أسماء بنت الصديق -رضي الله عنها
ذات النطاقين
نحن الآن مع عائلة الصدق والصديقية.
نقطف زهرة من زهرات هذه العائلة الفريدة، نستنشق عبيرها وخاصة أن هذا العبير من مدرسة الصديق الأكبر أبي بكر -رضي الله عنه
- إنها: صحابية بنت صحابي حفيدة صحابي، أم صحابي زوجة صحابي أبوها الصديق، وجدها أبو قحافة وابنها عبد الله بن الزبير وزوجها حواري الرسول صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام وأخت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وآخر المهاجرات وفاة وكانت أسن من عائشة ببضعة عشرة سنة.
تزوجت أسماء -رضي الله عنها- الزبير بن العوام -رضي الله عنه- فولدت له عبد الله وعروة والمنذر وعاصمًا والمهاجر وخديجة الكبرى وأم الحسن وعائشة.
وصبرت ذات النطاقين على حلو الحياة ومرها مع الزبير -رضي الله عنه- فلم تكل ولم تمل، وهي التي كانت تقوم بأمر البيت وتربية الأولاد وإعلاف الفرس وسياسته، وسقايته، وكانت تحمل النوى وتسير في الصحراء وتعلو الجبال حوالي أربعة كيلو مترات، ثم تطحن النوى للفرس، ولم تكره هذه الحياة!!.
تقول أسماء: تزوجني الزبير وما له في الأرض مال ولا مملوك ولا شيء غير فرسه قالت: فكنت أعلف فرسه وأكفيه مؤنته وأسوسه وأدق النوى الناضجة وأعلفه وأسقيه الماء وأخرز غربه وأعجن ولم أكن أحسن الخبز، فكان يخبز جارات لي من الأنصار، وكن نسوة صدق.
قالت: وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي وهي على ثلثي فرسخ. قالت: فجئت يومًا والنوى على رأسي فلقيت رسول الله ومعه نفر من أصحابه فدعا لي ثم قال: إخ إخ. ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته.
قالت: وكان من أغير الناس، قالت: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أني قد استحييت فمضى فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسي النوى ومعه نفر من أصحابه فأناخ لأركب معه فاستحييت وعرفت غيرتك.
فقال: والله لحملك النوى كان أشد علي من ركوبك معه قالت: حتى أرسل إلي أبو بكر بعد ذلك بخادمة فكفتني سياسة الفرس فكأنما أعتقني. [أخرجه البخاري (9 / 281، 282)، مسلم رقم (2182)، وأحمد (6 / 347، 352)، وابن سعد (8 / 197).]
وقد شكت أسماء -رضي الله عنها- ما تلقاه من عناء الحياة في بيت الزبير -رضي الله عنه- فصبرها والدها، فعن عكرمة أن أسماء بنت أبي بكر كانت تحت الزبير بن العوام وكان شديدًا عليها فأتت أباها فشكت ذلك إليه، فقال: يا بنية اصبري فإن المرأة إذا كان لها زوج صالح ثم مات عنها فلم تزوج بعده جمع بينهما في الجنة.
أبو جهل -لعنه الله- يلطمها:
وهكذا صبرت أسماء على طاعة زوجها، كما صبرت على طاعة ربها، وصبرت أيضًا على ابتلاءات الدعوة ويوم الهجرة الكريمة وقعت لها هذه الحادثة تقول أسماء -رضي الله عنها-:
لما توجه النبي صلى الله عليه وسلم من مكة حمل أبو بكر معه جميع ماله -خمسة آلاف، أو ستة آلاف، فأتاني جدي أبو قحافة، وقد عمي، فقال: إن هذا قد فجعكم بماله ونفسه، فقلت: كلا قد ترك لنا خيرًا كثيرًا، فعمدت إلى أحجار، فجعلتهن في كوة البيت، وغطيت عليها بثوب، ثم أخذت بيده، ووضعتها على الثوب، فقلت: هذا تركه لنا، فقال: أما إذا ترك لكم هذا، فنعم يظن أن هذه الأحجار دراهم ودنانير.
قالت: وأتى أبو جهل في نفر، فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك؟ قلت: لا أدري -والله- أين هو؟ فرفع أبو جهل يده، ولطم خدي لطمة خر منها قرطي، ثم انصرفوا، فمضت ثلاث لا ندري أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقبل رجل من الجن يسمعون صوته بأعلى مكة يقول:
جزى الله رب الناس خير جزائه
رفيقين قالا خيمتي أم معبد
ذات النطاقين:
واستعدت أسماء لتقوم بدورها البطولي الرائع يوم الهجرة فانطلقت وهي حامل بولدها عبد الله بن الزبير في شهوره الأخيرة تضرب الفيافي وتعلو على الجبال لتقوم بمهمة يضعف عن حملها الرجال الأبطال، ترى ما هذه المهمة؟
تقول أسماء -رضي الله عنها-: صنعت سفرة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أبي بكر حين أراد أن يهاجر إلى المدينة، قالت: فلم نجد لسفرته ولا لسقائه ما نربطهما به، فقلت لأبي بكر: والله ما أجد شيئًا أربطه به إلا نطاقي، قال: فشقيه باثنين فاربطي بواحد السقاء، وبالآخر السفرة. ففعلت فلذلك سميت ذات النطاقين. [أخرجه البخاري (7 / 194) كتاب المناقب باب الهجرة، وأحمد (6 / 346).]
وانتقلت أسماء من بيتها شاقة نطاقيها تحمل الطعام في أحدهما -وتحمل الشراب في الآخر، وتنقل ما استطاعت من أخبار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر -رضي الله عنه- في الغار إلى أن وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فهاجرت فيمن هاجر. ومن عليها ربها فرزقها ولدها عبد الله بعد الوصول إلى المدينة مباشرة كما ورد في الحديث الصحيح.
أن أسماء بنت أبي بكر خرجت حين هاجرت، وهي حبلى بعبد الله بن الزبير، فقدمت قباء فنفست بعبد الله بقباء، ثم خرجت حين نفست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحنكه، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، فوضعه في حجره، ثم دعا بتمرة، قال الراوي عنها: قالت عائشة: فمكثنا ساعة نلتمسها قبل أن نجدها، فمضغها، ثم بصقها في فيه، فإن أول شيء دخل في بطنه لريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قالت أسماء. ثم مسحه وصلى عليه، أي ودعا له -وسماه عبد الله، ثم جاء وهو ابن سبع سنين أو ثمان ليبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره بذلك الزبير، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه مقبلًا". [أخرجه مسلم كتاب الأدب باب استحباب تحنيك المولود رقم (2146).]
وكان عبد الله أول مولود للمهاجرين في المدينة، وسعد المهاجرون بولادته سعادة غامرة. وقد ربت أسماء ولدها عبد الله تربية فاضلة كريمة، فعن عروة ولدها أن الزبير أركب ولده عبد الله يوم اليرموك فرسًا. وهو ابن عشر سنين ووكل به رجلًا".
وظلت أسماء راعية لأولادها مطيعة لزوجها بارة بأمها مع شركها، فعن ابن الزبير قال: نزلت هذه الآية في أسماء، وكانت أمها يقال لها: قتيلة، جاءتها بهدايا، فلم تقبلها، حتى سألت النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [سورة الممتحنة: 8].
وفي الصحيح قالت أسماء: يا رسول الله، إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: "نعم صلي أمك" / 2، [أخرجه البخاري (6 / 201) كتاب الجزية (10 / 347)، في الأدب باب صلة المرأة أمها و(5 / 171) في الهبة باب الهدية للمشركين، ومسلم كتاب الزكاة، وأبو داود (1668)، وأحمد (6 / 344، 347، 355).] وهكذا فلتكن المسلمة، لا تقدم على أمر من أمور دينها حتى تسأل عنه.
وكما كانت أسماء تسأل النبي صلى الله عليه وسلم وتتعلم منه كان يسأل عنها ويدعو لها.
واشتهر عنها -رضي الله عنها- أنها كانت مجاهدة في سبيل الله تعالى فهي التي كانت تشهد المغازي مع النبي صلى الله عليه وسلم تداوي الجرحى وتسقي العطشى، وشهدت يوم اليرموك مع زوجها الزبير -رضي الله عنه- وحدثت لها هذه الكرامة.
يقول أبو واقد الليثي -رضي الله عنه- وكان ممن شهد اليرموك: كانت أسماء بنت أبي بكر مع الزبير، قال: فسمعتها وهي تقول للزبير: يا أبا عبد الله، والله إن كان الرجل من العدو ليمر يسعى فتصيب قدمه عروة أطناب خبائي فيسقط على وجهه ميتًا ما أصابه السلاح.
تقواها وعبادتها:
كما كانت -رضي الله عنها- تقية عابدة، ورد أن ابنها المنذر بن الزبير قدم من العراق فأرسل إلى أسماء بنت أبي بكر بكسوة من ثياب مروية وقوهية رقاق عتاق بعدما كف بصرها، قال: فلمستها بيدها ثم قالت: إف! ردوا عليه كسوته.
قال: فشق ذلك عليه، وقال: يا أمه إنه لا يشف، قالت: إنها إن لم تشف فإنها تصف، قال: فاشترى لها ثيابًا مروية وقوهية فقبلتها، وقالت: مثل هذا فاكسني، ألا فلتستمع المتبرجات؟!!! وبلغ من تقواها وتعبدها أنها لم تترك العبادة بعد أن بلغت التسعين وهي عجوز كبيرة عمياء ضعف عقلها ورغم هذا أحضرت إنسانًا يذكرها بالصلاة وكيفيتها حتى لا تموت تاركة للصلاة.
يقول الركين بن الربيع: دخلت على أسماء بنت أبي بكر وهي عجوز كبيرة عمياء فوجدتها تصلي وعندها إنسان يلقنها: قومي اقعدي، افعلي.
علمها:
كانت أسماء -رضي الله عنها- عالمة محدثة فقيهة فهي التي روت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن هذا ما روته عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إني على الحوض حتى أنظر من يرد علي منكم، وسيؤخذ ناس من دوني، فأقول يا رب مني ومن أمتي، فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك، والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم" . [أخرجه البخاري في الرقاق باب في الحوض (11 / 415) وفي الفتن، وأخرجه مسلم في الفضائل باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم.]
وهي التي كانت تفتي في أدق المسائل الفقهية، قال مسلم القري: دخلنا على أم ابن الزبير، فإذا هي امرأة ضخمة عمياء نسألها عن متعة الحج، فقالت: قد رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها". [أخرجه أحمد (6 / 348) وقال محقق السير (2 / 289) إسناده صحيح.]
وعن عكرمة قال: سئلت أسماء بنت أبي بكر هل كان أحد من السلف يغشى عليه من الخوف؟ قالت: لا ولكنهم كانوا يبكون. وكانت أسماء معبرة للرؤيا، قال الواقدي: كان سعيد بن المسيب من أعبر الناس للرؤيا أخذ ذلك عن أسماء بنت أبي بكر، وأخذت عن أبيها.
جودها:
وعرفت أسماء -رضي الله عنها- بالجود والبذل والإنفاق على الفقراء والمساكين، وكان لها في ذلك منهج خاص.
يقول ولدها عبد الله: ما رأيت امرأة قط أجود من عائشة وأسماء، وجودهما مختلف. أما عائشة: فكانت تجمع الشيء إلى الشيء، حتى إذا اجتمع عندها وضعته مواضعه.
- وأما أسماء، فكانت لا تدخر شيئًا لغد، [أخرجه الذهبي في السير (2 / 292)، وفي التاريخ (3 / 135)، وقال المحقق رجاله ثقات.] وقال ابن المنكدر: كانت أسماء بنت أبي بكر سخية النفس [أخرجه ابن سعد (8 / 198) وإسناده منقطع.] وقد كانت مسارعتها للصدقة استجابة لوصية النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة التصدق. فعن ابن المنكدر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسماء: "لا توكي فيوكى عليك" . [أخرجه ابن سعد (8 / 198) وإسناده منقطع لكن له شواهد.]
وبلغ من كثرة إنفاقها وكريم عطائها أنها كانت تتصدق طلبًا للشفاء، فقد ورد أن أسماء كانت تمرض المرضة فتعتق كل مملوك لها.
شجاعتها الفريدة:
دخل عبد الله بن الزبير على أمه أسماء بنت أبي بكر في اليوم الذي قتل فيه، وقد رأى من الناس ما رأى من خذلانهم، فقال: يا أماه! خذلني الناس حتى ولدي وأهلي، فلم يبق معي إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما قولك؟ فقالت: أنت والله يا بني أعلم بنفسك. إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو، فامض له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك يتلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا، فبئس العبد أنت أهلكت نفسك، وأهلكت من قتل معك. وإن قلت: كنت على حق، فلما وهن أصحابي ضعفت فليس هذا من فعل الأحرار، ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن، والله لضربة بالسيف في عز أحب إلي من ضربة بالسوط في ذل: قال: إني أخاف إن قتلوني أن يمثلوا بي.
قالت: يا بني إن الشاة لا يضرها سلخها بعد ذبحها، فدنا منها وقبل رأسها، وقال: هذا والله رأي، والذي قمت به داعيًا إلى يومي هذا، ما ركنت إلى الدنيا، ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمة، ولكنني أحببت أن أعلم رأيك، فزدتني بصيرة مع بصيرتي، فانظري يا أماه فإني مقتول من يومي هذا، فلا يشتد حزنك، وسلمي لأمر الله، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر، ولا عمل بفاحشة، ولم يجر في حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، [المعاهد: رجل من أهل الذمة بينه وبين المسلمين عهد.] ولم يبلغني ظلم من عمالي فرضيت به، بل أنكرته، ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي، اللهم إني لا أقول هذا تزكية مني لنفسي [تزكية: تطهير لها من الخطايا والدنايا، وفخرًا ومدحًا.] أنت أعلم بي، ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلو عني. [لتسلو عني: لتنساني إذا ما قتلت.]
فقالت أمه: إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسنًا إن تقدمتني، وإن تقدمتك ففي نفسي حرج في نفسي ضيق لأنني سأكون مشغولة عليك. حتى أنظر إلام يصير أمرك. قال يا أماه: جزاك الله خيرًا! فلا تدعي الدعاء لي قبل وبعد، [قبل الموت وبعد الموت.] فقالت: لا أدعه في الليل الطويل وذلك النحيب [النحيب: البكاء خوفًا من الله.] والظمأ [العطش في الصيام وفي الجهاد.] في هواجر المدينة ومكة، وبره بأبيه وبي، اللهم قد سلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين، ثم ودعها وخرج.
ولما أعطاه القوم الأمان أثناء القتال بينه وبين الحجاج جاءها ولدها عبد الله يستشيرها في ذلك، فقال لها: ما تأمريني به؟ فإن القوم قد أعطوني الأمان، قالت: أرى أن تموت كريمًا ولا تتبع فاسقًا لئيمًا، وأن يكون آخر نهارك أكرم من أوله، قال: أخشى أن يمثلوا بي بعد الموت.
قالت: إن الكبش إذا ذبح لا يضره السلخ، فقبل رأسها وودعها وضمته إلى نفسها فخرج من عندها فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إن الموت قد تغشاكم سحابه، وأحدق بكم ربابه واجتمع بعد تفرق، وأرجحن بعد تمشق ورجس نحوكم رعده وهو مفزع عليكم ودقه، وقاد إليكم البلايا تتبعها المنايا فاجعلوا السيوف لها غرضًا، واستعينوا بالصبر، ثم اقتحم يقاتل وهو يقول:
قد جد أصحابك ضرب الأعناق
وقامت الحرب لها على ساق
وحمل يقاتل وحده حتى أخرجهم من المسجد وخاض في وسطهم إلى أن بلغ الحجون، وكلما اجتمعوا عليه فرقهم وردهم حتى أثخن بالجراحات وجاءه حجر من المنجنيق فأصابه في جبهته فسقط، فبادر إليه أهل الشام فقطعوا رأسه، وكان حين يحمل عليهم فيهزمهم يقول: يا له فتحًا لو كان معي رجال، أو كان أخي مصعب حيًا.
وكم تمنت السيدة أسماء -رضي الله عنها- أن يموت ولدها شهيدًا، قال ولدها عروة: دخلت أنا وأخي، قبل أن يقتل على أمنا بعشر ليال، وهي وجعة، فقال عبد الله: كيف تجدينك؟ قالت: وجعة، قال: إن في الموت لعافية. قالت: لعلك تشتهي موتي، فلا تفعل، وضحكت وقالت والله ما أشتهي أن أموت، حتى تأتي على أحد طرفيك إما أن تقتل فأحتسبك، وإما أن تظفر فتقر عيني، إياك أن تعرض علي خطة فلا توافق، فتقبلها كراهية الموت. [ذكره الهيثمي في المجمع (9 / 260) ونسبه للطبراني وله شواهد كما سيأتي.]
إنها الشجاعة الأدبية في أسمى معانيها. فلما قتله الحجاج ابن الزبير، دخل على أسماء وقال لها: يا أمة، إن أمير المؤمنين وصاني بك، فهل لك من حاجة؟ قالت: لست لك بأم، ولكني أم المصلوب على رأس التينة، وما لي من حاجة، ولكن أحدثك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج في ثقيف كذاب ومبير" فأما الكذاب، فقد رأيناه -تعني المختار بن أبي عبيد الثقفي- وأما المبير، فأنت فقال لها: مبير المنافقين!!.
وقد حدث أن أسماء -رضي الله عنها- جاءت بعد قتل ابن الزبير وصلبه إلى الحجاج وهي عجوز طويلة عمياء، فقالت له: أما آن للراكب أن ينزل؟
فقال: المنافق؟ قالت: والله، ما كان منافقًا، كان صوامًا قوامًا برًا. قال: انصرفي يا عجوز فقد خرفت، قالت: لا والله منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "في ثقيف كذاب ومبير ..." .
أرأيت شجاعة أسماء ورباطة جأشها مع كبر سنها، وأرأيت ظلم وجبروت وقلة الحياء وسوء الأدب ... من الحجاج ومرة أخرى يسيء الحجاج الأدب مع ذات النطاقين، فتدحض كلامه، وتقطع لسانه البذيء الظالم.
جاء في الخبر ... أن الحجاج لما قتل ابن الزبير وصلبه، ثم أنزله عن جذعه، وألقاه في قبور اليهود، أرسل إلى أمه أسماء بنت أبي بكر، فأبت أن تأتيه، فأعاد عليها الرسول، لتأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك.
قال: فأبت، وقالت: والله لا آتيك حتى تبعث إلي من يسحبني بقروني، فانطلق حتى دخل عليها، فقال: كيف رأيتني صنعت بعدو الله؟ قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك، بلغني أنك تقول له يا ابن ذات النطاقين! أنا والله ذات النطاقين! أما أحدهما فكنت أرفع به طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعام أبي بكر من الدواب، وأما الآخر فنطاق المرأة التي لا تستغني عنه، أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا: "أن في ثقيف كذاب ومبيرًا" /2 فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فلا إخالك إلا إياه، قال: فقام منها ولم يراجعها.
هذه لغة الإيمان العميق والخوف من الله -تعالى- وحده وهذه لغة المكر الكبار والفساد العريض والإفك المبين.
وبعد حياة مليئة بمشاهد الحق وأفعال الصدق وأنوار اليقين جلست أسماء -رضي الله عنها- على سرير الموت وذلك بعد وفاة ولدها عبد الله بليال قد تكون ثلاثًا أو سبعًا أو أكثر.
وكانت قد دعت ربها قبل موتها بليال أن تكفن ولدها عبد الله وتحنطه وتصلي عليه واستجاب الله -تعالى- لها: قال ابن أبي مليكة: دخلت على أسماء بعد ما أصيب ابن الزبير، فقالت: بلغني أن هذا طلب عبد الله، اللهم لا تمتني حتى أوتي به، فأحنطه [أحنطه: أطيبه.] وأكفنه.
فأتيت به بعد، فجعلت تحنطه بيدها، وتكفنه، بعدما ذهب بصرها. أما وصية الموت لأسماء فهي قولها: إذا أنا مت فاغسلوني وكفنوني وحنطوني، ولا تذروا على كفني حنوطًا [أي لا تضعوا حنوطًا فوق الكفن.] ولا تتبعوني بنار. [أخرجه ابن سعد (8 / 200، 201) بإسناد صحيح.]
وقد ماتت سنة ثلاث وسبعين وقد بلغت مائة عام، وهي آخر المهاجرات وفاة، فإلى جنة الفردوس يا ذات النطاقين.
---------------------------------------------؛
قصص الصحابيات رضي الله عنهن