إن التخصصات العلمية, هي الحقول العلمية للبحث والدراسة, كعلم الاجتماع وعلم الكيمياء وعلم النفس وعلم الطبيعة وعلم التاريخ وسواها, أما التخصصات المعرفية فهي التي تشكل أدوات البحث لدراسة هذه الحقول العلمية, مثل الاحصاء والإيبستيمولوجيا.

وتشكل "الإيبستيمولوجيا" أداة بحثية علمية مهمة في دراسات التراث العلمي, فمن خلالها تجرى البحوث والدراسات في التراث العلمي باتباع مناهج البحث التاريخي, سواء النقلي بدراسة البيانات المجمّعة من المصادر, أو التجريبي بعرض وتحليل الوقائع والأحداث, والاتجاهات الخاصة بحقبة زمنية أو ظاهرة معينة, واستقراء النتائج منها, لإدراك الفكر فيها ولفهم الحاضر وتشخيص كينونته, بالإفادة من الوثائق وعلم الأركيولوجيا "دراسة الاثار".

وتجري الدراسة باستخدام المنهج التحليلي والنقدي والمقارن وغيرها, وفقاً لطبيعة البحث, فيما يجري محاكمة التراث العلمي ضمن الأدوات الإيبستيمولوجية, لدراسة مقدماتها ونتائجها, وما أفضت إليه, وفق البحث في "فكر العلم" أو المعرفة العلمية, فيما ينصرف "تاريخ العلم" في البحث في العلم ومراحله دون فكره.

الإبيستيمولوجيا  Epistemologyهي أداة بحثية لدراسة المعرفة في العلوم وتطورها, وهي دراسة نقدية لمبادئ العلوم المختلفة وفرضياتها ومناهجها ونتائجها, تهدف إلى تحديد أصلها المنطقي وقيمتها الموضوعية[13], وهي قد تطلق على نظرية المعرفة بوجه عام, فتكون أحد فروع الفلسفة الذي يبحث في أصل المعرفة, وتكوينها ومناهجها وصحتها.

 

الجذر اللغوي لمفردة "الإبيستيمولوجية"       

لا تتفق أدبيات المناهج البحثية وعلم المنهج methodology في تحديد المعنى الدقيق لمفهوم الإبستمولوجيا, ولأجل تحديد الإطار اللفظي والعرفي العام لهذا المفهوم, ستجري مقاربته في جذره اللغوي, من خلال الأصل اللغوي الاشتقاقي لهذا اللفظ من اليونانية القديمة.

إن المصطلح في العموم مستحدث, وجديد الاستخدام, وهو غير متضمن في المعاجم الفلسفية مثل معجم "لاروس وروبرت", في حين أنه ظهر في ملاحقها, مما يؤكد حداثة المفردة, غير أن الصياغة اللغوية لها, مشتقة من مفردات يونانية قديمة, انتقلت الى اللغة اليونانية المعاصرة منسجمة مع الاستخدام المعاصر. 

مصطلح الإيبستيمولوجيا, مركّب من مفردتين, "إبستيمي"epistemy [14] وتعني العلم, و"لوجوس"[15]logos والتي تعني الكلام والنطق في اليونانية القديمة, وفي اللغة المعاصرة تدل في المركب اللغوي على العلم والمعرفة  والنطق أو المنطق والنظرية والدراسة.

وبذلك تتضح علاقة المصطلح بنظرية المعرفة عند تحليله لغوياً, وبالتالي فإن كلمة "إبستمولوجيا" تعني حرفياً علم العلم، أو الكلام في العلم, أو منطق العلم, أو نظرية العلم .

ولميل العربية نحو ترجمة المفردات الداخلة إليها, فقد عرّبت الإيبستيمولوجية الى "نقد العلوم"، باعتبار النقد "إيضاح وتقويم يصدر حكماً في أمر, بما له وما عليه معاً"، فهي نقد للعلم أكثر منها "علم للعلم"، الذي ينزع عنها صفتها الفلسفية، وكذلك فإن التعريب الى "نظرية العلم" يبدو حطّاً من مكونها الفلسفي، إذ يُلحقها بالعلم فينزع عنها رؤيتها الفلسفية.

كما وعبرت عنها بعض الأدبيات المنهجية العربية بأنها "فلسفة العلوم", ترجمة عن اللفظ الذي شاع تعبيراً عنها, خاصة في بدايات استخدامها, غير أنها ليست بوجه خاص, دراسة للطرائق العلمية، التي تجري في علم المناهج "الميثودولوجيا", مما يسقط أيضاً سلامة هذا التعبير.

كما أنها ليست منهجاً لتركيب وانتاج قوانين علمية, أو استباقها بالافتراض, بما يتماهى والمنهج "العلمي" التجريبي, والذي يشتبه بينهما بسبب وحدة الجذر اللغوي في اليونانية من مفردة "العلم" "ايبستيمو", لجهة إطلاق تعبير العلمي عادة, حصراً للمنهج التجريبي, ولذلك عرّبت أيضاً "بالمعارفية" ضمن اختيار وسطي للمعنى, لا يستقم أيضاً بالدقة البحثية.

ويثبت الموروث العلمي الثقافي العربي, إنه قد استخدم الايبستيمولوجيا بسابقة بعيدة, حيث أن كتاب بن رشد "الكليات في الطب" المصنف في القرن الثاني عشر, يثبت أن الثقافة العربية الإسلامية, هي الأسبق الى فلسفة العلم في التأليِف والتصنيف, ولم يظهر ما يماثله في موضوعه إلا في القرن التاسع عشر، حين أصبحت فلسفة العلم موضوع اهتمام, وإذن فكتاب بن رشد هو أقرب أن يكون كتاباً في فلسفة علم الطب، وتطور الفكر العلمي فيه, أو "الايبستيمولوجيا"، بالمعنى واللفظ المعاصر[16].

غير أن مباحث فلاسفة الغرب, يرجعون الإبستيمولوجية المعاصرة الى الفيلسوف هيوم (1711-1776)[17], وذلك لارتباط التأليف تقليدياً بتأريخ العلم, الذي موضوعه تتبّع الكشوف العلمية وممارستها عبر التاريخ وفي الحضارات المختلفة، بينما تهتم فلسفة العلم بتأريخ تطور الفكر العلمي، رؤيةً ومفاهيمَ ومناهجَ, كما عبر عنها الفيلسوف هيوم, وهو الذي نقل الى الثقافة العربية المعاصرة, عبر أبحاث المستشرقين السباقين بالاستفادة من المخطوطات العربية.

وعليه يخلص المبحث, أن جميع الأدبيات المعاصرة في اللغات الأوربية وغيرها, تستخدم المصطلح "الايبستيمولوجية" كما هو في الصيغة اليونانية دون تغيير, لأسباب تتعلق بالدقة في الدلالة اللفظية, وعليه، فإن الأدبيات العربية, يفضل لها عدم التعريب لهذه المفردة حصراً, للسلامة العلمية والبحثية, بالرغم من توفر الإمكانية اللغوية في العربية لذلك.

 

المفهوم المعاصر للأداة "الايبستيمولوجية" والبحث في التراث العلمي

استقر مفهوم "الايبستيمولوجية" في صيغته المعاصرة, ليعني الدراسة النقدية للعلم أو نظرية المعرفة العلمية، وبمعنى آخر فإن هذه الأداة المعرفية تختص بدراسة منتجات المعرفة العلمية ومبادئها وأصولها، من منظور نقدي، ولذا تعرف بأنها معالجة نقدية لمبادئ العلوم المختلفة وفروعها ونتائجها, بهدف التوصل إلى إرساء أساسها المنطقي، كما وتنشد تحديد قيمة هذه العلوم ودرجة موضوعيتها.

فهي تتخذ العلم موضوعاً لها، لتتناوله بالبحث والاستقصاء, للوقوف على مبادئه وقضاياه النظرية الأولية وقيمه ومعاييره، وعلى مقارباته للواقع، وهي بهذا تتناول أصوله التاريخية، بتتبع مراحل وعوامل تقدمه، وتحاول الكشف عن أسباب وفترات تقهقره[18].

وهي تسعى ضمن هذا التناول التاريخي التتابعي للمعرفة العلمية, لتجاوز التتبع السردي والانتقال إلى الفحص النقدي الثاقب, لتشكل المفاهيم المعرفة العلمية, وتطور مدلولاتها وقضاياها النظرية.

إن دراسة الحياة الداخلية لأي علم تتم في مختبر الإبستيمولوجية, ضمن منهج تاريخي ووفق مقاربات نقدية, فهي أداة بحثية علمية لدراسة حقول التخصصات العلمية والمعرفية, وهنا قد تشترك الإبيستيمولوجيا في المقاربة مع تاريخ العلوم وتاريخ الفلسفة, غير أن البحث التاريخي العام لا ينصرف الى دراسة الفكر أو النتاج الفكري للعلم, مما يؤكد أهمية اتباع الأداة الإيبستيمولوجية في دراسة التراث العلمي, لمحاكمة مخرجاته الفكرية ونتائج تاثيره في الحياة والمجتمع وحركة التاريخ[19].  

وإن الإبستمولوجيا، دراسة نقدية لمبادئ مختلف العلوم وفرضياتها ونتائجها بغية تحديد أصلها المنطقي وليس النفسي, وقيمتها ومداها الموضوعي, فهي نظرية المعرفة العلمية حصراً, فتختلف عن نظرية المعرفة التي تنصرف الى تكوين المعرفة الإنسانية من حيث حدودها, في حين تنحصر الإيبستيمولوجيا في المعرفة العلمية فقط, لذا فإن الأولى إطلاقية عامة وشاملة, في حين تضع الثانية محدد تاريخي دون إجابة مطلقة, وبذا فإن الإيبستيمولوجيا ترى في نظرية المعرفة عائقاً في تطور المعرفة العلمية.

كما وأتت الإيبستمولوجيا على ما يعرف "بفلسفة العلم", التي تولدت من علاقة الفلسفة بالعلم, مثل علاقة العلم بالمجتمع وتأثيره في تكوين النظرة الفلسفية الى الطبيعة والكون, وهي تساهم في التمييز بين الانتاج العلمي والانتاج الأيديولوجي, بما يميزها عن فلسفة العلم.

 

الإبستيمولوجيا بين تاريخ العلم وتاريخ فكره

وتتميز الايبستيمولوجيا عن دراسة تاريخ العلم, لأنها تدرس تاريخ فكر العلم ومقدماته ونتائجه, فبينما يدرس تاريخ العلم أو البحث التاريخي, الأفكار بوصفها وقائع أو حقائق ضمن السياق السردي التاريخي, فإن الإيبستيمولوجيا تلزم الباحث بدراسة الوقائع بوصفها أفكار, ثم تدمجها بنظام تفكير معين. وعليه فإن الواقعة المفسرة خطأ بالنسبة للبحث التاريخي العام في أي عصر, تبقى مجرد واقعة, في حين أنها بنظر الإيبستيمولوجيا, تكون بمثابة عقبات للبحث والدراسة, أي إنها تشكل فكراً مضاداً[20], لذا فإن الباحث فيها يتبع المنهج التاريخي النقلي والتحليلي وحتى الإحصائي والتجريبي.

وكما أن أية نظرية للمعرفة لا ترتبط بالإبستيمولوجيا, تصبح عبارة عن تأملات في فراغ، فإن أية محاولة في الإبستيمولوجيا لا تربط نفسها بتاريخ العلم, تصبح عبارة عن ظل بدون معنى للعلم, الذي تزعم الحديث عنه ودراسة مقدماته ونتائجه. 

ومن هذا المنطلق فإن دراسات التراث العلمي لابد أن تتبع المنهج الإيستيمولوجي المتكامل مع مناهج البحث المنسجمة والمفروضة في مذاهبه, مع الأدوات الإيبستيمولوجية, في البحث والدراسة, من خلال تاريخ فكر التراث العلمي ونتاجه, والبحث في مقدماته ونتائجه.

 

مفهوم الإيبستيمولوجيا والسلوك الفردي والمجتمعي

ومن وجهة بحثية أخرى, ينظر للإيبستيمولوجيا على أنها البنية المعرفية والمخزون الثقافي والاعتقادي والنفسي, الوظيفي والتاريخي, للجماعات البشرية عموماً, التي تؤثر وتحدد لديهم طبيعة الاستجابة للحدث, ورد الفعل أزاءه, من لدن الفرد والجماعة والمجتمع والدولة, أو المنظمة بشكل عام في مفهوم علوم الإدارة الحديثة.

إن مفردة "الثقافة" في العربية, قد تتحدد معناها بمجموعة المعارف المكتسبة, أو يفهم منها الخزين المعرفي والقدرة الابداعية للفرد[21], أما المفردة الإنجليزية المرادفة culture  فهي تنصرف لمفهوم أوسع, لا يستوعب نفس المفهوم والادراك اللغوي العربي للمفردة بدقة, ليشمل في الإنجليزية, مجموعة التقاليد والعقائد والموروث التاريخي والديني والحضاري, والأعراف المجتمعية, والمستوى الفكري العلمي والابداعي الفردي والمجتمعي المتشكل من الإرث التاريخي الحضاري[22].

وعليه يشكل "الحدث" المدخل الى وعاء المعالجة, الذي وفق طبيعة الإيبستيمولوجيا تتحدد المخارج منه بشكل ردود الأفعال لدى المستجيب, فرداً أو جماعة, وعليه تكون الإيبستيمولوجيا, المادة النظرية المعرفية التي تفرض اختلاف الاستجابة لدى الأفراد والمجتمعات لنفس الحدث, وفق البنية المعرفية للمستجيب, فالإيبستيمولوجيا العربية والإسلامية عموماً, تحمل الكثير من الممنوعات والتحديدات والمحرّمات, والرهبة أو الإنكفاء والحياء الأخلاقي التربوي والسلوكي, أو المخاوف "التابوهات" الإعتقادية والدينية والتراثية الموروثة, ما لم تتوفر في الشعوب والثقافات الأخرى, في الزمن "الإمبريقي" المعاصر على الأقل, مما تنعكس على السلوك الفردي والمجتمعي العربي والإسلامي, الذي يميزه عن سواه من المجتمعات والثقافات الأخرى.

وعليه فإن هذه المقاربة للإبستيمولوجيا, تشكل مادة للبحث ومعطيات للدراسة المنهجية, التي تؤشر مخرجاتها اتجاه السلوك العام, وطبيعة القرارات المتوقعة للشعوب والمجتمعات والأفراد, إزاء المتغيرات والتحديات.

 

المنهج النقلي في البحث    

وهو المنهج البحثي العام الثالث, بعد المنهجين المنطقي العقلي الاستنباطي, والتجريبي الاستقرائي, وهو يتخذ  طريقة دراسة النصوص المنقولة, ويعتمد بشكل واسع في المناهج البحثية التاريخية الاستردادية, بقدر تعلق البحث في التراث العلمي, لجهة التحقيق في المخطوطات, والموروث الثقافي والفكري.

ويقوم هذا المنهج على عناصر عامة, من بينها توثيق إسناد النص إلى قائله, بمعنى التأكيد على صحة صدوره, ويتأتى هذا بالرجوع إلى المنهج البحثي الخاص, في المجال المعرفي الخاص به، كعلم الرجال في دراسة أسانيد أحاديث الأحكام الفقهية، وتاريخ الرواة العاربة والحاضرة في دراسة اللغة والأدب, وفي المقابلة بين النسخ المتيسرة من الموروث المخطوط في دراسات التراث العلمي, ضمن علم دراسة المخطوطات[23], واعتماد مصادر متنوعة في البحث.

وكذا يتوجب فيه التحقق من سلامة النص, بمعنى التأكد من أن النص لم يدخله التحريف أو التصحيف أو الزيد أو النقص, بمعنى انه على صورته الأولى عند تحريره, كما قاله قائله.    

ويتوجب في المنهج النقلي أيضاً فهم مدلول النص, ويتأتى هذا بالرجوع إلى الوسائل والأدوات العلمية المقرر استخدامها لذلك، وتعرف في ضوء المنهج الخاص بحقله المعرفي كعلم أصول الفقه بالنسبة إلى معرفة مداليل النصوص الفقهية من آيات وروايات, أو الرجوع الى الوثائق المادية في البحث التاريخي. وإن مجال استخدام هذا المنهج, هو كل معرفة مصدرها النقل.


  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 101 مشاهدة
نشرت فى 14 ديسمبر 2011 بواسطة PROFDR370110

عدد زيارات الموقع

20,785