بستـان دوحة الحروف والكلمات ! للكاتب السوداني/ عمر عيسى محمد أحمد

موقع يتعامل مع الفكر والأدب والثقافة والخواطر الجميلة :

بسم الله الرحمن الرحيم

 

النــوبــة سطور ومعالم



§     النوبة قبل دخول الإسلام للسودان كان يطلق عليه اسم ( نوباتيا ) مع تحريف قبطي قليل للمعنى الحقيقي لكلمة ( النوبة ) المشتقة أساساَ من اسم ( نب ) الكلمة النوبية لمعـدن الذهب ، وقد اشتهرت مناطق النوبة منذ قديم الزمان بأنها أرض الذهب والمعادن النفيسة .

       § خلال القرون التي تلت فتح العرب لمصر ثم التوجه جنوباَ لدنقلا والمعاهدة الشهيرة ( 651- 652 م ) تسرب العرب جماعات وأفراد في بطء وفي انسيابية متواصلة إلى بلاد النوبة مملكتي المسيحية ( المقرة وعلوة ) ساعياَ وراء المراعي وطلباَ للتجارة وخاصة في الذهب والمعادن الأخرى .
   § في مرحلة لاحقة تمكن العرب المهاجرون من توطيد نفوذهم السياسي في مناطق متفرقة من أرض النوبة ، ونجح عبد الله بن عبد الحميد العمري ( 855 م ) في إقامة أول إمارة عربية في أرض المعدن ، وبعد فترة تمكنت قبيلة ربيعة بزعامة بشر بن مروان ( 943 م ) من بسط نفوذها على أجزاء كبيرة من مناطق النوبة.

        § تصاهرت معظم القبائل العربية المهاجرة مع القبائل النوبية كما تصاهرت مع قبائل البجة ولا سيما الحداربة .

         § الجغــرافيا
أولاً : بلاد النـوبة السفلى ( داخل الحدود المصرية قبل التهجير وقيام السد العالي ) :
تتمدد بلاد النوبة السفلى في شكل شريحة ضيقة من الأرض تقريباَ بطول ( 325 كيلومتر ) محاذية لمجرى النيل ، بين الشلال الأول ( جنوب أسوان ) والشلال الثاني (عند الحدود السودانية المصرية ) . وكانت تلك المناطق قبل التهجير وقيام السد الأعلى مقسمة إلى ثلاثة مناطق سكانية أساسية وهي :
  § منطقة وادي الكنوز ويطلق على سكانها اسم (  الماتوكي  )  .
§   منطقة وادي العرب ويطلق على سكانها اسم (  العليقات   )  .
   § منطقة وادي النوبة ويطلق على سكانها اسم  (  الفاديجا    )  .




منطقة وادي الكنوز ( الماتوكي    ) :
تقع في أقصى شمال النوبة السفلى وتتمدد في مساحة تقريباً ( 160 كيلومتر ) معظم سكانها من قبائل الكنوز وهي قبائل عربية ( من ربيعة ومضر وبعض قبائل الجهنيين ) وهناك مجموعات أخرى من قبائل صغيرة وعلى رأسها قبيلة العبابدة والذين تمركزوا في مناطق ( سيالة وعلاقي وقرشة ) ويوجدون أيضاً في وادي العرب ( العليقات )  .

منطقة وادي العـــرب ( العليقــات ) :
تمتد تلك المنطقة لمسافة تقريباً ( 40 كيلومتر ) إلى الجنوب من منطقة الكنوز ، ومعظم سكانها من أصول عربية ينحدرون من قبيلة العليقات وهم من الذين كانوا قد هاجروا من الحجاز إلى سينا ثم وصحراء مصر الشرقية.   

منطقة وادي النوبــة ( الفاديجا ) :
تمتد تلك المنطقة لمسافة تقريباً ( 125 كيلومتر ) جنوباً من منطقة وادي العرب وحتى الحدود السودانية عند وادي حلفا . وهي تعتبر من أخصب بلاد النوبة السفلى ومعظم سكانها من المحس والسكوت الذين هاجروا من المنطقة الواقعة بين الشلال الثاني والثالث داخل الحدود السودانية ، والذين كانوا يضطرون إلى الهجرة من مناطقهم بسبب قلة الموارد أو بسبب الحروب أو بسبب تبعات الثورة المهدية .
وهناك روايات في سبب إطلاق الاسم باللهجة النوبية : ( فيا ديجا / فا دجا / فيا دجا )
§     فمنهم من يفسر ذلك بأنها تعني باللهجة المحسية والسكوتية ( فيا ) بتشديد الياء مع الكسر بمعنى الرقاد وكلمة ( ديـا ) بكسر الدال مع تسكين الياء بمعنى المـوت ( أي نحن الهالكون أو الفارون وليس لنا سبيل إلا الرقاد والموت) وخاصةَ أبان ما بعد الثورة المهدية وكالعادة هناك إضافة حرف الجيم زيادة معهودة في اللهجة النوبية الكنزية .
     § وهناك رواية أخرى تفيد بأن كلمة الفاديجا ترمز إلى حالة ضيق المساحات الأرضية المتاحة للزراعة في تلك المناطق مع جودة خصوبتها بدرجة أن المساحة الصغيرة المتاحة كانت تجود بالكثير بالخيرات مع قلتها ، والترجمة للكلمة النوبية هي أن ( فا ) تعني الحوض القابل للزراعة و ( الديج ) تعني الرقم خمسة باللهجة النوبية أي أن الكلمة الكلية تعني سكان ( الأحواض الخمسة ) .
§         وهناك تفسير ثالث وأيضاَ ترمز إلى ضيق الوضع أو ضيق الحال بدرجة تهكمية .. ( فيا ) بمعنى الرقاد و( دجا ) بكسر الدال مع تشديد الجيم هو اسم طائر صغير كان يعشعش عادة في بيوت النوبة بجانب العصافير العادية .. عشها بمقدار حجمها ، والمعنى أنهم يسكنون في وادي ضيق جداَ مثل عش ذلك العصفور الصغير !
ويوجد أيضاً في هذا الوادي قبائل أخرى صغيرة مثل مجموعة ( الكشاف ) وهم سلالة خليط من الحاميات العسكرية التي أقامتها السلطة العثمانية ( أتراك وبلقان ومجر وأكراد ، ألخ ) وقد تزاوجوا مع الفاديجا واختلطوا بهم .

ثانيـاً ً : بلاد النـوبة العليــا ( داخل الحدود السوداني قبل التهجير وقيام السد العالي ) :
تمتد منطقة الفاديجا إلى مناطق داخل الأراضي السودانية حيث تقطن قبائل نوبية أساسية ويطلق عليهم (الحلفاويون) في منطقة وادي حلفا ثم تليهم جنوباَ قبائل السكوت النوبية وحتى الجندل الثاني ثم تسكن قبائل المحس النوبية إلى الجنوب منهم في منطقة الجندل الثالث ( من واوة وحتى منطقة أبو فاطمة عند الشلال الثالث ) ثم أخيراً نجد في أقصى جنوب النوبة قبائل الدناقلة وهم يقطنون شمالاَ بعد الشلال الثالث مباشرةً في مزيج مختلط مع المحس في مناطق كرمة وأرقو وحولها بالشرق ثم في مناطق أكد وبدين غرباً ثم تكون لهم الغلبة كلما اتجهنا جنوباً ثم يتمركزون في منطقة دنقلا وحولها وجنوباً حتى حدود منطقة الشايقية . وتمتاز منطقة الدناقلة بخصوبتها واتساع واديها وخلو نيلها من العوائق الملاحية وخاصة في المناطق الجنوبية منها .

ملاحظة هامة جداً : في الوقت الحالي اختلط معظم القبائل النوبية في تواجدها الجغرافي حيث من الصعب جداً سمة منطقة معينة لقبيلة معينة ، ففي داخل مناطق دنقلا نجد غالبية محسية أو سكوتية أو حلفاوية وكذلك الحال في مناطق الشمال النوبي بل الحال كذلك في معظم مناطق السودان الحديث حيث نلاحظ تصاهر قبلي مكثف واختلاط حضاري لا مثيل له من قبل ، فحالياً نحن نمر في مرحلة تكوين كيان جديد تتلاشى معها المسميات القديمة لتحل محلها علامات العصر الحديث . وهكذا سنة الله في أرضه !

الكنـــــوز


اتخذ بعض قبائل ربيعة المهاجرة منطقة أسوان مركزاَ لتأسيس إمارة بني ربيعة ، وذلك في القرن العاشر الميلادي ، فبجانب ما تحقق لهم من ثراء بسبب اشتغالهم في استخراج الذهب والزمرد والمعادن الأخرى في مناجم ( العلاقي ) فإن إشرافهم على الحركة التجارية كان مصدر آخر من مصادر ثرائهم حتى تكون لهم إمارة قوية في تلك المنطقة ، وقد ظل الأمير أبو يزيد أحد أمراء ربيعة يحكم الإمارة الواسعة حتى توفي وترك الإمارة لابنه ( أبي المكارم هبة الله ) الذي يعرف ( بالأهوج المطاع )  .       
ثم اتسعت حدود إمارة بني ربيعة حتى أصبحت تضم صعيد مصر الجنوبي من قوص وحتى أسوان ثم امتدت جنوباً لتشمل جزءاَ كبيراً من بلاد النوبة الشمالية وتقاربت حتى شارفت شمال منطقة دنقلا         ( عاصمة ) مملكة المقرة النوبية بحوالي ( 50 كيلومترا  )  .   
ثم توالى حكام بني ربيعة على تلك الإمارة حتى اعترف بهم الخلفاء الفاطميون الذين منحوها استقلالاً شبه تام في إدارة شئونها ، كما أنعم عليهم ( الحاكم بأمر الله الفاطمي ) على أميرها أبي المكارم بلقب ( كنز الدولة ) تقديراً لشأنه ورفعة مكانته . وقد ظل ذلك اللقب يتوارثه أمراء بني ربيعة من بعده حتى عرفت أمارتهم بإمارة الكنوز ، وحتى أصبح لفظ الكنوز بعد ذلك سمة مميزة ليس للأمراء فحسب بل سمة جديدة يعرف بها قبائل بني ربيعة في تلك المناطق حتى تلاشت كلياً الاسم العربي القديم لهم ليحل محلها لقب الكنوز .
وكان النوبيون يطلقون اسم ( الماتوكي ) على الكنوز والقبائل العربية الأخرى التي وطنت معهم في مناطق النوبة .. وهذا الاسم باللغة النوبية يعني ( القادمين من الشرق )  .

هجرات الكنوز لمناطق النوبة وباقي السودان :
بدأت هجرات الكنوز وقبائل أخرى كثيرة مثل قبائل ( الجعافرة والعبابدة ) جنوباً لمناطق داخل السودان منذ عهود قديمة بعد انتشار الاسلام بطريقة انسيابية وبطيئة .. ولكن كانت هجراتهم بطريقة مكثفة بقدوم العثمانيون إلى مصر ( 1517 م ) .. وملاحظة للدكتور جعفر ميرغني أن الكنوز حيثما استقروا داخل السودان بمحاذاة النيل كانوا يستقرون في ضفته الشرقية بينما كان الجعافرة يفضلون الاستقرار في الجانب الغربي للنيل ، ويعلل البعض ذلك إلى أن تجارة الكنوز وقبائل أخرى كانت مرتبطة بطريقة ما بالشرق داخل وخارج السودان بينما أن الجعافرة كانوا يتاجرون عادة مع كردفان ومناطق غرب السودان . وجل تمركز الكنوز كان على ضفاف النيل الأبيض .
ينتشر الكنوز في مناطق كثيرة بالسودان ، في الأقاليم الشمالية مع التغير في المسميات حسب المواقع التي هاجروا إليها ، مثل عشائر النصرلاب بوادي النصرلاب وعشائر أبي هور بمنطقة وادي أبي هور وفي حلفا وبربر والدامر وشندي وقرية الكنوز بالنيل الأبيض وفي دارفور ومليط والفاشر ، وفي العاصمة تمركز الكنوز في مناطق حي بيت المال وأبوروف حي السوق والمسالمة وحي الشهداء ومنطقة شارع العدني وحي العرب والركابية ومناطق رئيسية بالخرطوم والخرطوم بحري . وهناك أسر كنزية شهيرة بالعاصمة مثل عائلة فلاش الذي ينتمي إليها الفنان إبراهيم عوض ، وعائلة توفيق صالح جبريل ، وأحمد جمعة ، خليفة عثمان ، و حسين منصور (والد الشاعر عثمان حسين منصور )

هجرات النوبة السفلى :
بدأت عملية تهجير المناطق الشمالية للنوبة أولاَ بعد بناء سـد أسـوان عند مطلع القرن العشرين
( 1898 - 1902 م ) ثم مرة أخرى عند إجراء عملية تعلية للسد في عامي ( 1912م و1932 م ) حيث غرقت معظم الأراضي الزراعية الخصبة المنخفضة الواقعة في مناطق النوبة الشمالية ، فانتقل أهالي تلك المناطق إلى أعالي التلال المجاورة لمجرى النيل .. وخلال تلك التغيرات البيئية الكبيرة حدثت عملية تدمير كامل لمناطق النوبة الشمالية حيث اختفت قرى كثيرة وأراضي زراعية خصبة ، وجزر نيلية كثيرة ، وكانت هجراتهم في تلك المراحل تتم بطريقة عشوائية غير منتظمة بمبادرات جماعية مجبورة متقهقرة دون تدخل من الحكومات آنذاك . واهجر البعض منهم إلى مناطق في شمال مصر مثل مناطق ( نجع الكنوز بمحافظة قنا ، وبمبان ، والحلة ، أسنا ، والكوبانية بأسوان ) كما أن بعضهم هاجر جنوباً طلباَ للاستقرار مثل مناطق ( عنيبة ، وتوشكي ، وقسطل ) كما هاجرت كثير من الأسر للاستقرار في السـودان . وفي مراحل كثيرة حاولت الحكومة المصرية إعادة توطين النوبة في مناطق شمال أسوان ولكن رفض الكثيرون تلك المحاولات بعناد شديد وفضلوا العيش في القمم العالية والعيش في أراضي أسلافهم الصخرية .
ثم كانت عملية التهجير الكبيرة في ( 1964 م ) عند إنشاء السد العالي حيث كانت الطامة الكبرى فأسدل الستار على حزء غالي جداَ من تاريخ النوبة السفلى ، وحيث أغرقت معظم المناطق النوبية . وتم تهجير النوبة السفلى إلى مناطق داخل مصر بعيدة عن مناطقهم التاريخية بطريقة منتظمة ومدروسة ، حيث تنقلت القرى النوبية بنفس مسمياتها إلى منطقتين المنطقة الأولى ما يعرف بمنطقة النوبة الكبيرة الجديدة الواقعة في هضبة ( كوممبو ) من ناحية الجنوب والشرق والشمال . أما المنطقة الثانية فتقع من منطقة     ( إســنا ) حيث قرى نوبية عديدة تحمل نفس الأسماء القديمة ,
هجرات النوبة العليا :
النوبة داخل الأراضي السودانية منذ القديم كانوا متمسكون بمناطقهم التاريخية بالرغم من صعوبة العيش فيها حيث المساحات الزراعية الضيقة المتاحة والجزر النيلية الموسمية ، وكان الرجال يسافرون كثيراً في طلب الرزق في مناطق داخل مصر والسودان والدول العربية وحتى الأوروبية ، ولكنهم في النهاية كانوا يؤثرون العودة إلى مناطقهم النوبية حيث النهاية , ولكن في التاريخ الحديث انقلب الحال فشهدت مناطق النوبة عمليات نزوج مكثفة إلى داخل السودان الاستقرار بطريقة نهائية فيها ، فشهدت مناطقهم النوبية قرى فارغة أو شبه فارغة ، مع القلة من البشر الذين ما زالوا يناضلون من أجل البقاء والتمسك بالأصل والتاريخ والحضارة .. ولكن الواقع يشير إلى بوادر نهاية حضارة إنسانية تاريخية عظيمة جداً وهي تتمازج مع حضارة جديدة مفروضة ولازمة وهي حضارة السودان الجديد .
وعند بزوغ كل فجر جديد بتخرج أحد أفراد أسرة النوبي الشمالي من الدراسة الأولية ثم يستوجب الأمر الانتقال إلى العاصمة الخرطوم أو أحدى عواصم السودان فينتقل باقي أفراد الأسرة بعد إغلاق الدار نهائياَ وبذلك يتم إغلاق جزء من التاريخ النوبي !
وهناك الهجرة الكبيرة التي تمت في عام ( 1964 م ) عند أنشاء السد العالي حيث تم تهجير سكان حوالي سبعة قرى في شمال السودان بمنطقة حلفا إلى منطقة ( خشم القربة ) وبذلك تم إعلان تمزيق ما تبقى من أشلاء النوبة السفلى والعليا ، مع بقاء بعض العناصر القليلة التي آثرت النضال والوجود بالرغم من صعوبة الأمر . ومع ذلك فإن الجزء الباقي من التاريخ النوبي حالياً يتمثل في مناطق السكوت من الشمال ويجاورها المحس جنوباً ثم الدناقلة . وكما أسلفنا فتلك المناطق تتناثر فيها قرى كثيرة فارغة أو شبة فارغة تفقد دوماً سكانها والذي يهاجر منها قد لا يعود إليها !


النوبة سطور ومعالم : للباحث / عمر عيسى محمد أحمد

 

 

OmerForWISDOMandWISE

هنا ينابيع الكلمات والحروف تجري كالزلال .. وفيه أرقى أنواع الأشجار التي ثمارها الدرر من المعاني والكلمات الجميلة !!! .. أيها القارئ الكريم مرورك يشرف وينير البستان كثيراَ .. فأبق معنا ولا تبخل علينا بالزيارة القادمة .. فنحن دوماَ في استقبالك بالترحاب والفرحة .

  • Currently 31/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
11 تصويتات / 1458 مشاهدة
نشرت فى 4 إبريل 2011 بواسطة OmerForWISDOMandWISE

ساحة النقاش

OmerForWISDOMandWISE
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

764,524