كلمةٌ في التبَرُّك
التبَرُّك هو طلب البَرَكَة ورجاؤها، والبَرَكَة هي النماء والزيادة وكثرة الخير.
والتبَرُّك المشروع هو طلبُ البَرَكَة ورجاؤها من الله تعالى وَحْدَه حَسَب مُقتضَى السنة والدليل، فلا بد من استصحاب الأصليْنِ الكبيريْنِ: ألَّا نعبدَ إلا اللهَ تعالى، والآخر ألَّا نعبدَه إلا بما شرَع، فالبَرَكَة من الله تعالى وحده، فتُطلب منه سبحانه، فيرجو ويعتقد أنها من عنده عزَّ وجل.
ثم إن البَرَكَة المطلوبة إنما تكون وَفْقَ مقتضَى الشرع، فبركة المصحف مثلاً تُنال بتدبُّره واتباعه، وليس بتعليقه أو تزويقه وزخرفته، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29].
وبالجملة فالتبَرُّكُ المشروع إنما هو بالعلم النافع والعمل الصالح مما يظهَر أثَرُه ويعمُّ نفعه ويعظُم أجرُه.
ومن ذلك ما جاء في حديث ابنِ عمر - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ لَمَا بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ المُسْلِمِ... هِيَ النَّخْلَةُ»[1].
قال الحافظ ابن حجر: (وَبَرَكَةُ النَّخْلَةِ مَوْجُودَةٌ فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهَا مُسْتَمِرَّةٌ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهَا.. وَكَذَلِكَ بَرَكَةُ الْمُسْلِمِ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَنَفْعُهُ مُسْتَمِرٌّ لَهُ وَلِغَيْرِهِ حَتَّى بَعْدَ مَوْتِهِ)[2].
وقال بعضُهم في تفسير قوله تعالى عن المسيح - عليه السلام -: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} [مريم: 31]، أي: مذكِّراً باللهِ داعياً إلى سبيله[3].
وسلَفُنا الصالح كلامُهم قليل، لكنه كثيرُ البَرَكَة، وكلام المتأخِّرين كثيرٌ لكنه قليل البركة.
والحاصلُ أنَّ تحقيق التبَرُّك المشروع والقيام به علماً وعملاً يمنع من الوقوع في التبَرُّك الممنوع، والنفوس خُلقت لتعمل لا لتترك، والإنسان حارِثٌ هَمَّامٌ لا يَنفَكُّ عن الإرادة والنية والسَّعْيِ والحركة، فإذا اشتغلت النفوسُ بالتبَرُّك المشروع عزَفَتْ عن التبَرُّك الممنوع.
فعلينا أن نُعْنَى بإظهار السُّنَنِ والشرائع والحثِّ على لزومها، فهي بمنزلة الغذاء النافع، وفيها من البركات ما لا يُحصى، كما هو ظاهر في بركات التعلُّق بالله تعالى والإنابة إليه، وبركة الاتباع والاعتصام بنصوص الوحييْنِ، وبركة تدبُّرِ القرآن والعمل به، وبركة الدعوة إلى الله تعالى والاحتساب، وبركة الصدقة والإحسان إلى الخَلْقِ، وبركة الكَسْب الحلال...إلخ.
والعُزوف عن التبَرُّك المشروع يوقِع في التبَرُّك الممنوع، كما أن الإعراض عن الأغذية النافعة المفيدة يؤدِّي إلى الأغذية الضارَّة.
يقول ابنُ تيمية: (وَهَكَذَا أَهْلُ الْبِدَعِ لَا تَجِدُ أَحَدًا تَرَكَ بَعْضَ السُّنَّةِ الَّتِي يَجِبُ التَّصْدِيقُ بِهَا وَالْعَمَلُ إلَّا وَقَعَ فِي بِدْعَةٍ وَلَا تَجِدُ صَاحِبَ بِدْعَةٍ إلَّا تَرَكَ شَيْئًا مِنْ السُّنَّةِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: (مَا ابْتَدَعَ قَوْمٌ بِدْعَةً إلَّا تَرَكُوا مِنْ السُّنَّةِ مِثْلَهَا)[4].. وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَفْعَلِ الْمَأْمُورَ فَعَلَ بَعْضَ الْمَحْظُورِ، وَمَنْ فَعَلَ الْمَحْظُورَ لَمْ يَفْعَلْ جَمِيعَ الْمَأْمُورِ...)[5].
وهذه من السُّنَنِ الإلهية أنَّ كل مَن أعرَض عن شيءٍ مِن الحق وَقَعَ في باطلٍ مقابلٍ لما أعرَضَ عنه من الحقِّ[6].
إضافةً إلى أن أهواء النفوس وحظوظها تَستروِحُ للجديد والمُحْدَثِ وتتنصَّل من تكاليف الشرع كما قال الشاطبي: (فَإِنَّ النُّفُوسَ قَدْ تَمَلُّ وَتَسْأَمُ مِنَ الدَّوَامِ عَلَى الْعِبَادَاتِ الْمُرَتَّبَةِ، فَإِذَا جُدِّدَ لَهَا أَمْرٌ لَا تَعْهَدُهُ، حَصَلَ بِهَا نَشَاطٌ آخَرُ... فلِكُلِّ جَدِيدٍ لَذَّةٌ)[7].
ويبقى لزوم الشرع هو بمنزلة سفينة نوح مَن ركِبها نجا، ومَن تخلَّف عنها هلك، واقتصادٌ في سنة خيرٌ من اجتهاد في بدعة.
والمقصود أن أعظم سبيل لرفع التبَرُّك البِدْعِيِّ ودفعه إنما هو بإحياء التبَرُّك الشرعي ومجالاته، وإبرازه وَفْقَ الأدلة الشرعية، وترويض النفس على لزوم الهُدَى ومجانبة الهوى.. وبالله التوفيق.
:: مجلة البيان العدد 309 جمادى الأولى 1434هـ، مارس - إبريل 2013م.
[1] أخرجه البخاري برقم (5444).
[2] الفتح (1/145، 146).
[3] انظر الدرر السنية (11/85 ).
[4] أخرجه أحمد في المسند (16970)، ط الرسالة، وقال الأرناؤوط: إسناده ضعيف، وضعَّفه الألباني في السلسلة الضعيفة(6707).
[5] مجموع الفتاوى (7/173).
[6] ينظر: مدارج السالكين (1/165)، وتفسير السعدي (1/18).
[7] الاعتصام (1/41).