الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الحمد لله الذي قال في كتابه العزيز ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ [آل عمران: 110]، أحمده سبحانه وأشكره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله..
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى أصحابه، أما بعد:
فيا عباد الله، أوصيكم وإياي بتقوى الله تعالى، عباد الله، وصف الله هذه الأمة في كتابه المبين أنها خير الأمم التي أخرجت للناس، وقيد هذه الخيرية بأمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فإذا تركت هذه الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أضاعت نصيبها من هذه الخيرية، قال ابن كثير - رحمه الله - عند تفسير هذه الآية: روى البخاري في صحيحه بسنده إلى أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كنتم خير أمة أخرجت للناس أي خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام. وقال ابن عباس ومجاهد وعطية العوفي وعكرمة وعطاء والربيع بن أنس: كنتم خير أمة أخرجت للناس يعني خير الناس للناس، والمعنى أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس لأنهم يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر.
عباد الله وصفكم الله بهذه الخيرية وفرطتم فيها بتساهلكم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أمركم الله بالتعاون على البر والتقوى فتناسيتم أمره، فظهرت المعاصي في مجتمعكم وألفها السواد الأعظم منكم، وأخلدتم إلى المداهنة في الإنكار، فكأن المخاطب بزواجر القرآن والسنة غيركم. يقول تبارك وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ﴾ [محمد: 33] هذا أمر من الله - جل وعلا - لجميع المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله، وأعظم أمر: الأمر بالصلاة: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [النور: 56] كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر).
وروي عنه - صلى الله عليه وسلم -: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد). ومع هذا أصبح ترك الصلاة مع جماعة المسلمين كأنه شيء طبيعي، وكأنه غير منكر، فأين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
يا أمة محمد، نبيكم - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)، ويا ليتنا نأمر أنفسنا وأولادنا بطاعة الله، فإننا لو أصلح كل واحد منا نفسه ومن تحت يده لصلح مجتمعنا كله، ولكن ضيعنا أنفسنا وتركنا واجبنا حتى عم البلاء وعظمت المصيبة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، أقفرت مساجدنا من أبنائنا، والربا يتعامل به في أموالنا، والغش والخداع أصبح لب معاملاتنا، والرشوة والخيانة والكذب ديدن غالب أمتنا، وتعاطي المسكرات والمفترات تلبس به الكثير من سفهائنا، وحلق اللحى وتطويل شعور الرؤوس وما يسمى بالخنافس وجر الثياب والتختم بالذهب تفشى في معظم شبابنا، وتبرج النساء ظاهر، كل هذا مشاهد ولا تسمع آمرًا ولا ناهيًا إلا ما شاء الله، فلا حول ولا قوة إلا بالله. يقول بعض الحكماء: إذا كثر الإمساس تبلد الإحساس واستحسنت القبائح وما نفعت المواعظ والنصائح. ويقول آخر: إذا كثر التلبس بالمحظورات قل الإحساس بها وعدم استنكارها، وعند ذلك تستحسن القبائح من الأفعال، فإذا استحسنت لدى سواد الناس ما نفعتهم المواعظ والنصائح، أي لا تؤثر فيهم ولا يبالون بها، وعند ذلك يكون شأن العقلاء منهم التلاوم والتحسر وتوقع حلول مقت الله بهم، يقول - صلى الله عليه وسلم - (لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم) أي حتى يتيقنوا ويعترفوا أنهم مستوجبون للهلاك، يقول تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 25].
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي وفق أولياءه للعمل بما يحبه ويرضاه، وحقق على أهل معصيته ما قدره عليهم وقضاه، الناصر لمن ينصره من أهل طاعته وتقواه، الذين يغضبون لغضبه ويرضون لرضاه أحمده - سبحانه - على سوابغ نعمه وجزيل بره وآلاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من عرف الله ولم يعادل أحدًا سواه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي اصطفاه واجتباه، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن نصره وآواه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد.
عباد الله إن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معصية لله ورسوله وسبب لكل بلاء، حيث تظهر المعاصي إذا لم يكن هناك رادع ووازع، والمعصية إذا ظهرت عم ذنبها وشؤمها العامة، وإذا خفيت لم تضر إلا فاعلها.
وإذا ظهرت المعاصي في أمة طيع الله على قلوبها، روى ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الطابع معلقة بقاعة عرش الرحمن فإن انتهكت الحرمة وعمل بالمعاصي واجترئ على الله بعث الله الطابع فيطبع على قلوبهم فلا يعقلن بعد ذلك شيئًا"[1]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (والذي نفس محمد بيده ليبيتن ناس من أمتي على أشر وبطر ولعب ولهو فيصبحوا قردة وخنازير باستحلالهم المحارم والقينات وشربهم الخمر وأكلهم الربا ولبسهم الحرير)[2]. ويقول - صلى الله عليه وسلم - (إن الناس إذا رأوا المنكر لا يغيرونه أوشك أن يعمهم الله بعقابه)[3]. ويقول - صلى الله عليه وسلم -: (يا أيها الناس أن الله تبارك وتعالى يقول لكم مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أستجيب لكم وتسألوني فلا أعطيكم وتستنصروني فلا أنصركم)[4]، فيا أمة محمد، أمركم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تبادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم يرقق بعضها بعضًا، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا يبيع دينه بعرض من الدنيا.
ومن هذه الفتن التي حذر منها المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الملاهي وهذه الآلات التي جلبت كل أنواع البلاء من الغناء والصور الخليعة والكذب والزور وتدريس النشء كل خلق ذميم، أذهبت الأوقات، وصدت عن ذكر الله، وعن الصلاة وقضت على الأخلاق وفتحت أبواب الشرور بأنواعها، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، علمت الخيانة والاختلاس، والسفور والتبرج، وعدم المبالاة في الخروج على تعاليم الإسلام، غزا بها أعداء الله أمة الإسلام فكانت وللأسف أروج بضاعة، وتغلغلت في البيوت وألهت الكبير والصغير وصعب التخلص منها إلا على ذوي الألباب والبصائر النافذة الذين امتلأت قلوبهم من خشية الله وتروت من معين كتاب الله وسنة رسوله ونبتت لحومهم ونمت عظامهم على طيب الحلال، فهم ينظرون بنور الله ويهتدون بسنة رسول الله فهؤلاء هم المتقون، لم يشغلهم عن طاعة الله أهل ولا مال، فضلًا عن الملاهي والمغريات وما يصد عن ذكر الله من المخدرات والمفترات، عرفوا الدنيا فاكتفوا منها بالقليل وعبروها للآخرة كعابري سبيل، وانتقلوا منها بذكر جميل، أما الذين أشربت قلوبهم حبها، وكان همهم التلذذ بطيب عيشها، وقطعوها في شهواتهم وما تدعوهم أنفسهم إليه لا يقفون على حد من الحلال أو الحرام فإنه يخشى عليهم أن يكونوا من الذين قال الله فيهم: ﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ﴾ [الأحقاف: 20].
والحمد لله رب العالمين
[1] الترغيب ج:3 ص: 171170/ (3535) وقال رواه البزار والبيهقي واللفظ له، وإسناده ضعيف جدًا (مجمع الزوائد 7/ 269).
[2] مسند الإمام أحمد (22842).
[3] المعجم الأوسط (7661).
[4] صحيح أبن حبان ج: 1 ص: 526/290.
ــــــــــــــــــــــــ
الالوكه