بسم الله الرحمن الرحيم
الأحوال أكبــــــر مــــــن ذلك كثيـــراً !!
الكل يلتقي عند ساحة التجرد المطلق .. لا أوطان فيها تشغل الأذهان .. ولا نزعات تطرف فيها تغري بالانتساب .. ولا متطلبات دول فيها تفرض التجنيد والتضحيات .. ولا مواقف عشائرية فيها تتطلب التمسك والانحياز .. ولا شعارات فيها مرفوعة تنادي بالانتماء والولاء .. ولا رايات وأعلام فيها ترفرف لتؤكد الهويات .. ولا حدود وشروط فيها تحدد معالم الخرائط للدول والبلدان .. ولا أوراق ومستندات ثبوتية تتواجد فيها لتوسم الجهات .. ولا جوازات سفر وتأشيرات فيها تحد أو تسمح بالذهاب والإياب .. ولا سمات أديم فيها تفاضل الناس بالألوان .. ولا مقامات وقياسات ودرجات فيها من مفتريات الإنسان .. ولا منافسات ومناكفات فيها تشغل الناس بالعنجهية والطغيان .. ولا موجبات وفرائض فيها تفرض الدفاع عن القيم والأفكار بشريعة السلطان .. ولا نزعات تطرف فيها تطالب بالاستماتة والعصيان .. ولا مسميات فوارق فيها تفرق الناس بالتفاضل والمقامات .. فالكل بعد الموت هم الناس وهم البشر .. الكل أبناء لآدم وآدم من تراب .. لا أنساب فيها ولا قرابة صلات وأرحام تنفع الناس عند لحظة الامتحان .. مرحلة من التجرد المطلق يلتقي فيها الكل مع النفس بعد الموت .. حيث عالم البرزخ الذي يماثل طاولة البحث والتنقيب عن الملفات والحسابات .. وهي مرحلة في مسار الإنسان لا تنفع فيها المراوغات والتحايل كما كان في الحياة الدنيا .. وفوق طاولة البرزخ يفترش كامل الملخص لعمر وحياة الإنسان دون نقص أو زيادات .. والحال إما مكاسب ونفحات وإما حسرات ومنقصات تؤرق الوجدان .. توفيق وفوز أو حسرة وندامة .. صائب يلتقي بالسلامة والنجاة أو خائب يلتقي بالحسرة والندامة .. وتلك المرحلة هي من أخطر المراحل في مسار الإنسان .. حيث النشأة الأولى ثم التواجد في الحياة ثم الموت ثم البعث بعد الموت .. ومن المستحيل أن يتراجع الإنسان في الخطوات ليصوب الهفوات والأخطاء والذنوب .. وعليه فإن الإنسان بعد الموت مرهون بمقدار الحسنات والسيئات .. لا تنفعه وطنية المواطن .. ولا تنفعه عصبية التعصب .. فتلك المفتريات والاختراعات تصبح من مهازل الحياة .. كما لا تنفعه مسميات الانتساب والحدود والجنسيات .. فالمرحلة بعد الموت يجمع الناس في بوتقة ( الكل بشر) ولا عبرة في المسميات والأجناس .. وعليه فليدرك الإنسان أن الأحوال بعد الموت غير تلك الأحوال في الحياة الدنيا .. وصورة الأحوال مغايرة كلياً .. مرحلة تلتقي فيها الأمم وتتواجد بكثافات يعلم الله مقدراها .. حيث تتواجد تلك الأمم الغابرة السابقة بأشكالها وألوانها وأديانها وتعدادها .. كما تتواجد الأمم اللاحقة بأشكالها وألوانها وأديانها وتعدادها .. الأمم المسيحية والأمم اليهودية والأمم الإسلامية والأمم الشركية والأمم الإلحادية والأمم العلمانية وغيرها من الأمم .. وكل أمة لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت .. وتلك الأمم بعد الموت لا تحاسب بموجب خرائط وسعة أوطانها ومسمياتها .. ولا تحاسب بمقدار مساحات وقوة وسيطرة وجيوش وعنفوان أوطانها.. ولكن تلك الأمم تحاسب بمقدار تقواها وبمقدار إتباعها للرسل ونهج السماء .. والوزر لا يقع على الشخصية الاعتبارية لدولة من الدول أو لحضارة من الحضارات .. إنما تتحلل الأمم إلى خلايا تمثل الإنسان الفرد .. والإنسان الفرد هو الذي يتحمل تبعية النفس والذات ولا يتحمل تبعية المسميات والجهات .. فالعبرة أولاً وأخيراً تتعلق بصحائف الأعمال الذاتية .. فتلك الصحائف إما أن تنوء بالإيجاب وإما أن تنوء بالسلب .. وحينها لا تنفع إطلاقاً فرية الانتساب للدول أو للجهات .. كما لا تنفع إطلاقاً نزعة الجنسيات والقوميات .. والسؤال الهام الذي يزلزل الأفئدة والقلوب هو: ( ما دامت مزاعم الخلائق ومفتريات الدنيا لا تشغل بال الإنسان بعد الموت فما هي تلك الأحوال التي تشغل بال الناس بعد الموت ؟؟ ) .. والإجابة تتجلى حين يدرك المرء بأن المصير ليس باجتهاد المخلوق ولكن بمشيئة الخالق .. وعند ذلك يدرك الإنسان مدى خطورة المرحلة بعد الموت .. فتلك الأحوال التي تشغل بال الناس بعد الموت ليست هي تلك المناوشات والخلافات السياسية كما هو الحال في الحياة الدنيا .. وليست هي تلك النزعات بأشجان الأوطان والعروش والكراسي .. ولكن هي تلك الوقفات العصيبة عند ساحة الميزان .. حيث الكفة التي ترجح جانب الحسنات أو ترجح جانب السيئات .. وعند ذلك تكون الزلزلة الكبرى التي تجلب الويلات .. وساحة الميزان تكثر فيها الاستجداء والصرخات .. وكل صاحب صحيفة ينشغل بنفسه وبالمآل .. ويقول يا نفسي ويا نفس ويا نفسي .. وهو الذي بالآخرين لا يبالي ( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) .. وفيهم القائم الذي يتمنى لحظة عودة لساحة الحياة الدنيا حتى يأتي بتسبيحة واحدة ترجح كفة الميزان !!.. وفيهم من يسأل ويستجدي الأمم ويقول : ( يا ويحي من يمنحني حسنة واحدة من حسناته ولو بمقدار مثقال ذرة حتى أرجح به كفة الميزان ؟؟ ) .. وفيهم من يستجدي ويقول : ( يا ويلي من يأخذ من سيئاتي ولو بمقدار مثقال ذرة حتى أنجو من النار ؟؟ ) .. تلك هي صور قليلة من أحوال يوم البعث .. تلك الأحوال التي تشغل بال الناس بعد الموت يوم القيامة .. وليست المشغلة يوم القيامة هي تلك البطولات والتضحيات من أجل الأطماع .. وليست هي الخوض مع لخائضين لتوسعة مساحة الأوطان .. فإذن المسألة بعد الموت كبيرة وخطيرة للغاية لمن يعقل ويملك الحكمة .. والفطن اللبق لا يهدر العمر في التسويف والقيل والقال .. ولا يتطرف ويتعاند ليثبت المقدرة على المناكفات والسجال ومعارك السياسة .. كل ذلك هراء وهواء لا يفيد المرء عند الميزان .. فمتى يمتطي الناس أفراس التعقل والحكمة ؟؟ .
ساحة النقاش