خطبة الجمعة
شعيرةٌ من شعائر الإسلام الظاهرة، أوجب الله على المسلم المكلَّف شهودَها بشروطِها التي بيَّنها أهل العلم رحمهم الله. وهي شعيرةٌ عظيمة الشأنِ جليلة المقاصدِ عميقة التأثير، في كل أسبوعٍ مرة، وفي العام ثمانية وأربعين مرة. ولهذا التكرار غرضه في مواصلة حوار النفس، ومواجهتها ومحاسبتها، ومراجهتها في أوامر الدين وأحكامها ومقاصدها....
من مظاهرِ أحكامِ هذه الشعيرةِ لزومُ حضورِها جماعةً، والنهيُ عن البيع عند النداء لها، يتأهّبُ لها المسلم بالتطهر والتبكير مع أخذ الزينة والطيب وحسن السمت، ووجوب الإنصات ونبذ اللغو، مما يهيِّئ للاستفادة والرغبة في الاستماع، والالتزام بما يَسمَع من الحقّ، على حد قوله سبحانه: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9].
خطبةُ الجمعة من وسائلِ الإصلاح الفرديّة والجماعية، فهي تحتلّ موقعاً مهمًّا متميِّزاً في تبليغ الدين ونشر الدعوة وبثِّ الإصلاح.
كان ذلك منذُ بدء الرسالة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، ولا تزال هي أكثرَ الوسائل فعاليةً في نشر الحق، وبثّ الفكر الصحيح، ومخاطبة مختلف الفئات والطبقات والمستويات، نظراً لأنَّ الخطيب المؤهَّل الموفَّق هو الأسرع إلى فهمِ العامة، والأبلغُ في التأثير على المجموعة، فللخطبة فعلُها المباشر وسرعتُها في توجيه الرأي العام.
خطيبُ الجمعة هو الواعظُ، له دورٌ كبير وأثرٌ بالغ في بيئته ومجتمعِه وسامعيه وقومه، فهو قرينُ المربِّي والمعلِّم ورجلِ الحسبة والموجِّه، وبقدرِ إحسانِه وإخلاصِه يتبوَّأ في قلوب الناس مكاناً ويضع الله له قبولاً قلَّ أن يزاحمَه فيه أصحابُ وجاهاتٍ، ولا يدانيه فيه ذوو مقامات، ومردّ ذلك إلى الإخلاص أولاً وتوفيق الله سبحانه وتعالى أيضاً، ثم إلى حسن الإجادة وجَوْدة الإفادة والقُدرة على التأثير المكسوّ بلباس التقوى والمدثَّر بدثار الإخلاص والورع.
ولا شكَّ أن مهمَّة الخطيب في هذا مهمةٌ شاقَّة، مشقةً تحتِّم عليه أن يستعدَّ الاستعدادَ الكافي في صوابِ الفكر وحسن التعبير وطلاقة اللسان وجودَة الإلقاء. مطلوبٌ منه أن يحدّث الناسَ بما يمسّ حياتهم، ولا ينقطع عن ماضيهم، ويردّهم إلى قواعدِ الدين ومبادئه، ويبصّرهم بحكمه وأحكامه برفق، ويعرّفهم آثارَ التقوى والصلاحِ في الآخرة والأولى. مهمتهُ البعدُ عن المعاني المكرورة وجالبَاتِ الملل، فالدعوةُ إلى التجديد والتحديث والبعدِ عن المكرور لا يغيِّر من الحقيقة الثابتة شيئاً، وهيَ ـ وهذا مهمّ جداً، ولا سيما أننا نتكلم عن الإصلاح، وسوف يأتي تجسيد لهذا كثير إن شاء الله ـ، ولكن أقول: إن التجديدَ والتحديث والبعدَ عن المكرور لا يغيِّر من الحقيقة الثابتةِ شيئاً، وهي أنَّ حياةَ الناس وأحوالهم في كلّ زمان ومكان صورةٌ واحدة من تصارعِ الغرائز واضطرابِ النفوس وغليان الأحقاد، وفي مقابلِ ذلك تلقى أحوالاً من البرودِ والانصرافِ والغفلةِ وعدم المبالاة. والخطيب عليه أن يهدّئ الثائر، ويبعثَ الفاتر، ويطفئ ثورةَ الغريزة، ويخفضَ حدّةَ الأحقاد، ويشيعَ روحَ المودة، ويبثّ الإخلاصَ والتعاون. نعم إنَّ حياةَ الناس صورة معادة، وتغيّراتٌ متناوبة، فأحداثُ اليوم هي أحداث الأمس، والبواعثُ والمثيرات في الماضي هي ذاتها في الحاضر، فإنسانُ الغابة وإنسانُ المدينة سواء، غيرَ أنَّ الأولَ يحاربُ بحجر والثاني يرمي بقنبلة، الأول قد يقتل واحداً أو اثنين والثاني يقتل عشرات أو مئات، القويّ في الغابة يستولي على مرعى أو بئر، أما قويّ المدينة فيستولي على قطرٍ بأكمله ويقتل قوتَ شعب بجملته بل شعوبٍ برمتها، ويستبدُّ بمصادر الطاقة وموارد الحياة المصيرية. إذا كان ذلك كذلك فكيف يكون الحال لو نجح الدعاة المصلحون في تهذيب الغرائز والتسامي بها؟!
إنَّ خطيبَ المسجد وواعظَ الجماعة أشدُّ فاعلية في نفوس الجماهير من أيّ جهاز من أجهزة التوجيه والحكم في المجتمع، إن الجمهورَ قد يهابون بعضَ ذوي المسؤوليات لكنهم قد لا يحبونهم، أما الخطيبُ بلسانه ورقة جنانه وتجرّدِه فيقتلعُ جذورَ الشرّ في نفس المجرم، ويبعث في نفسه خشيةَ الله وحبَّ الحق وقبولَ العدل ومعاونةَ الناس. إنَّ عملَه إصلاحُ الدمائر، وإيقاظُ العواطف النبيلة في نفوس الأمة، وبناءُ الضمائر الحيّة، وتربية النفوس العالية في عملٍ خالص، وجهد متجرِّد، يرجو ثوابَ الله، ويروم نفعَ الناس.
ومن هنا فإنكم ترونَ أنَّ أداءَ الخطيب عملَه على وجهه يكسوه بهاءً وشرفاً، ويرفعه إلى مكان عليٍّ عند الناس. وليس هذا إطراءً ولا مديحاً للخطيب، ولكنه تنبيه إلى شرف العمل ومشقَّته وعظم مسؤوليته وثقل رسالته، وما تتطلَّبه من حسن استعداد وشعورٍ صادق للمسؤولية، وكيف لا يكون ذلك؟! وهذه رسالة الأنبياء والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، ولا غرابةَ أن يواجهَ إذاءً وعداءً ولوما ونقداً، وحسبُه أن يكون مقبولا عند الله والصفوةِ من عباد الله.
إذاً خطيبُ الجمعة يولي همومَ مجتمعه وقضايا أمتِه اهتماماً كبيراً، وتحتلّ هذه الهموم والقضايا موقعا في نفسه، فيشعر بأهميَّة الإسهامِ في حركةِ المجتمعِ والتجاوبِ معه بالدعوةِ إلى الحقِّ وتدعيم كلِّ خير، والتحذيرِ من كلِّ شر والتنفير منه.
وكثير من الخطباء يوفَّقون في كسب قلوب السامعين والتأثير في مشاعرهم، فيكون ذلك سببَ صلاحهم وتوبتهم ورجوعهم إلى ربهم، ولعلِّي بعدَ هذا التقديم المجمَل أذكِّر ببعض عناصر هذا الموضوع في هذا اللقاء، فسوف يأتي كلامٌ عن مفهوم الإصلاح، وعن المنهج الإصلاحي في خطبة الجمعة، وجوانبِ الإصلاح الاجتماعي في خطبة الجمعة مما ينتظم أمرين، أحدهما: الوقوف أمام المؤثرات الخارجية على المجتمع، والثاني: الإصلاح الداخلي للمجتمع.