بصفة عامة حينما يتحول من تقنية للسيطرة على الطبيعة إلى تقنية للسيطرة على الإنسان و بهذا يفقد العقل وجهه الإنساني و لهذا يتخذ كانط موقفا نقديا تجاه هذا الوجه السلبي لاستخدام العقل، فالعقل في نظره يمثل رمزا لحرية الإنسان و مسؤوليته و من ثمة فهو يتنافى مع الوصاية و التبعية، و لتجاوز ذلك يدعو كانط جميع الناس إلى استخدام عقولهم على قدم المساواة، فطالما انفردت فئة من الناس باستخدام العقل نيابة عن الآخرين فإن ذلك يولد الوصاية و التبعية التـي تعنـي الخضوع لمشيئة الغيـر في حين أن العقـل في بعده الإنساني استقـلال و مسؤولية و كرامة.
إن ثنائية العقل و اللاعقل في الإنسان هي ثنائية يقيمها العقل ذاته ليميز بين ما هو منحط و ما هو سام في الإنسان و هذا ما جعل الكثير من ردود الأفعال تبرز في شكل اتجاهات فكرية كالنزاعات الرومانسية و السريالية و الوجودية، فوحدة الإنسان تجعل منه كائنا تتظافر مختلف جهوده من أجل الحفاظ على هذه الوحدة و يتدخل العقل ليلعب دور المنظم لهذه القوى حتى يتحول ذلك إلى انسجام فيما بين كل مكونات الإنسان.
Nesrine