فر من المجذوم فرارك من الأسد

 

 

نقرأ في السنة المشرفة أحاديث نبوية كثيرة عن العدوى منها:

ما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يوردن ممرض على مصح)، وحديث آخر أخرجه الترمذي عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل مع مريض بالجذام في قصعة واحدة، وقال: (كل ثقة بالله وتوكلاً عليه)، وحديث آخر أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه ينفي وجود العدوى ويثبتها في عبارة واحدة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، وفر من المجذوم فرارك من الأسد )...

هذه الأحاديث المشرفة قد ثبتت صحتها... وثبت صدورها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الأمر الذي أثار جدلاً كثيراً في الماضي، كما يثير جدلاً أيضاً في العصر الحالي، وحيرة لدى بعض الناس.. فالذي لا يتدبر الأحاديث النبوية المشرفة، وبالتالي لا يفهم مغزاها العلمي، يظن أن بها تعارضاً... فالحديث الأول يحذر من العدوى من مريض، والحديث الثاني لا يقر بحدوث العدوى، والحديث الثالث ينفي حدوث العدوى ويثبت حدوثها في عبارة واحدة ! لذلك قالوا: ما دام بالأحاديث النبوية عن العدوى تعارضاً، فهي ليست وحياً من الله تعالى لرسوله... وإنما هي اجتهاد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بصفته بشراً... وتصدى من العلماء ما وضع رأيه – ورأى غير من العلماء – مثل ابن خلدون من القدامى وعفيفي طبارة من المحدثين... وأمثاله العشرات من العلماء في عصرنا هذا، ممن لهم نفس الرأي ونفس الاعتقاد.. وفهموا جميعاً أن الأحاديث النبوية عن العدوى اجتهاد من الرسول صلى الله عليه وسلم وليس وحياً من الله تعالى له، وبالتالي فهي تتعرض للخطأ. وقال ابن خلدون في مقدمة كتابه:(إن الطب المنقول في الشرعيات ليس من الوحي في شيء، وإنما هو أمر كان عادياً للعرب ووقع في ذكر أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل به.. فإنه صلى الله عليه وسلم إنما بعث ليعلمنا الشرائع، ولم يبعث ليعلمنا الطب ولا غيره من العاديات. وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع، فقال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم )، فلا ينبغي أن يحمل شيء في الطب الذي ورد في الأحاديث النبوية المنقولة على أنه مشروع، فليس هناك ما يدل عليه، اللهم إلا إذا استعمل على جهة التبرك).

وقد نقل كثير من العلماء في عصرنا الحالي، عن ابن خلدون ومن وافقه من العلماء، واعتقدوا أن ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث العدوى وتأبير النخل وما إليها من أمور الدنيا، هو اجتهاد ظني منه كبشر، وليس وحياً من الله له... وفي رأينا أنهم مخطؤون في ذلك خطأ عظيماً، فهم قد جعلوا علمهم الناقص حكماً على الحق المطلق في الأحاديث النبوية.. وما ينبغي قط أن يكون العلم الناقص حكماً على علم كامل... وأخطئوا أيضاً في فهمهم للأحاديث النبوية عن العدوى وعن تأبير النخل، وما علموا أنها حق مطلق، وعلم صادق ما كانوا يعلمون عنه شيئاً.. وما ظن الرسول ظناً، وإنما تحدث وحياً من الله عز وجل.

وسنناقش هذه الأحاديث المشرفة مناقشة علمية وبأدلة علمية ما كان يعلمها ابن خلدون ومن وافقه من العلماء القدامى والمحدثين... حتى يصلوا إلى فهم صحيح لتلك الأحاديث المشرفة، ويتخلوا عن مفاهيمهم الخاطئة عن الأحاديث التي تتحدث في أمور الدنيا... وحتى يعلموا – وعن يقين – أنها وحي من الله عز وجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

لذلك كان لا بد لنا من أن نتحدث عن الشوائب التي فهمها بعض العلماء خطأ وهي:

1- أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق إلا وحياً.

2- حادث تأبير النخل.

3- حادث آبار بدر.

4- حادث أسرى بدر.

وحديثنا عن هذه الثوابت الأربعة لن تخرجنا عن موضوع المقال الحالي، لأننا سنثبت فيها بالدليل العلمي الأكيد أن ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث العدوى حق وصدق ويقين، وأن العلماء السابقين والمحدثين لم يفهموا قط مغزاها العلمي العظيم... وأنه لا تعارض بينها قط، وإنما هي أحاديث مؤسسة على حقائق علمية ثابتة لم يستطع العلماء أن يصلوا إلى فهمها إلا في العصر العلمي الحالي... وكان أولى بهم أن يسكتوا عما لا علم لهم به... وألا يدلوا بدلوهم في ميدان من العلم لا ناقة لهم فيه ولا جمل... وإنه من الثابت واليقين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم معلم الأمة... وهو الذي ينزل عليه الوحي، ويعلم الناس أمور دينهم وأمور دنياهم، ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون.

العدوى:

العدوى هي انتقال مسبب المرض، من فيروس أو بكتيريا أو طفيل، من مريض إلى سليم، فيحدث فيه نفس المرض.. ولم تكن العدوى بالأمراض معروفة من قبل عصر العلم الحالي، لأن مسببات الأمراض المعدية لا ترى بالعين المجردة قط.. ولكنها ترى بالميكروسكوب الذي لم يستخدم في هذه الأغراض إلا في القرن الثامن عشر وما بعده... الميكروبات والطفيليات تشاهد بواسطة الميكروسكوب العادي، أما الفيروسات فلا ترى إلا بالميكروسكوب الإليكتروني الذي يكبر المرئيات آلاف المرات..

والأمراض تصيب الإنسان، منها ما هو غير معد، ومنها ما هو معدي.

والأمراض غير المعدية:

كثيرة جداً ولا يمكن أن نحصرها جميعاً، وهي أمراض تصيب جسم الإنسان، ولكنها لا تنتقل من المريض إلى السليم، ومثال ذلك مرض هبوط القلب وأمراض شرايين القلب، وارتفاع ضغط الدم، ومرض السكر.. وأمراض ناتجة عن اضطرابات الغدد الصماء... والأمراض الوراثية التي لا حصر لها، والأمراض التي تسبب عيوباً خلقية، وأمراض الأورام الحميدة والأورام الخبيثة.. وما إلى ذلك من أمراض لا تعدى.. فهي لا تنتقل من إنسان مريض بها إلى إنسان سليم فيصاب بها.

أما الأمراض المعدية:

فهي التي فيها ينتقل مسبب المرض من المريض إلى السليم فيعديه فيصاب بنفس المرض، وتنتقل مسببات الأمراض المعدية بطرق العدوى المختلفة الآتية:

‌أ- بواسطة الرذاذ: الذي يخرج من الجهاز التنفسي محملاً بالجراثيم الضارة، بواسطة السعال أو العطاس أو هواء الزفير، فالهواء الخارج من الجهاز التنفسي قد يحمل جراثيم الأمراض أو فيروساتها من إنسان مريض إلى إنسان سليم فيعديه.. مثال ذلك: الأنفلونزا، الدفتريا، السل الرئوي والحمى الشوكية الوبائية.

‌ب-عن طريق الفم: (في الطعام أو الشراب الملوث بأحد مسببات المرض المعدي )، مثل الأمراض الطفيلية بالجهاز الهضمي، كالديدان المعوية، وبعض أنواع الالتهاب الكبدي الفيروسي، والتهاب القولون الأمبي، والديدان الشريطية والحلزونية والخيطية بأنواعها المختلفة... والأمراض البكتيرية المعوية، مثل: الدوسنتاريا الباسيلية والكوليرا، والتيفويد، وغير ذلك.

‌ج- عن طريق الاتصال الجنسي: مثل أمراض السيلان، والزهري، والإيدز، والأمراض الجنسية الأخرى.

‌د- عن طريق ملامسة الجلد: مثل أمراض الجذام، والجرب، وغيرها.

‌ه- عن طريق نقل الدم: مثل الإيدز، والزهري، وبعض أنواع الالتهاب الكبدي الفيروسي.

‌و- بواسطة وخز الحشرات: مثل البعوض ناقل الملاريا، والبعوض ناقل الفيلاريا، والحمى الصفراء، وذبابة تسي تسي الناقلة لمرض النوم، ومثل القمل الناقل للتيفوس والحمى الراجعة، ومثل البراغيث الناقلة للطاعون.

ما هي الفيروسات:

إنها كائنات صغيرة الحجم جداً، لا ترى بالميكروسكوب العادي، إلا أنها ترى بالميكروسكوب الإلكتروني الذي يكبر الصورة آلاف المرات... وهي

آلاف الأنواع.. وهي ليست خلايا بها أنوية، وتتكاثر بطريقة عجيبة، وهي أنها تدخل في الخلايا الحية وتتكاثر داخلها بالعشرات والمئات فتموت الخلية الحية وتنطلق منها الفيروسات بالعشرات والمئات لتدخل كل منها خلية حية أخرى، وهكذا... وتختلف الفيروسات عن جميع الكائنات الحية في كل شيء... فهي مكونة من حامض نووي واحد... بينما خلايا جميع الكائنات الحية بها حامضان نوويان المعروفان DNA , RNA.

ومن الأمراض التي تنقلها الفيروسات من المريض إلى السليم، الإنفلونزا ونزلات البرد وشلل الأطفال والتهاب الغدة النكفية، والحصبة، والجدري، والجديري، والتهاب الكبد الفيروسي، والحمى الصفراء.

ما هي البكتريا:

هي خلايا صغيرة الحجم جداً لا ترى إلا بالميكروسكوب.. وتنمو وتتغذى وتتكاثر وتتنفس، وبها الحامضان النوويان DNA , RNA... ويمكن للبكتريات أن تعيش مستقلة وتنتقل من مريض إلى سليم فتعديه... ومن الميكروبات ما هو نافع ن ومنها ما هو مضر، ومن الميكروبات النافعة التي تحول الحليب إلى لبن رائب وجبن.. ومنها التي تتعلق بجذور النباتات وتمدها بالنيتروجين.. ومن البكتريا التي تعيش في الأمعاء وتساعد على هضم المواد الغذائية، ومنها التي تعمل على تكوين فيتامين ب المركب.. ومنها ما يتعايش مع بكتريا أخرى على سطح الجلد، وتعيش آلاف الملايين من البكتريا في فم الإنسان، وعلى جلده، وأنفه، وفي أمعائه، دون أن تحدث ضرراً، ومن الميكروبات الضارة ما تنقل الأمراض إلى الجسم كالكوليرا والسل والدفتريا والتيفوس... وغيرها من الأمراض المعدية البكتيرية.

ومن العجيب في الفيروسات والبكتريا التي تصيب الإنسان بشتى الأمراض، أنها أحياناً تكون وديعة وحميدة لا تسبب مرضاً للجسم الذي يحملها.. وتظل ساكنة فيه بينما يكون الجسم الحامل لها لا يشتكي شيئاً.. بل إن بعض الكائنات الضارة بالإنسان قد تصير كائنات تدفع عن الإنسان المرض.. وفي أحيان أخرى تسبب له مرضاً شديداً، وسوف نتحدث عن ذلك فيما بعد.. وقد تتعامل الجرثومة الواحدة مع الناس تعاملاً مختلفاً... فتتعامل مع بعض الناس في شدة وبطش وعدوان... وهي نفسها تتعامل مع بعض الناس الآخرون في سلام ووئام، ومثال ذلك أن بكتريات الحمى الشوكية الربانية من طبيعتها شدة العدوان والضرر، فهي تنتقل من المريض إلى السليم عن طريق الرذاذ الخارج من الفم والأنف، ، فتسبب له مرضاً وبيلاً كثيراً ما يؤدي إلى وفاته... ونفس هذه البكتريا العدوانية للإنسان.. قد تصل إلى إنسان آخر أو إلى ناس آخرين فتكون مسالمة فلا تسبب مرضاً.. وفي بعض أوبئة هذا المرض.. يهاجم الميكروب الآلاف من الناس إلا أن 5-10% منهم تظهر عليهم أعراض المرض، أما 90-95% منهم فلا تظهر عليهم أي أعراض مرضية.. ويظل كل منهم حاملاً للمرض.. والأمر نفسه في التيفويد، فبعض الناس يصابون به إلا أن نسبة منهم تظهر عليهم أعراض المرض ونسبة أخرى منهم يسكن الميكروب في أجسامهم، وخاصة في الكيس المراري، دون أن يحدث للجسم مرضاً، إلا أنه يصير مصدراً لعدوى المرض للغير.. فنفس الميكروب قد يعيش في سلام مع أجسام، وهو نفسه قد يكشر عن أنيابه ويصير شديد الشراسة في أجسام أخرى.

ما السبب في هذه الظاهرة في كل من الفيروسات والبكتريا ؟

الإجابة عن هذا السؤال ليست سهلة، حتى لدى العلماء المتخصصين، وقد تفسر على تفاوت المناعة من شخص لآخر.. أو على اختلاف قوة خطوط الدفاع في جسم عن قوتها في جسم آخر... وقد تفسر على اختلاف يحدث لطبيعة الميكروب نفسه.. والأمر ليس بهذه البساطة.. ولكن الحقائق العلمية التي تتحدث عن هذه الظاهرة في العلاقة بين الفيروس والميكروب من جهة، والإنسان من جهة أخرى، هي حقائق في منتهى الدقة والتعقيد.. إلا أن للنتيجة النهائية أن هناك أسراراً في هذه العلاقة لا يعلمها إلا الخالق عز وجل... فالميكروبات لا تدرك ولا تعقل.. وأجهزة المناعة في جسم الإنسان لا تدرك ولا تعقل هي الأخرى.. ولكن التعامل بين البكتريات والأجسام قائم على الفطرة التي فطر الله تعالى كلا من البكتريا والأجسام عليها...

وتبقى حلقة مفقودة في علم الإنسان، وهي السر الحقيقي في تغيير هذا التعامل فيكون مرضاً حيناً أو لا يكون مرضاً حيناً آخر.. إلا أن هذه الحلقة لم تعد مجهولة لمن يتدبر الأحاديث النبوية عن العدوى، فيدرك أن الأمر أولاً وأخيراً معلق بإرادة الخالق عز وجل الذي بيده الخلق والأمر.. الذي بيده الأسباب ونتائجها جميعاً.. إن شاء عطل الأسباب فظلت النتائج بدون أسباب.. وإن شاء عطل النتائج فظلت الأسباب بدون نتائج.. وإن شاء عطل كلاً من الأسباب والنتائج فلا يكون لها أثر ولا تأثير.. ؟ وعكف العلماء على تفسير ما يحدث أمامهم من أمور.. ويخرجون بتفاسير كثيرة، إلا أن السر الحقيقي لا يزال بعيداً عن إدراكهم.. ويستقل الله تعالى بالعلم به.

التفسير العلمي لأحاديث العدوى:

ما ترك الوحي الإلهي في القرآن والحديث النبوي أمراً من أمور الدنيا والآخرة إلا أخبرنا به، وبين لنا الطريق الصحيح والمنهج القويم، كما قال الله عز وجل: { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } [الأنعام: 38]، وكما قال تعالى: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [النحل: 89]، وأرسل الله عز وجل رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليبلغ الرسالة، وينصح الأمة، ويعلم الناس من أمور دينهم ودنياهم ما لم يكونوا يعلمون... كما قال الله عز وجل: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } [البقرة: 151].

ويعلّم رسول الله الأمة الكثير من أمور حياة الناس، في مأكلهم ومشربهم ونومهم ويقظتهم.. ويعلم الناس كيف يتصرفون في كل أمر من أمورهم في الدنيا التصرف الصحيح، وحتى العدوى من الأمراض، تعلمنا السنة النبوية المشرفة كيف نتفاداها.. كما تعلمنا الأسرار الحقيقة وراء العدوى من الأمراض.. تلك الأسرار التي لم يدركها كثير من الناس، فقد روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يوردن ممرض على مصح )، أي لا يدخل إنسان مريض بمرض معدي على إنسان سليم فيسبب له العدوى بالمرض.

وفي حديث آخر رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، وفر من المجذوم فرارك من الأسد )، ففي أول الحديث نفي لوجود العدوى، وفي آخر الحديث إثبات لها وأمر بتجنبها والفرار منها !!.

وأخرج الترمذي عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل مع المجذوم في قصعة واحدة قال: (كُلْ ثقة بالله وتوكلاً عليه)، والحديث الشريف يدل على أن في الأكل مع المجذوم في قصعة واحدة خطر ما، إلا أن التوكل على الله والثقة في رحمته يمنعان ذلك الخطر، وفي حديث آخر رفض أن يسلم على مجذوم من ثقيف، وقال له (إنا قد بايعناك فارجع )، وقد ظن كثير من العلماء بوجود تعارضن فيما بين تلك الأحاديث المشرفة عن العدوى، كما تحدثنا من قبل... وحتى الإمام ابن القيم الذي لم يوافقهم على ذلك (3)، وعن بعض الأسرار العلمية للعدوى سيكون حديثنا في الصفحات التالية:

يعيش جسم الإنسان في محيط مليء بالجراثيم التي تسبب الأمراض.. فهي في طعامه وشرابه، وهي في الهواء الذي يستنشقه أيضاً.. وما دام الأمر كذلك فما الذي يحفظ الجسم ويمنع العدوى عنه في كثير من الأحيان ؟.. أنها من الناحية العلمية خطوط الدفاع في الجسم وجها المناعة فيه.. فكيف يحدث ذلك ؟

أولاً: الجلد:خط الدفاع الأول، فهو يفرز سوائل حمضية تعمل على قتل ما يقع على الجلد من الجراثيم.

ثانياً: تدخل الجراثيم الجهاز التنفسي مع هواء الشهيق.. فتقابلها في الرئتين خطوط دفاع قوية، وتعمل على القضاء عليها، فتوجد مواد كيميائية قاتلة للجراثيم على الأغشية المبطنة للشعبيات الهوائية، كما توجد سوائل مخاطية تجمع تلك الجراثيم.. ومن ثم تطرد إلى الخارج بواسطة أهداب متحركة على طول الشعيبات، والسعال عامل فعال لنظافة الشعبيات الهوائية من كل جسم غريب يكون فيها.. فالسعال إذن أحد خطوط الدفاع الهامة في الجهاز التنفسي.. فإذا خرجت الميكروبات الضارة من إنسان مريض ودخلت إلى الجهاز التنفسي لإنسان سليم... فهذه عدوى.. ولكن خطوط الدفاع في جسم الإنسان السليم تجعل هذه العدوى في كثير من الأحوال وكأنها لا عدوى.. أو كأن لم تكن.

ثالثاً: تصل الميكروبات الضارة مع الطعام والشرابإلى معدة الإنسان، فهذه عدوى.. ولكن الوسط الحامضي للمعدة يعمل على قتل الغالبية العظمى من تلك الجراثيم.. فتصير العدوى لا عدوى.

رابعاً: توجد في الجسم خلايا تجوب الدم، كالحراس، وما أن تقابل ميكروباً إلا وتلتهمه.. كما توجد خلايا ملتهمة ثابتة في جدران الأوعية الدموية في العقد الليمفاوية والكبد والطحال، ما أن يمر أي ميكروب بالدم هناك حتى تلتقطه تلك الخلايا وتلتهمه التهاماً.. فكثير من حالات العدوى تصير كأن لم تكن.

خامساً: جهاز المناعة بالجسم: هو جهاز في منتهى الدقة وغاية الإحكام يعمل على قتل الجراثيم التي تهاجم الجسم وتغزوه، وقد تغلبت على كل خطوط الدفاع التي ذكرناها من قبل.. هنالك يتصدى جهاز المناعة لتلك الجراثيم الغازية وتحاول قتلها.. ويفرز جهاز المناعة مواداً مضادة لتلك الميكروبات (Antibodies) وتظل في الدم فما أن تدخل تلك الميكروبات الجسم، في أي وقت بعد ذلك في المستقبل، إلا وتقتل، وتحدث ملايين المعارك في الجسم بين خطوط الدفاع فيه والميكروبات التي تعديه (أي تغزوه ).. والإنسان لا يدري عما يجري داخل جسمه من أحداث وأحداث.

وهناك عوامل كثيرة تغير من قوة جهاز المناعة، فتزيده قوة حيناً، وتزيده ضعفاً حيناً آخر، والأمر نفسه بالنسبة للجراثيم، فغن صفاتها الوراثية قد تزيدها قوة تارة، وقد تضعفها تارة أخرى.

وما نتيجة كل ما سبق:

النتيجة هي أن العدوى بالجراثيم قد تصيب الجسم بأمراض في وقت من الأوقات.. وهي هي نفسها قد لا تسبب له مرضاً في وقت آخر.

إذن، فالعدوى قد تسبب مرضاً تارة.. وقد لا تسبب مرضاً تارة أخرى، وبذلك تصير العدوى.. لا عدوى.. وليس الأمر في كل ذلك بيد الإنسان... ولا دخل للجراثيم فهي أيضاً.. فالإنسان لا يستطيع أن يقوى أو يضعف من خطوط الدفاع فيه.. فهي تعمل بأمر خالقها تعالى ومنصاعة لأمره.. وكذلك الأمر في جهاز المناعة بالجسم.. منصاعاً لأمر ربها.. وكل ما يحدث فيه من أحداث هي آيات من إعجاز الخالق، وإبداع الفطرة التي فطر الله تعالى الإنسان عليها... وكل من الجراثيم وخطوط الدفاع وخطوط المناعة بالجسم مسيرة بأمر الله تعالى.

من هنا نفهم أن أمر العدوى، تكون أو لا تكون، هي من أمر الله تعالى ومشيئته أولاً وأخيراً، وهذه حقيقة لا شك فيها، ويجب أن نتفهمها جيداً، إذا أردنا أن نفهم المغزى العلمي في الأحاديث النبوية عن العدوى.

ومن الميكروبات ما يضر الإنسان، ومن الميكروبات ما لا يضر الإنسان شيئاً.. فهو يتعايش مع جسم الإنسان في سلام.. وتوجد الميكروبات غير الضارة بالإنسان على جلده وفي أمعائه.. وهي أحياناً تقوم بالدفاع عن الجسم ضد العدوى بالأمراض.. فهي تتصدى للميكروبات الضارة، وعادة ما تقضي عليها، وحينئذ لا تسبب العدوى بالمكيروبات الضارة مرضاً.. وتصير العدوى بها (لا عدوى)، إذن العدوى ببعض الميكروبات كثيراً ما تكون (لا عدوى ).. وفي بعض الأحوال تصير (عدوى ) أو لا تكون.

هذه الأمور العلمية التي ذكرناها قد تعيننا على تفهم بعض المغزى العلمي في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، وفرّ من المجذوم فرارك من الأسد ).

وقد لا يقتنع إنسان بكل ما ذكرنا من أدلة، ويحتاج إلى أدلة علمية أخرى.. فنقول له إن من الوسائل في الطب الوقائي أن تحدث عدوى لإنسان سليم بميكروب ما أو فيروس معين، وذلك بهدف الحيلولة دون حدوث عدوى أشد.. وبهذه الطريقة تصير بعض أنواع العدوى حائلاً دون حدوث عدوى أكثر ضرراً.

يحدث أن يحقن الأطباء جسم إنسان سليم بمكروب المرض نفسه، بهدف تفادي حدوث العدوى بذلك المرض مستقبلاً.. وهذا ما يسمى التطعيم ضد العدوى من الأمراض.. مثل التطعيم ضد الكوليرا، أو ضد التيفويد، أو أمراض شلل الأطفال أو ضد الجدري، أو ضد السل، أو غير ذلك من ميكروبات الأمراض التي تعدي بها الجسم السليم، ويحقن بالجسم ميكروب عولج في المعامل ليصير ميكروباً ضعيفاً لا يقوى على إحداث المرض.. فلماذا نحقنه في جسم الإنسان السليم، إذن ؟ نفعل ذلك لنثير أجهزة المناعة بالجسم فتعلن التعبئة العامة لتقتل الميكروبات المرضية وتفرز ضدها مواد مضادة تظل بالجسم مدة طويلة.. قد تطول لسنوات أو لطول العمر في بعض الأنواع.. حتى إذا حدثت عدوى بميكروب قوي، من هذه الميكروبات مستقبلاً، فإن هذه المواد المضادة التي تكونت من قبل، تقتله... وبذلك تحدث العدوى فعلاً ولكنها تصير كأن لم تكن، أي إن العدوى تصير (لا عدوى ).

هذه حقائق علمية لم تكتشف إلا في القرن العشرين الميلادي، ما كان يعلمها الناس قديماً، وإذا رددنا الأمر إلى علم الإنسان فهناك عدوى بين بعض الأمراض يجب الاحتراس والحذر منها، فإننا لا ندري هل تسبب بعض هذه الحالات من العدوى مرضاً، أو إنها تصير لا (عدوى).. أما إذا رددنا الأمر إلى الله تعالى فالعدوى إن شاء الله تعالى لها أن تصير مرضاً، وإن شاء الله تعالى لها ألا تسبب مرضاً فتصير (لا عدوى ).. الأمر في ذلك – وفي كل شيء في الوجود – معلق بإرادة الله عز وجل، فهو الذي يسير كل شيء في الكون، وهو الذي إذا أراد شيئاً أن يكون كان.. وإذا أراد شيئاً لا يكون.. وهو القائل عز وجل: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس: 82]، وهذا هو الفهم العلمي لحقيقة العدوى من الأمراض، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى )، وفي آخر الحديث قال: (وفر من المجذوم فرارك من الأسد )، وقال أيضاً: (لا يوردن ممرض في مصح ).

أدلة أخرى على نفي وجود العدوى وإثبات وجودها:

بالإضافة إلى الأدلة العلمية السابقة، هناك دليل آخر.. وهو في قضية حامل الميكروب.. فكثيراً ما نجد إنساناً قد أصيب العدوى بميكروب مرض ما، مثل ميكروب التيفويد، أو ميكروب الالتهاب السحائي الوبائي، ولكن لا تظهر عليه أي أعراض مرضية، وغالباً ما يصير ذلك الإنسان حاملاً للميكروب المرضي وليس مريضاً.. ولكنه يكون مصدر العدوى لغيره من الأصحاء الآخرين.. في مثل هذه الحال تكون هناك عدوى لا شك ولكنها لا تحدث مرضاً.. إلا أن حامل المرض يكون خطراً على الأصحاء.

إذن فهناك عدوى لا شك في ذلك.. وعلى هذا المستوى من العلم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: (لا يوردن ممرض على مصح ).. ويقول أيضاً: (وفرّ من المجذوم فرارك من الأسد )، إلا أن هناك عوامل أخرى كثيرة تجعل العدوى بجراثيم الأمراض كأن لم تكن.. أو لا تحدث لمن انتقلت إليه مرضاً – مثل حامل الميكروب – إذن، فمن العدوى ما يكون دواء – كما في حالات التطعيم – ومن العدوى ما يكون داء.

إن القول بأن العدوى بميكروب المرض هو السبب الوحيد في إحداث المرض، قول يدل على جهل قائله بأسرار الحقائق العلمية.. وفيه ضلال، لأن فيه إنكار لفطرة الخلق، ونسياناً، أو تناسياً، لمشيئة الله تعالى وأمره في خلقه.. من الذرة إلى المجرة، ومن الميكروب إلى الإنسان.. فليس الأمر بيد الميكروب.. فالميكروب ليس له من أمره شيء.. وليس له إدراك أو مشيئة.. بل هو مخلوق مصير تماماً بأمر ربه ومسخر تماماً لمشيئة الله عز وجل – وهذه حقيقة لا شك فيها ولا ينكرها عاقل، إذن فالأمر كله في العدوى تكون أو لا تكون معلق بأمر الله ومشيئته.. وإليه يرجع الأمر كله.. وهو القائل عز وجل: { أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ } [الأعراف: 54]، هو القائل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [التكوير: 29]، {وهو القائل أيضاً: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى } [الأنفال: 17].

من هذا المستوى من الفهم يمكن أن ندرك المغزى العلمي لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، وفر من المجذوم فرارك من الأسد )، فإننا إذا ناقشنا إنساناً فاهماً نقول له: إنك لو رددت الأمر إلى الحق المطلق لن تجد عدوى.. فيقول: هذا صحيح تماماً، ولكن أعطني دليلاً ملموساً.. كيف لا تكون عدوى لمرض السل أو الجرب مثلاً ؟ فنقول له: إنك تنظر إلى الحالات الفردية والتي تراها.. وإلى الأسباب والنتائج التي تشاهدها.. ولكنك لو غصت وراء الحقيقة، وفي أعماقها، لظهر أمامك سؤال هام: من أعدى هذا المريض بالسل، فيقال لك: مريض آخر سبق بالمرض.. فنقول: ومن أعدى ذلك السابق ؟ فيقال لك: مريض أسبق منه.. فنقول له: إذن، تسلسل معي إلى الماضي البعيد جداً.. حتى نصل إلى أول إنسان أصيب بالسل، أو الجرب، مثلاً لم يكن إنسان قبله مصاباً لا بالسل ولا بالجرب، واسأل: من أعدى هذا الإنسان ؟ فيقال لك: لا أحد.. فتبرز أمامك حقيقة لا شك فيها: إنه لا عدوى بصفة قطعية.. ونجد كل هذا في الحديث النبوي الشريف.. فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر )، فقال أعرابي: فما بال الإبل تكون كالظباء في الرمال، فيخالطها البعير الأجرب فيجربها ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (فمن أعدى الأول )، أي فمن أعدى أول بعير أصيب بالجرب في الماضي البعيد جداً حيث لم تصله أي عدوى أصلاً.. دائماً كانت إرادة الله وأمره دون وجود أية أسباب.

العدوى من الجذام:

الجذام مرض مزمن، أصيب به الإنسان منذ العصور القديمة، ويغلب على الظن أن الهند هي موطنه الأصلي، وانتشر إلى جنوب شرق آسيا، وشمال استراليا، وإفريقيا الاستوائية كلها.. ومن الهند انتشر في أوروبا منذ أكثر من ألفي عام عن طريق جيش الاسكندر الأكبر (سنة 326 ق.م)، ولم يكتشف ميكروب الجذام إلا سنة 1873م.. ولا يعرف الأطباء حتى اليوم طريق العدوى بميكروب الجذام.. والرأي السائد الآن أن العدوى به تحدث عن طريقة ملامسة جلد المريض مرات عديدة ومتكررة ولزمن طويل.. لذلك يظهر في المخالطين للمريض.. إلا أنه لا يظهر إلا في 1% فقط من المخالطين.. مما يدل على أن ملامسة جلد المريض لا تنقل العدوى إلا بعد زمن طويل، ولا ينقل ميكروب المرض عن طريق الطعام أو الشراب، لأنه ميكروب ضعيف جداً، ولو وصل إلى المعدة لقتل فوراً في الوسط الحامضي للمعدة..

من هنا نفهم المغزى العلمي في السنة النبوية ولماذا تجنب رسول الله صلى الله عليه وسلم مصافحة مريض الجذام، فقد أخرج مسلم عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم (إنا قد بايعناك فارجع)، وفي يوم آخر أكل مع مريض آخر بالجذام في قصعة واحدة وقال له: (كل ثقة بالله وتوكلاً عليه )، ولقد علمنا في عصر العلم الحالي أن الجذام لا ينتقل عن طريق تناول الطعام.. فليس هناك تعارض بين أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعامله مع المجذوم، كما تخيل العلماء قبل العصر الحالي.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وفر من المجذوم فرارك من الأسد )، فما هو الفهم العلمي لذلك ؟ بعض أنواع الجذام الشائعة، تحدث تشوهاً بالوجه... فيغلط الجلد، وترتفع الجبهة، ويسقط الشعر عن الوجه والحواجب.. وفي القرن التاسع عشر (سنة 1847) كان أول وصف لمريض الجذام هو ما كتبه الطبيبان دانيال وبويك، وقالا في وصفهما بالكلمة الواحدة: (إن وجه مريض الجذام يشبه وجه الأسد )، ولم يوصف وجه مريض الجذام بهذا الوصف أبداً قبل سنة 1847.. إلا أننا نلاحظ أن رسول الله ص ذكر هذا الوصف العلمي في قوله (وفر من المجذوم فرارك من الأسد )، ونتعجب من كلمات الحديث النبوي في اختيار لفظ (الأسد )، ولماذا لم يقل مثلاً: وفر من المجذوم فرارك من الوحش، أو فرارك من الأفعى، ولكنه اختار لفظ (الأسد)، لقد حدث ذلك لتصف كلمات الحديث النبوي الشريف الموصوف وصفاً يجمع المعنى والصورة، ويصور المظهر أيضاً، كل ذلك في كلمة واحدة مما يعجز عن قوله البشر مما يدل على أنه وحي من الله تعالى لرسوله.. ولم يتطرق أحد من المفسرين للحديث النبوي لهذا الوجه من الإعجاز العلمي فيه، فلم يلاحظ أحد من الأطباء أن وجه مريض الجذام يشبه وجه الأسد قبل سنة 1847م في كتب الطب.. ويصف الأطباء وجه مريض الجذام (Leonine face) يعني (وجه الأسد ) ولكن الحديث النبوي سبق بالعلم في ذلك.. ولا يقبل عقلاً أن يكون هذا الحديث الشريف اجتهاداً من الرسول صلى الله عليه وسلم كبشر، كما ادعى ابن خلدون ومن وافقه من المفكرين، جهلاً منهم بالعلم في ذلك.

وميكروب الجذام لا يعقل ولا يدرك ولا يعي.. وكذلك خطوط الدفاع والمناعة في الجسم، إذن فالعدوى تكون أو لا تكون، أمر بيد الله وحده.. وإذا رددنا الأمر إلى الحق المطلق، ما وجدنا إلا أمر الله وقدرته ومشيئته.. إن شاء جعل ميكروب الجذام عدوانياً، وبذلك تتحقق العدوى – وإن شاء جعل الميكروب في منتهى الضعف فيقدر على إحداث المرض في إنسان آخر، وبذلك تصير العدوى لا عدوى.

لا عدوى وطيرة ولا هامة ولا صفر:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا عدوى ).. وقد تحدثنا من قبل عن بعض المعاني في هذه العبارة من الناحية العلمية.. إن العدوى من مريض بمرض معد أمر نعرفه في حياتنا اليومية.. والعدوى قد تسبب مرضاً.. إذن فالعدوى (سبب )، والمرض (نتيجة)، والنتائج مترتبة على الأسباب في نظرنا نحن كبشر.. (نأخذ العلاج فتشفى )، العلاج (سبب والشفاء (نتيجة)، (اعمل في السوق في التجارة اكسب مالاً )، فالتجارة (سبب ) وكسب المال (نتيجة).. إلا أن النتائج في حقيقتها غير مترتبة على الأسباب، والله عز وجل بيده الأسباب والنتائج جميعاً، يصرفها كيف يشاء.. فقد يحقق نتيجة بدون سبب.. نجد ذلك في قوله تعالى عن السيدة مريم عليها السلام: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا } [مريم: 25]، فتساقط الرطب نتيجة هز النخلة بيد مريم (سبب )، والحقيقة أن السيدة مريم لم يكن في استطاعتها هز جذع النخلة.. الأمر الذي لا يقدر عليه إلا عصبة من الرجال.. إذن، (فالنتيجة) ههنا غير مترتبة على (سبب)، وقياساً على ذلك فإننا إذا قلنا إن المرض المعدي لا بد من عدوى تسببه، نقول إن ذلك في اعتقاد البشر.. أما إذا رددنا الأمر إلى قدر الله تعالى، فلا عدوى... وأخرج الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يعدي شيء شيئاً ).

وإذا تساءلنا عن ذلك يجيبنا حديث نبوي آخر أخرجه الترمذي عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر، خيره وشره، حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه)، مما تقدم نفهم الحقيقة الكبرى المعلقة بإرادة اله تعالى وأمره (لا عدوى )، أي (لا عدوى ) بالمعنى الذي يفهمه الناس.

لا طيرة: الطيرة هي التشاؤم، وكانت العرب في الجاهلية إذا خرج أحدهم لأمر، أطلق الطير في الجو، فإذا طار الطير يميناً، أقدم إلى ما عزم عليه، وإذا طار الطير يساراً، تشاءم ورجع عما عزم عليه، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطيرة هذه وقال (لا طيرة ) أي لا أساس لها من الصحة.

ولا هامة: كان العرب في الجاهلية تقول إذا قتل رجل ولم يؤخذ بثأره، خرجت من رأسه دودة، أي هامة، فتدور حول قبره، وتقول: (اسقوني اسقوني )، ولا تزال تفعل ذلك حتى يؤخذ بثأره(4)، فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس قال (لا هامة ) أي لا أساس لها من الصحة.

ولا صفر: كان العرب في الجاهلية يعتقدون أن في البطن دوداً يهيج عند الجوع، وربما قتل صاحبه، فنهى رسول الله ص عن الاعتقاد في هذا التصور الخاطئ.

التفسير الإيماني لأحاديث العدوى:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، وفر من المجذوم فرارك من الأسد )، اعتقد ابن خلدون ومن نقل عنه من العلماء القدامى والمحدثين، أن في هذا الحديث تعارضاً، لأن أوله نفي لحدوث العدوى وآخره إثبات لوجودها.. وبالتالي اعتقدوا أنه حديث لا يؤخذ به لأنه كان ظناً من الرسول، بصفته بشراً يجوز عليه الخطأ.. ولم يكن وحياً من الله تعالى له، وهكذا وضعوا علمهم الناقص حكماً على العلم المطلق في الوحي الإلهي، فأخطئوا خطأ عظيماً.

وقال ابن خلدون ما قاله.. وقال من نقل عنه ما قالوه بسبب جهلهم بحقيقة العدوى.. وبحقائق علم البكتريا.. تلك الحقائق التي لم يكتشفها العلماء إلا حديثاً. وبسبب تأثرهم بالفلسفة اليونانية القديمة.. ونسوا أن هذا الحديث لو قاله أي إنسان غير رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان متناقضاً حقاً.. لماذا ؟ لأن أي إنسان غير رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تحدث بحديث، فهو يتحدث لإنسان معين أو لقوم معينين، وفي موضوع معين، له ظروف معينة، وله زمن معين، وينقل معلومة محددة لا تحمل معنى آخر.. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو إذ يتحدث، إنما يتحدث بوحي من ربه، أو بإلهام النبوة الذي خصه الله تعالى به دون سائر البشر.. وهو صلى الله عليه وسلم إذ يتحدث، لا يتحدث لفرد معين، ولا لمجتمع معين، ولكن الناس كافة، كما قال الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } [سبأ: 28].. ويتحدث صلى الله عليه وسلم لا لمستوى واحد من الفهم والعلم.. ولكن يتحدث للبشر جميعاً، على اختلاف مستوياتهم الفكرية والثقافية والإيمانية، ويتحدث لا لزمن معين ولا لعصر معين.. ولكنه صلى الله عليه وسلم يتحدث للبشر جميعاً في كل عصر من العصور وإلى يوم القيامة.. فالوحي الإلهي في القرآن، والحديث النبوي، يعطي للناس كافة في كل عصر وزمان ومكان، وعلى اختلاف مستوياتهم، علماً وفهماً وبياناً – كل إنسان يفهم منه قدراً معيناً من العلم حسب مستواه الفكري والثقافي والإيماني.

ففي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، وفر من المجذوم فرارك من الأسد ) نجد أنه يوجه أول حديثه للمؤمن العارف بربه، الذي يعلم يقيناً أن أمراً في هذا الوجود لا يحدث إلا بإرادة الله تعالى وأمره وقدره، فيوق له (لا عدوى ).. ويوجه الجزء الأخير من الحديث الشريف للإنسان الذي لم يصل إلى هذا المستوى من العلم والإيمان فيقول له: (وفر من المجذوم فرارك من الأسد )، كما يقول له (لا يوردن ممرض على مصح).

إن أسلوب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلوب بلاغي معجز يعطي الناس جميعاً هداية وعلماً على اختلاف فهمهم وإيمانهم وعلمهم، وأحاديثه ليست مثل أحاديث غيره من البشر.. والأحاديث التي تثبت نسبتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، هي وحي من الله تعالى له – سواء كانت تتحدث عن أمور الدين أو أمور الدنيا – وإن لم تكن وحياً صريحاً لهي من إلهام النبوة الذي خص الله تعالى رسوله به دون سائر البشر.. وهو نوع من الوحي أيضاً.. والرسول صلى الله عليه وسلم لا يتحدث إلا صدقاً، ولا ينطق إلا حقاً ولا يتكلم إلا وحياً.. وما ينبغي لابن خلدون أو غيره من الناس، قديماً أو حديثاً، وهم مهما بلغ علمهم لم يصلوا إلى العلم كله.. ولا ينبغي لهم – وهم ناقصوا علم – أن ينصبوا أنفسهم حكاماً على العلم الكامل في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.. إنهم بذلك أخطئوا.. والخطأ هنا خطيئة.. وجهل كبير..

أ.د. أحمد شوقي إبراهيم.

============

[1]وقال: إنه لا تعارض في الأحاديث الشريفة، وإنما لكل منها وجه من وجوه العلم.

(2) يقول الشاعر الجاهلي:

يا عمرو لا تدع شتمي ومنقصتي        أضربك حتى تقول الهامة اسقني

المصدر: الاعجاز العلمي في القران والسنه
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 127 مشاهدة
نشرت فى 17 فبراير 2013 بواسطة MuhammadAshadaw

بحث

تسجيل الدخول

مالك المعرفه

MuhammadAshadaw
مكافحة اضرار المخدرات والتدخين ومقالات اسلامية وادبية وتاريخيه وعلمية »

عدد زيارات الموقع

944,448

المخدرات خطر ومواجهة

مازال تعاطي المخدرات والاتجار فيها من المشكلات الكبرى التي تجتاح العالم بصفة عامة والعالم العربي والإسلامي بصفة خاصة وتعتبر مشكلة المخدرات من أخطر المشاكل لما لها من آثار شنيعة على الفرد والأسرة والمجتمع باعتبارها آفة وخطراً يتحمل الجميع مسؤولية مكافحتها والحد من انتشارها ويجب التعاون على الجميع في مواجهتها والتصدي لها وآثارها المدمرة على الإنسانية والمجتمعات ليس على الوضع الأخلاقي والاقتصادي ولا على الأمن الاجتماعي والصحي فحسب بل لتأثيرها المباشر على عقل الإنسان فهي تفسد المزاج والتفكير في الفرد وتحدث فيه الدياثة والتعدي وغير ذلك من الفساد وتصده عن واجباته الدينية وعن ذكر الله والصلاة، وتسلب إرادته وقدراته البدنية والنفسية كعضو صالح في المجتمع فهي داخلة فيما حرم الله ورسوله بل أشد حرمة من الخمر وأخبث شراً من جهة انها تفقد العقل وتفسد الأخلاق والدين وتتلف الأموال وتخل بالأمن وتشيع الفساد وتسحق الكرامة وتقضي على القيم وتزهق جوهر الشرف، ومن الظواهر السلبية لهذا الخطر المحدق أن المتعاطي للمخدرات ينتهي غالباً بالإدمان عليها واذا سلم المدمن من الموت لقاء جرعة زائدة أو تأثير للسموم ونحوها فإن المدمن يعيش ذليلاً بائساً مصاباً بالوهن وشحوب الوجه وضمور الجسم وضعف الاعصاب وفي هذا الصدد تؤكد الفحوص الطبية لملفات المدمنين العلاجية أو المرفقة في قضايا المقبوض عليهم التلازم بين داء فيروس الوباء الكبدي الخطر وغيره من الأمراض والأوبئة الفتاكة بتعاطي المخدرات والادمان عليها.