الخيانه
قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:179].
نعم، كل الخيانة قاسية ومريرة مريرة، لكن الأقسى أن يخونك من تتوقّع منه العون، وبالخيانة أسقطت دولة الخلافة الإسلامية، وكانت رمزًا تجمع شتات المسلمين، فتمزقت أوطان المسلمين إلى بلدان وأقاليم، وأقام أعداؤنا في كلّ موطن وإقليم سلطانًا مواليًا لنفوذهم، ينفذ سياستهم بالترغيب والترهيب والحماية، ثم عمدوا إلى مناهج التعليم والتربية فصبغوها بصبغتهم في الإلحاد والكفر، وأنشؤوا بذلك أجيالاً من أبناء المسلمين يعادون دينهم ويتنكرون لتاريخهم وأمتهم، ثم عمدوا إلى الدين والحق فحاصروه في نفوس أتباعه، وضيقوا الخناق عليه في كل مكان، واضطروا أهله إلى النجاة بأنفسهم أو تحمّل صنوف العذاب والبلاء، وبالخيانة تم غزونا فكريًا، فلم يستطع الغرب أبدًا أن يغزونا فكريًا ولا أن يهزم أرواحنا حتى حين هزم جيوشنا، لكن تكفّل بالمهمة الخونة من أبناء جلدتنا، وصدق الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204].
بسلاح الغدر والخيانة ذلك السلاح الذي تجرعت الأمة وتتجرع بسببه المرارات، وعن طريقه فقدت الأمة أعظم قادتها وخلفائها ممن أعجَزَ أعداءَها على مر التاريخ، فالرسول سَمَّته يهود، وعمر قتله أبو لؤلؤة المجوسي، وعثمان قتلته يد الغدر، وعلي وغيرهم ممن أغاظ أعداء الله أذاقهم صنوف العذاب والهوان في ساحات النزال، وفي بئر معونة قُتِلَ سبعون من خيار الصحابة، لأجل هذا جاء التحذير من الخيانة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].
والخيانة متى ظهرت في قوم فقد أذنت عليهم بالخراب، فلا يأمن أحد أحدًا، ويحذر كلُ أحد من الآخر، فلا يأمن صديق صديقه، ولا زوج زوجه، ولا أب ولده، وتترحل الثقة والمودة الصادقة فيما بين الناس، وقد جاء في الأثر: "لا تقوم الساعة حتى لا يأمن المرء جليسه"، وينقطع المعروف فيما بين الناس مخافة الغدر والخيانة، ومن قصص العرب أن رجلاً كانت عنده فرس معروفه بأصالتها، سمع به رجل فأراد أن يسرقها منه، واحتال لذلك بأن أظهر نفسه بمظهر المنقطع في الطريق عند مرور صاحب الفرس، فلما رآه نزل إليه وسقاه ثم حمله وأركبه فرسه، فلما تمكن منه أناخ بها جانبًا وقال له: "الفرس فرسي وقد نجحت خطتي وحيلتي"، فقال له صاحب الفرس: "لي طلب عندك"، قال: "وما هو؟" قال: "إذا سألك أحد: كيف حصلت على الفرس؟ فلا تقل له: احتلت بحيلة كذا وكذا، ولكن قل: صاحب الفرس أهداها لي"، فقال الرجل: "لماذا؟!" فقال صاحب الفرس: "حتى لا ينقطع المعروف بين الناس، فإذا مرّ قوم برجل منقطع حقيقة يقولون: لا تساعِدوه لأن فلانًا قد ساعد فلانًا فغدر به". فنزل الرجل عن الفرس وسلمها لصاحبها واعتذر إليه ومضى.
وحتى لا نسير على درب الخونة الدَّنِس ولا نتبع خطاهم الملوثة، ولكي يتقي اللهَ مسلمٌ أن يخون عهد الله وأمانته كانت هذه الرسالة المُسمَّاة ذم الخيانة.
أسال الله العظيم أن يتقبلها خالصة لوجه الكريم وأن ينفعها بها يوم الدين إنه ولى ذلك والقادر عليه.
ذم الخيانة في الكتاب الكريم والسنة المطهرة:
الخيانة أمر مذموم في شريعة الله، تنكرها الفطرة، وتمجُّها الطبيعة السوية، ولا تقبلها حتى الحيوانات العجماوات، الخيانة كلمة تجمع كل معاني السوء الممكن أن تلحق بإنسان، فهي نقض لكل ميثاق أو عقد بين إنسان وخالقه أو إنسان وإنسان أو بين الفرد والجماعة. قال الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} [الأنفال من الآية:58]، وقال سبحانه: {وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف من الآية:52]، وقرن الله جل وعلا بين الخيانة والكفر في قوله جلّ وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج من الآية:38]. والخيانة من سمات النفاق، فالخائن بالضرورة منافق، وإلا فكيف سيُخفي خيانته إلا بالنفاق؟! قال النبي: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» (متفق عليه).
وأشد الناس فضيحة يوم القيامة هم الخائنون للحديث: «لكل غادر لواء يوم القيامة يقال: هذه غَدْرَة فلان» (متفق عليه)، هذا الخائنَ وإن اندسّ بين الناسَ وإن عرف كيف يرتّب أموره بحيث لا يُفتضح أمام عباد الله فأين يذهب يوم القيامة؟! وكان عليه الصلاة والسلام يستعيذ من الخيانة كما روى أبو داود أنه كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة» (رواه أبو داود [1547]، والنسائي [5468]).
والخيانة مذمومة حتى مع الكفار، حتى مع الخونة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك»، وفي القرآن: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} [الأنفال: 58]، وجاء عثمان بن عفان بعبد الله بن سعد بن أبي سرح إلى النبي، وكان النبي قد أهدر دمه، فجاء به حتى أوقفه على النبي فقال: "يا رسول الله، بايِع عبد الله"، فرفع رأسه، فنظر إليه ثلاثًا، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: «أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففتُ يدي عن بيعته فيقتله؟!»، فقالوا: "ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك"، قال: «إنه لا ينبغي لنبيّ أن تكون له خائنة الأعين» (والحديث صحيح رواه أبو داود وغيره).
فالمصطفى عليه الصلاة والسلام لم يرضَ أن يتَّخذ الخيانة وسيلة حتى في حقِّ كافر محارب لله ورسوله، فما مدى جرم أولئك الذين لا تكون خيانتهم إلا في مسلمين؟! كيف بالذين لا تكون خيانتهم إلا في حق مؤمنين موحدين، لا يرقبون فيهم إلا ولا ذمة؟!
وجود الخيانة في كل زمان ومكان، الخيانة موجودة في كل الأمم في وقت السلم، وتشتد في الحرب، ولم يسلم منهم زمان دون زمان ولا مكان دون مكان، بل لم يسلم منهم أفضل زمان بوجود أفضل رجل ورجال، زمن النبي وصحابته الكرام، فكيف بمن بعده؟!
في أُحُد خرج رسول الله في ألف من أصحابه، حتى إذا كان بالشوط بين المدينة وأحد انخزل عنه عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الناس، وقال: "أطاعهم وعصاني!" يقول: "ما ندري علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس؟!"
ولما خرج رسول الله إلى تبوك لمقابلة الروم وكان في الجيش بعض الخونة المنافقين فقاموا يرجفون ويخوّفون المسلمين، فقال بعضهم: "أتحسبون جِلادَ بني الأصفر -أي: الروم- كقتال العرب بعضهم بعضًا؟!"
والله لكأنا بكم غدًا مُقرَّنين في الحبال، وكذا فإن لابن سبأ الخائن المنافق الدور الكبير في الفتنة العظمى التي حصلت بين الصحابة، حتى إنه لما سعى علي رضي الله عنه بالصلح بينه وبين طلحة والزبير وساروا في ذلك، قام ابن سبأ فيمن كان على رأيه فقال: "إنا يا معشر قتلة عثمان في ألفين وخمسمائة، وطلحة والزبير وأصحابهما في خمسة آلاف، ولا طاقة لكم بهم، فإذا التقوا -يعني للصّلح- فأنشِبوا الحربَ والقتال بينهم، ولا تدعوهم يجتمِعون"، فاختلط المنافقون بالناس، وبينما الجيشان المسلمان يسيران إلى طريق العودة للصلح عزم الأشرار على إثارة الحرب بينهم مع طلوع الفجر، فابتدأوا الحرب بالهجوم على من يلونهم من جيش طلحة والزبير، وثار الناس مغضبين، وتفاجَؤوا مما حدَث، فاتّهم بعضم بعضًا، ونشب القتال الذي ذهب ضحيته خلق كثير من المسلمين.
وتستمر مكائد المنافقين الخائنين لهدم دولة الإسلام في كل زمان ومكان، والسبب هو غفلة المسلمين عن خطر هؤلاء الخونة المنافقين، فهذا الرافضي الخبيث المنافق ابن العلْقَمِي كان وزيرًا للخليفة العباسي المستعصم بالله محمد الظاهر، وكان لابن العلقمي الدور الكبير في دخول التتر إلى بغداد، وسقوط الخلافة العباسية فيها، والمذابح المروعة التي نتجت عن ذلك، فقد كتب ابن العلقمي إلى هولاكو ملك التتر يبدي له استعداده أن يسلمه بغداد إذا حضر بجيشه إليها، فكتب هولاكو لابن العلقمي: "إن عساكر بغداد كثيرة، فإن كنت صادقًا فيما قلت لنا وداخلاً تحت طاعتنا ففرّق العسكر"، فلما وصل الكتاب إلى ابن العلقمي دخل على المستعصم، وزين له أن يسرح خمسة عشر ألف فارس من عسكره؛ لأن التتر قد رجعوا إلى بلادهم، ولا حاجة لتكليف الدولة كلفة هؤلاء العساكر، فاستجاب الخليفة لرأيه، وأصدر أمرًا بذلك، فخرج ابن العلقمي بنفسه ومعه الأمر، واستعرض الجيش واختار تسريح أفضلهم، وأمرهم بمغادرة بغداد وكل ملحقاتها الإدارية، فتفرقوا في البلاد.
وبعد عدة أشهر زين للخليفة أن يسرح أيضًا عشرين ألفًا فاستجاب لطلبه، وفعل ابن العلقمي كما فعل في الأولى، فاختارهم على عينه، كان هؤلاء الفرسان الذين سُرّحوا -كما يقول المؤرخون- بقوة مائتي ألف فارس، ولما أتم مكيدته كتب إلى هولاكو بما فعل، فركب هولاكو وقدم بجيشه إلى بغداد، وأحسَّ أهل بغداد بمداهمة جيش التتر لهم، فاجتمعوا وتحالفوا وقاتل المسلمون ببسالة، وحلت الهزيمة بجيش التتر، ثم عاد المسلمون مؤيَّدين منصورين، ونزلوا في خيامهم مطمئنين، فلما جاء الليل أرسل الوزير ابن العلقمي جماعة من أصحابه المنافقين الخونة، فحبسوا مياه دجلة، ففاض الماء على عساكر بغداد وهم نائمون في خيامهم، وصارت معسكراتهم مغمورة ومحاطة بالوحل، وكان ابن العلقمي قد أرسل إلى هولاكو يعلمه بمكيدته، فعاد هولاكو بجيشه وعسكر حول بغداد، فلما جاء الصباح دخل جيش التتر بغداد ووضعوا السيف في أهلها، وقتلوا الخليفة وابنه قتلة شنيعة، وأفسدوا أشدَّ الفساد، ثم دعا هولاكو بابن العلقمي ليكافئه، فحضر بين يديه، فوبخه على خيانَتِه لسيّده الذي وثِق به، ثم قال: "لو أعطيناك كلَّ ما نملك ما نرجو منك خيرًا، فما نرى إلا قتلَك"، فقتِل شرَّ قِتلة، {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر من الآية:43].
فالخيانة سلاح قديم عرفته الحروب البشرية، واستخدمته الدول والجيوش في حروبها؛ وذلك لإضعاف جبهة أعدائها وتفكيكها تمهيدًا للسيطرة عليها وإحراز النصر، وصور الخيانة متعددة، منها ما هو متعلق بالحاكم لأمته، أو أعوان الحاكم، أو أفراد من الشعب لبلدهم، ولقد عهدت الحكومات لأجهزة مخابراتها بمهمة تتبع من تعتبرهم خونة، ولكن دائمًا كان سلاح الخيانة يخفى؛ لأن طبيعة استخدامه تفرض سريته؛ ولذلك فإنه سلاح ربما يكون أخطر وأهم من الأسلحة النووية، وأقل كلفة، ونتائجه حاسمه، وذلك ما أكده "تومي فرانكس" قائد الحملة العسكرية على العراق لوكالات الأنباء، ونشر في الجرائد في العالم يوم 25/5/2003م؛ حيث ذكر أن عددًا من كبار ضباط الجيش العراقي الذين كانوا يتولون الدفاع عن عدد من المدن الرئيسية في العراق قد تقاضوا رشاوى من الولايات المتحدة لمنع قواتهم من قتال القوات الأمريكية الخاصة أثناء الحرب، وجاء في صحيفة "الإندبندنت" البريطانية عن أحد قادة وزارة الدفاع الأمريكية أن الرشوة التي قدمت لأبرز القادة العراقيين توازي تكلفة صواريخ كروز الذي تراوح قيمته ما بين مليون و 2. 5 مليون دولار، وقال: "إن تقديم هذه الرشاوى حقق الهدف المطلوب دون إراقة دماء"، وقال: "إن هذا الجزء من العملية العسكرية كانت له أهمية العمليات العسكرية نفسها وربما أكثر أهمية".
هذا فيما يتعلق بخيانة كبار القادة العسكريين العراقيين، وعندما نقلب صفحات التاريخ سوف نجد صفحات أخرى سوداء للخيانة، منها ما فعله الوزير شاور في مصر مع الصليبيين عندما هجموا على مصر عام 564هـ وفتح لهم شاور البلاد، وجعلوه نائبًا لهم، وحرق الوزير شاور مصر إرضاء للإفرنج، وظلت النار تشتعل في مصر 54 يومًا كما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية، وقتل الخائن شاور بأمر حاكم مصر، وكانت هناك مؤامرة للقوم مع اليهود ضد قوات القائد المسلم نور الدين محمود والقائد البطل صلاح الدين الأيوبي؛ فقد اتفق كل من مؤتمن الخليفة العاضد في مصر ومقدم العساكر على مكاتبة الصليبيين واستدعائهم إلى البلاد، وكتب رسالتهم يهودي، ولكن الله فضحهم، وقُبض على حامل الرسالة، وعند فتحها وجد فيها الآتي: "إن يتحرك الفرنج إلى الديار المصرية فإذا وصلوا خرج صلاح الدين بالعساكر إلى قتالهم، فيثور مؤتمن الخلافة بمن معه على متخلفيهم يقتلهم، ثم يخرجون بأجمعهم يتبعون صلاح الدين، فيأتونه من وراء ظهره والفرنج بين يديه، فلا يبقى لهم باقية"، ومما يؤكد ضلوع الحاكم العبيدي في المؤامرة أن صلاح الدين وهو يصفي أطراف المؤامرة فوجئ بالحجارة والسهام صادرة من قصر الحاكم، وكان العاضد يرقب المعركة من القصر.
وذكره المؤرخ ابن كثير بالآتي: "كان شيعيًا خبيثًا، لو أمكنه قتل كل من قدر عليه من أهل السنة". قال حكيم: "نمرٌ مفترس أمامك خير من ذئب خائن وراءك".
ومع ذلك كله فإن الخونة يدفعون ثمناً باهظاً جراء خيانتهم، ليس أعظمه حياتهم التي تبقى في مهب الريح وبلا قيمة عند من خانوه: الوطن والأمة، أو من خانوا لأجله: المستعمر والعدو، فقبل أن يدفع الخونة حياتهم ثمناً لخيانتهم يموتون آلاف المرات وهم يرون كرامتهم تُنتهك وتُداس بالأقدام من العدو الذي مدّوا أيديهم إليه بالخيانة قبل الصديق الذي باعوه بثمن بخس. لنتصفح أوراق التاريخ ونسأل: ماذا كان مصير العملاء عبر التاريخ؟ هل مجّد التاريخ عميلاً واحدًا؟ هل أقامت الدول لعملائها نُصباً تذكارية أو سمت شارعاً أو مرحاضاً عاماً باسم أحد عملائها؟ هل احترمتهم شعوبهم أم أنهم رموا في مزبلة التاريخ بعد انتهاء صلاحياتهم؟
العميل يبقى ذليلاً قميئاً ولو وضعوا على رأسه كل تيجان العالم، ويبقى صغيراً واطئاً مهما نفخوا في أوداجه وجعلوه رئيساً أو وزيراً. ذات يوم أراد أحدهم أن ينافق نابليون، فنقل إليه أسراراً عسكرية حيوية عن استعدادات جيش بلاده، استقبلها نابليون بسرور بالغ، وقد ساهمت هذه الأسرار فيما بعد في تحقيق الانتصار له في الحرب، وبعد الانتصار، استقبل نابليون ذلك الرجل بجفاء، وأخذ كيساً من المال وألقاه إليه دون أن يترجل عن ظهر حصانه، فقال له المنافق: "لا حاجة بي إلى المال، وأمنيتي هي أن أصافح الإمبراطور"، فقال له نابليون: "من يخون وطنه وينافق أعداءه على حساب شعبه له المال فقط، أما يد الإمبراطور فإنها لا تصافح إلا الأشراف المخلصين".
هل يتذكر الناس الآن اسم رئيس جمهورية فيتنام الجنوبية خلال الاحتلال الأمريكي لفيتنام؟ وما اسم قائد جيشه أو اسم وزير خارجيته أو اسم احد من وزرائه؟
لكن الجميع يتذكرون اسم الجنرال جياب وهوشيمِنه، هل يتذكر الناس من كان يحكم ليبيا إبان الاحتلال الإيطالي الفاشي؟
ولكن جميع العرب ومعظم المسلمين يتذكرون الشهيد عمر المختار، جند الفرنسيون 250 ألف عميل ومتعاون في الجزائر، سمّوهم "الحركيون"، خدموا المحتلين الفرنسيين لعشرات السنين، هل يتذكر الناس الآن اسم زعيم تلك الحركة أو اسم أحد كبار المتعاونين معهم؟
ولكن كل العرب يتذكرون المجاهد عبد القادر الجزائري والمناضلين أحمد بن بلا وإخوانه. هل يتذكر الناس الآن اسم رئيس كوبا عميل أمريكا عام 1959م؟ بينما الناس يتذكرون إلى الآن تشيكيفارا ويلبسون قمصان مطرزة بصوره. إذن لن تعجز الأمة أن تعرف عدوها من اليهود والنصارى والمشركين، ولكن من الصعب عليها أن تعرف الخونة المنافقين لتلوّنهم وكذبهم واتباعهم كل طريق ملتوية وخسيسة، والله جل وعلا يقول: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام من الآية:55].
أنواع الخيانة
1- خيانة العقيدة:
وعقيدتنا لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعدم تحقيق لا إله إلا الله في النفس وفي الغير وأنت مسلم خيانة لله، تعطيل فرائض الله أو تعدي حدوده أو انتهاك محارمه وأنت مسلم خيانة لله. أن يكون المسلم مطية لأعداء الله في تنفيذ مخططاتهم وما فيها من دمار للبلاد والعباد أو دليلاً لهم على عوراتها خيانة، قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم:10].
والخيانة هنا هي خيانة الدين لا الفاحشة، قال ابن كثير: "إن نساء الأنبياء معصومات عن الوقوع في الفاحشة لحرمة الأنبياء"، قال ابن عباس: "كانت خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما، فكانت امرأة نوح تطلع على سرّ نوح، فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به، وأما امرأة لوط فكانت إذا أضاف لوط أحدًا أخبرت به أهل المدينة ممن يعمل السوء"، وصلة الزوجية لم تنفع ولو كانت مع نبيّ، قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ} [المؤمنون:101].
2- موالاة أعداء الله خيانة: تروي كتب السيرة أن حاطب بن أبي بلتعة عندما تجهز النبي لفتح مكة أرسل رسالة لقريش مع امرأة يُعِلمهم بسير النبي، وجاء الوحي إلى رسول الله يخبره بالخبر، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا علي»، قال: لبيك يا رسول الله، «يا زبير»، قال: لبيك يا رسول الله، «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة ومعها كتاب فخذوه»، وذهبا كالسهمين مسرعين، ووجدا تلك المرأة تُنيخ راحلتها، فاقترب الزبير وقال: "أي أختاه معك رسالة فأخرجيها"، قالت: "ما معي شيء"، قال عليّ: "يا امرأة، إنّ الذي أرسلنا ما كذب قطّ، وهو صادق فيما يقول، أخرجي الرسالة"، قالت: "ما معي شيء"، قال: "والذي نفسي بيده، إما أن تخرجيها، وإما أن أجردك من ثيابك حتى أراها"، صاحت بكل صوتها وهي مشركة: "لا، إياك أن تجرّدني، فأنا عربية حرة لا أتجرّد من ثيابي".
يا الله، إن في شوارعنا من يتجرّد من ثيابه، لقد تجردوا وتزينوا وتسفهوا، وللخنا باعوا واشتروا، ثم يقولون: هم عرب. قال: "سنجردك من ثيابك"، قالت: "لا بل أخرج الرسالة"، قال: "أخرجيها"، قالت: "أديرا وجهيكما"، وكشفت وأخرجت الرسالة وسلّمتها، وعاد الشابان إلى الجيش، هنالك فتح الرسول الرسالة وقرأها عليّ: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة، إن النبي قد جاءكم بجيش لا قبل لكم به فخذوا حذركم.
عقدت محكمة ميدانية، جيء بحاطب، «يا حاطب ما هذا؟»، بكى حاطب وأشهَد الله أنه لم يفعل ذلك خيانة، إنما له أهل ضعاف، أراد أن لا تقتلهم قريش إذا سمعوا أن الجيش قد جاء، فأرسل الرسالة ليحافظ على أهله، فقال عمر: "يا رسول الله، هذا رجل كذاب، دعني أضرب عنقه"، قال: «إنه قد شهد بدرًا، وما يُدرِيك لعل الله أن يكون قد اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟!»، وفي رواية: «فقد وجبت لكم الجنة» (متفق عليه). ويُنادي حاطب وهو ينظر إلى المسلمين: "والله ما خنتُ الله ورسوله، والله ما نويتُ ذلك ولا خطر لي ذلك".
نحن الآن من أجل أرصدةٍ في بنوك اليهود من أجل جاهٍ نطلبه من الكافرين نخون أمة المسلمين بأجمعها. وأنزل الله تعالى براءة لحاطب فقال له: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ} [الممتحنة من الآية:1]. يا حاطب، إن عدوك هو عدوي، وإن عدوي هو عدوك، أنت مؤمن يا حاطب. من هنا عاد حاطب إلى صفوف المؤمنين، وصار الصف بلا خيانة.
3- خيانة الشريعة: فلا تُطَبّق، بل تعزل عن حياة المسلمين، وهذه الخيانة عمّت وطمّت، أين الشريعة في الدساتير العلمانية؟! أين الشريعة في الاقتصاد الربوي؟! أين الشريعة في الإعلام التحلُّلِي؟! أين الشريعة في السلم والحرب والتعليم والقضاء؟! وما شريعة القرآن إلا عهود ومواثيق بين الله وعباده، وقد دعانا رب العزة إلى الوفاء فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [المائدة من الآية:1]، {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [المائدة من الآية:7].
4- خيانة الأعراض، ومن الخيانة في الأعراض النظرة الحرام، قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر من الآية:19]، قال ابن عباس: "هذا الرجل يدخل على أهل بيت وفيهم امرأة حسناء، فإذا غفلوا نظر إليها، وإذا فطنوا غضَّ بصره"، فكيف بالزنا؟! وقد حرّم الله الزنا ونهى عن مقاربته ومخالطة أسبابه فقال: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} [الإسراء:32].
5- خيانة الكسب: والمسلم الحق يحرص على الحلال في مطعمه ومشربه، فلا غش ولا خداع ولا كذب، جاء في حديث أن رسول الله مر على صُبْرَة طعام أي: كُومة، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً، فقال: «ما هذا يا صاحب الطعام؟!»، قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: «أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟! من غش فليس مني» (رواه مسلم).
6- ومن معاني الخيانة أيضًا أن يستغلّ الرجل منصبه الذي عُيِّن فيه لجرّ منفعة إلى شخصه أو قرابته، فإن التشبّع من المال العام جريمة، قال رسول الله: «من استعملناه على عمل فرزقناه رزقًا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول» (رواه أبو داود).
ذكر صاحب الحلية أن عمر بعث إليه أميره في الشام زيتًا في قرب ليبيعه ويجعل المال في بيت مال المسلمين، فجعل عمر يفرغه للناس في آنيتهم، وكان كلما فرغت قِرْبة من قِرَب الزيت قلبها ثم عصرها وألقاها بجانبه، وكان بجواره ابن صغير له فكان الصغير كلما ألقى أبوه قربة من القِرب أخذها ثم قلبها فوق رأسه حتى يقطر منها قطرة أو قطرتان، ففعل ذلك بأربع قرب أو خمس فالتفت إليه عمر فجأة، فإذا شعر الصغير حسنٌ ووجهه حسن فقال: ادّهنت؟ قال: نعم، قال: من أين؟ قال: مما يبقى في هذه القرب، فقال عمر: إني أرى رأسك قد شبع من زيت المسلمين من غير عوَض، لا والله لا يحاسبني الله على ذلك. ثم جره بيده إلى الحلاق وحلق رأسه، خوفًا من قطرة وقطرتين.
7- ومن الخيانة أن يُسنَد عمل إلى غير أهلِه، قال النبي: «من استعمل رجلاً على عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين» (رواه الحاكم [4/ 92-93] وصححه، وفي إسناده حسين بن قيس ضعّفه المنذري في الترغيب [3268]، وضعَّفه الألباني).
فلا يُسند منصب إلا لصاحبه الحقيق به، ولا تُملأ وظيفة إلا بالرجل الذي ترفعه كفايته إليها، فلا اعتبار للمجاملات والمحسوبيات، حتى الصحبة لا ينظر إليها، انظروا كيف راعى النبي ذلك، فحين قال أبو ذر: "يا رسول الله، ألا تستعملني؟!" قال: فضرب يده على مَنْكِبي ثم قال: «يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدَّى الذي عليه فيها» (رواه مسلم [1825]).
8- ومن معاني الخيانة أن يستغل الإنسان ما حباه الله من مواهب خصه بها أو أموال وأولاد رُزقها في معاصيه بدلاً من تسخيرها في قرباته واستخدامها في مرضاته، ولذا عقَّب سبحانه نهيه عن الخيانة بقوله: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال من الآية:28]، ولذا كان من الخيانة تضييع الزوجة والأولاد، فلا يؤدبهم ولا يأمرهم بالمعروف ولا ينهاهم عن المنكر، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
أين الأمانة ممن ينصب في بيته أجهزة الاستقبال الفضائي التي تفسد الشيوخ فضلاً عن الشباب، والتي تبث من البرامج ما يغضب الله عز وجل، ويسعى جاهدًا لنقض عرى الإسلام عروة عروة، وغرس تقاليد الكفار وعاداتهم ومحاربة الفضائل الشرعية؟! أين هذا من أمانة الأولاد؟!
فليتقِ الله من هذا شأنه، ولْينظر إلى حديث رسول الله فيما روى البخاري ومسلم من حديث مَعْقِل بن يَسار أن النبي قال: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت هو غاشٌّ لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة»، وأي غش أيها المسلمون أكبر من نصب الدش في المنزل وجعله متاحًا للقاصرين من الأطفال والنساء والمراهقين؟!
يا حسرة على العرب، اليهود يُعدّون أبناءهم للحرب، والعرب يُرَقِّصُون أبناءهم، فبينما يعلن اليهود عن فتح مكاتب في عدد من البلدان استنفارًا لشبابهم لينقلوهم في جسور جوية إلى فلسطين لتدريبهم على القتال إضافة إلى تدريبهم جميع اليهود المحتلين لفلسطين، وهذا لا شك على أنهم يستعدون لحرب شاملة في المنطقة، يَرُدُّ العرب بترقيص بناتهم وأبنائهم في المسارح والمراقص بقيادة المغنين والمغنيات، ونقل ذلك بدون حياء ولا خجل في فضائياتهم الداخلية والخارجية مباشرة أو تسجيلاً.
9- ومن الخيانة أيضًا عدم حفظ العبد جوارحه وحواسه عن معصية الله تعالى، وجوارحنا أيها المسلمون أمانة، فلسانك -أخي المسلم أختي المسلمة- أمانة، إن حفظته من الكذب والغيبة والنميمة والسخرية بالناس والتجسس عليهم والقذف والفحش واستعملتَه في ذكر الله وتلاوة القرآن وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إن فعلت ذلك فقد أديت أمانة لسانك وجنّبتَ نفسك عذاب الله في الدنيا والآخرة.
وعيناك أمانة عندك، فإن جنبتهما النظر إلى ما حرّم الله واستعملتهما فيما يعود عليك بالنفع فزت دنيا وأخرى.
وأذناك أمانة لديك، فجنبهما الاستماع إلى ما يغضب الله من سماع اللهو والغناء والغيبة والنميمة، واستعملهما في الاستماع إلى الموعظة الحسنة وذكر الله وتلاوة كتابه، إذا فعلت ذلك -أخي المسلم- فقد أديت أمانة أذنيك.
ورجلاك أمانة، فلا تمشِ بهما إلى أماكن اللهو والفسق والفجور وأماكن الظلم والزور والاعتداء والمنكر، وسِرْ بهما إلى صلاة الجماعة في المسجد وصلة الرحم والإصلاح بين الناس وإلى الجهاد في سبيل الله.
ويداك أمانة، فلا تمدَّهما إلى ما يغضب الله، واعمل بهما أعمالاً تعود عليك بالنفع في الدنيا والآخرة.
والبطن أمانة فلا تدخل فيه ما حرّم الله من المال. والفرج أمانة فقد مدح الله الحافظين لفروجهم، وأخبر أنهم مفلحون ومن أهل جنة الفردوس، فقال تعالى من سورة المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5-7] أي: المعتدون.
والمال أمانة، فاحذر أن تبذره وأن تصرفه فيما حرم الله، وأنفقه على المساكين، وأخرج منه الزكاة. وهكذا أيها المسلمون ما وهبنا الله إياه من جوارح وعقل كلها أمانات، «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره: فيم أفناه؟ وعن علمه: فيم فعل فيه؟ وعن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه: فيم أبلاه؟» (أخرجه الترمذي وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وله شواهد كثيرة، وقد صححه الألباني في السلسلة الصحيحة).
10- ومن معاني الخيانة أن لا تحفظ حقوق المجالس التي تحضرها، فتدع لسانك يفشي أسرارها وينشر أخبارها، فكم من حبال تقطعت ومصالح تعطلت لاستهانة بعض الناس بأمانة المجلس، قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو داود عن جابر بن عبد الله: «إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة».
حتى العلاقات الزوجية في نظر الإسلام مجالسها تصان، فما يحوي البيت من شؤون العشرة بين الرجل وامرأته يجب أن يطوى في أستار مسبلة، لا يطلع عليها أحد مهما قرب، روى أحمد في مسنده عن أسماء بنت يزيد أنها كانت عند رسول الله والرجال والنساء قعود عنده، فقال: «لعل رجلاً يقول ما فعل بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها»، فأرم القوم أي: سكتوا وَجِلِيْن، فقلت: إي والله يا رسول الله، إنهم ليفعلون، وإنهن ليفعلن، قال: «فلا تفعلوا، فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانة فغشيها والناس ينظرون» (رواه أحمد [6/ 456-457]، قال الهيثمي في مجمع الزوائد [4/294]: "وفيه شهر بن حوشب، وحديثه حسن، وفيه ضعف" وله شواهد يتقوى بها، انظر: إرواء الغليل [2011]).
11- ومن الخيانة خيانة العالم لعلمه، فالعلم أمانة في عنق العلماء، إن بيَّنوه للناس وصانوه من التحريف والتلاعب كانوا أوفياء لأقدس أمانة، وإن لم يفعلوا كانوا مرتكبين لأبشع صور الخيانة، {وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187].
12- ومن معاني الخيانة خيانة الودائع التي وصى الله بها من فوق سبع سماوات: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء من الآية:58]، ويدخل في ذلك أداء الديون، فالمماطلة بها خيانة. انظروا إلى رسول الله كيف استخلف ابن عمه علي بن أبي طالب ليُسَلم إلى المشركين الودائع التي حفظوها عنده، مع أنهم آذوه واضطروه إلى ترك أرضه، والخيانة متى ظهرت في قوم فقد أذنت عليهم بالخراب، فلا يأمن أحد أحدًا، ويحذر كلُ أحد من الآخر، فلا يأمن صديق صديقه، ولا زوج زوجه، ولا أب ولده، وتترحل الثقة والمودة الصادقة فيما بين الناس، وقد جاء في الآثار: "لا تقوم الساعة حتى لا يأمن المرء جليسه".
موقف المسلم من الخيانة والخونة:
وأما موقف المسلم من الخيانة فأن تُربى القلوب على مخافة الله وخشيته، مرّ عمر يتفقد رعيته ليلاً وإذا به يسمع امرأة تقول لابنة لها: "اخلطي الماء باللبن"، فقالت البنت: "لقد نهانا عمر عن ذلك"، فقالت أمها: "وما يدري عمر؟!" قالت البنت: "إن كان عمر غائبًا فإن ربه حاضر". تقع هذه الكلمة في قلبه، فيجمع وُلدَه ويعزم على أحدهم أن يتزوج هذه الفتاة، فيتزوجها ولده عاصم، فيكون من ولده عمر بن عبد العزيز الذي ملأ الدنيا عدلاً.
أما موقف المسلم الخونة فهو جهادهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة:73]، وقد قدَّمت أن الخائن منافق.
ويدخل في ذلك دخولاً أوليًا عدم ممالأة الخونة أو الدفاع عنهم، {وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء من الآية:105].
ومن لوازم النصر عليهم إصلاح نفوسنا، ففي سورة الإسراء بعد أن ذكر الله سبحانه قصة الإفسادَين لبني إسرائيل عقَّب سبحانه قائلاً: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء من الآية:9]، ويتساءل المفسرون عن العلاقة بين الإفسادين والقرآن هنا، ويجيب بعضهم: إنه لكي تنتصر الأمة الإسلامية على اليهود لا بد أن تعود إلى القرآن، تقرؤَه وتتعلمه وتفهمه وتتدبره وتعمل بما فيه وتتخذه منهاجًا يحكم حياتها، فيفتح القرآن كنوزه لهذه الأمة، فتُهدَى للتي هي أقوم، وتكون جديرة بنصر الله.
فعلينا أولاً: العودة للقرآن الكريم، بأن نحافظ على الورد اليومي للقرآن الكريم، ونحضَّ أزواجنا وأولادنا على ذلك، ونحرص على تحفيظ الأولاد القرآن الكريم، فيخرج جيل قرآني رباني جديد، ونحرص على إحياء مجالس القرآن الكريم في المساجد وتعليمه للناس، والعمل المستمر من أجل أن يُحكَّم فينا هذا القرآن.
وثانيًا: مجاهدة النفس وحملها على الاستقامة، فمعادلة النصر في القرآن هي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، ففي هذه الآية معركتان: المعركة الثانية: {يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ}، هي معركة يدبرها الله ويديرها ويخرج نتائجها، ونتيجتها النصر والتمكين. أما المعركة الأولى: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ}؛ فميدانها النفس البشرية، والذي يدير هذه المعركة هو الفرد نفسه، ويخرج نتائجها بنفسه، والنتيجة هي الاستقامة، فلا نصر ولا تمكين إلا بعد الاستقامة، فعلينا أن نجاهد أنفسَنا ونحملها على الاستقامة ونبعدها عن مواطن المعصية التي تؤخر نصر الله.
ثالثًا: إحياء نفسية المقاومة والجهاد، فينبغي على الأمة لتقوم بواجب النُّصرة أن تكسر تلك القيود النفسية والمادية التي كُبلت بها، وتحطم تلك الأغلال التي تمسك بخناقها وتجعلها أسيرة الذل والهوان السرمدي وتحول بينها وبين سبيل الخلاص، وهذا هو الجهاد، تلك الكلمة التي تنخلع عند سماعها قلوب الأعداء، حينئذ فقط تلوح بوارق النصر، وتهب نسمات الجنة، ويغدو الخروج من تيه الذل والاستعباد رمية حجر، ونعرف معنى الحياة العزيزة التي حُرمنا منها منذ عقود طويلة، حتى غدت حلمًا بعيد المنال وضرباً من ضروب المحُال، وندرك ثاراتنا الجاثمة على قلوبنا جثوم الجبال الرواسي، {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ . وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة:14-15].
وأما غير ذلك فصيحات تتبخّر، وصرخات تتبعثر، لم تكن بالأُولى، ولن تكون الأخيرة، وما هي إلا همهماتُ محموم ونفثات مصدور، سرعان ما يعودُ سيرتَه الأولى، فلا كان ولا صار.
نماذج خالدة للثبات والوفاء ولئن كان في الأمة صور كئيبة من خيانات الخائنين إلا أن في الأمة خيرا كثيرا وصفحات مشرقة يفخر المسلم بها ويفاخر، وهي كثيرة ولله الحمد، ولكن أكتفي بذكر صورتين منها:
1- الصورة الأولى والمشهد الرائع في مواجهة الخيانة هو مشهد الصحابي الجليل كعب بن مالك عندما تخلف عن غزوة تبوك، ولم يجد عذرًا يعتذر به عن تخلفه عن الغزو أمام رسول الله، وقد نهى الرسول المسلمين عن الكلام مع كعب ومرارة بين الربيع وهلال بن أمية، ولبث كعب خمسين يومًا على هذا الحال حتى قال: "تنكرت لي في نفسي الأرض؛ فما هي الأرض التي كنت أعرف"، ثم يقول بعد تلك الأيام وما أشدها على النفس المؤمنة حين يذكر أنه كان يأتي رسول الله فأسلم ويقول في نفسه: أحرَّك رسول الله شفتيه برد السلام عليَّ أم لا؟ حتى جاء يوم فتسور حائط أبي قتادة ابن عمه وأحب الناس إليه، فسلم عليه فلم يرد عليه، فقلت له: أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ وأخذ يكررها مرتين وأبو قتادة ساكت حتى تركه وعينه تفيض من الدمع، وبينما هو على هذا الحال وهو يمشي في سوق المدينة إذا بنبطي من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك، فطفق الناس يشيرون له حتى جاء كعب، فدفع إليه كتابًا من ملك غسان، وكان كعب يجيد القراءة، فوجد في الكتاب: "أما بعد: فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، وإن الله لم يجعلك في دار هوان ولا مضيعة؛ فالحق بنا نواسِك".
قال كعب حين قرأه: وهذا أيضًا من البلاء. وقال: فتيممتُ التنور فسجرته به. ثم لما أتم أربعين ليلة من الخمسين جاءه أمر رسول من رسول الله أن يعتزل امرأته، وكان الأمر يشمل أيضًا الصحابيين الآخرين، فلما أتم الخمسين ليلة جاءه البشير بالفرج من الله والتوبة. وفي كعب وصاحبيه نزل قول الله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إلاَّ إلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:118].
إن قصة كعب مثلٌ عظيم لمن تتزلزل قلوبهم في المحن ويخونون الصف المسلم طمعًا في متاع الدنيا الزائل، وقد كثر هؤلاء لكثرة المحن التي تمر بها الأمة الإسلامية.
2- الصورة المشرفة الثانية هي للسلطان عبد الحميد آخر خلفاء الدولة العثمانية المسلمة. فقد شهدت أيامه محنًا واضطرابات وضعفًا وديونًا في غمرة أحداث كثيرة كانت تصب في ضعف الخلافة حتى سُمّيت بـ"الرجل المريض". قام اليهود بمحاولة خسيسة مع السلطان، فأوفدوا إليه الثري اليهودي "قرّه صو"، وفي المقابلة قال "قره صو" للسلطان: "إني قادم مندوبًا عن الجمعية الماسونية لتكليف جلالتكم بأن تقبلوا خمسة ملايين ليرة ذهبية هدية لخزينتكم الخاصة ومائة مليون كقرض لخزينة الدولة بلا فائدة لمدة مائة سنة على أن تسمحوا لنا ببعض الامتيازات في فلسطين".
فما أن أتم "قره صو" كلامه حتى نظر السلطان عبد الحميد إلى مرافقه بغضب، وقال له: هل كنت تعلم ماذا يريد هذا الخنزير؟ فارتمى المرافق على قدمي السلطان مقسمًا بعدم علمه، فالتفت السلطان إلى "قره صو" وقال له: "اخرج من وجهي يا سافل"، فأرسل إليه "قره صو" برقية تضمنت أن رفضك سيكلفك ممتلكاتك أنت شخصيًا.
لم يهتز السلطان عبد الحميد، ولقد حاول اليهود مرة ثانية عن طريق "هرتزل" اليهودي الذي حاول رشوة السلطان مقابل امتيازات لليهود في فلسطين، فرفض السلطان في إباء وشموخ وعزة وكبرياء ندر أن نجدها في هذا الزمان، ولقد كتب "هرتزل" الموقف في مذكراته فقال: "ونصحني السلطان عبد الحميد أن لا أتخذ أية خطوة أخرى في هذا السبيل؛ لأنه لا يستطيع أن يتخلى عن شبر واحد من أرض فلسطين؛ إذ هي ليست ملكًا له؛ بل هي لأمته الإسلامية التي قاتلت من أجلها وروت التربة بدماء أبنائها، كما نصحني أن يحتفظ اليهود بملايينهم، وقال: إذا تجزأت إمبراطوريتي يومًا ما فإنكم قد تأخذونها بلا ثمن، أمَّا وأنا حي فإن عمل المبضع في بدني لأهون عليَّ من أن أرى فلسطين قد بُترت من إمبراطوريتي، وهذا أمر لا يكون".
ولقد حاول اليهود مرة أخرى عن طريق حزب الاتحاد والترقي "يهود الدونمة"، وقد ذكر السلطان تلك المحاولة في رسالة هامة لشيخه في مذكرات نسردها للعظة والتأمل والاستفادة التاريخية. يقول السلطان: "إن هؤلاء الاتحاديين قد أصروا عليَّ بأن أصادق على وطن قومي لليهود في الأرض المقدسة "فلسطين"، ورغم إصرارهم فلم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف، وأخيرًا وعدوا بتقديم مائة وخمسين مليون ليرة ذهبية إنجليزية، فرفضت هذا التكليف بصورة قطعية أيضًا، وأجبتهم بهذا الجواب القطعي الآتي: إنكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهبًا فلن أقبل بتكليفكم هذا بوجه قطعيًا؛ فقد خدمت الأمة الإسلامية والأمة المحمدية ما يزيد على ثلاثين سنة، فلم أسوِّد صحائف المسلمين آبائي وأجدادي من السلاطين والخلفاء العثمانيين؛ لهذا لن أقبل بتكليفكم بوجه قطعي أبدًا، وبعد جوابي القطعي اتفقوا على خلعي، وأبلغوني أنهم سيبعدونني إلى سلانيك، فقبلت بهذا التكليف الأخير هذا، وحمدت المولى وأحمده أنني لم أقبل أن ألطِّخ الدولة العثمانية </stron