*الثروات بين الهدر والاستدامة: طريق العرب نحو النهوض*
نعيش اليوم في العالم العربي لحظةً فاصلة من تاريخنا الحديث، لحظة تتقاطع فيها الأسئلة الكبرى عن المستقبل مع واقعٍ يئنّ بتحدياتٍ متراكمة. وبينما تتجه الأمم إلى بناء اقتصاداتٍ مستقرة قائمة على الإبداع والمعرفة، ما زال العالم العربي يواجه فجوة واسعة بين ما يمتلكه من إمكانات هائلة وما يعيشه من أزمات اقتصادية واجتماعية متكررة.إنّ من يتأمل واقع الأوطان العربية يدرك بوضوح أن الفقر لم يعد وليد العجز أو قلة الموارد، بل هو نتيجة سوء التخطيط وضعف إدارة الثروات. فالدول العربية تملك من النفط والغاز والثروات المعدنية والموقع الجغرافي المميز، ومن الطاقات البشرية الشابة، ما يجعلها قادرة على أن تكون من أقوى مناطق العالم نمواً وتأثيراً، غير أن هذه الثروات كثيراً ما ضاعت بين سوء الإدارة وغياب الرؤية الاستراتيجية طويلة المدى.لقد آن الأوان لأن ندرك أن التنمية ليست مشروعات إسمنتية ولا شعارات مؤقتة، بل هي بناء مستمر للإنسان قبل كل شيء. فالموارد مهما عظمت إن لم تستثمر في الإنسان، تتحول مع الزمن إلى عبء. أما حين يُجعل الإنسان محور التنمية وهدفها، تتحول الثروة إلى طاقة خلاقة تصنع النهضة وتضمن الاستدامة.الاستدامة اليوم ليست ترفاً فكرياً أو شعاراً بيئياً كما يظن البعض، بل هي قضية وجود ومصير. فالحفاظ على الماء والطاقة والموارد الطبيعية يعني الحفاظ على حق الأجيال القادمة في الحياة الكريمة. إننا بحاجة إلى عقلٍ عربي جديد يدرك أن كل قطرة ماء، وكل متر من الأرض، وكل جهدٍ بشري هو جزء من منظومة الوجود التي يجب صونها واحترامها. فالهدر ـ سواء كان في الموارد أو في الوقت أو في العقول ـ هو العدو الخفي للتنمية، وهو ما يجعل الأمم تتراجع رغم ما تملك من ثروات.إنّ العدالة في توزيع الثروة تشكل حجر الأساس في أي نهضة حقيقية. حين يشعر المواطن العربي أن خيرات وطنه توزع بعدل، وأن الدولة تستثمر في التعليم والصحة والسكن والعمل، تنمو روح الانتماء وتتراجع الفوارق الطبقية التي تهدد النسيج الاجتماعي. أما حين تتكدس الثروات في يد قلة، وتُقصى الكفاءات ويُهمّش الشباب، فإن الفقر لا يبقى مجرد ظاهرة اقتصادية، بل يتحول إلى مرض اجتماعي يولد الإحباط والعنف والانقسام.ومن المؤلم أن بعض الدول العربية ما زالت تعتمد اعتماداً شبه كامل على مصدر واحد من الدخل، كالبترول أو المعادن، دون تنويع اقتصادي حقيقي. وهذا النوع من الاعتماد يجعل الاقتصادات العربية رهينة لتقلبات الأسواق العالمية، ويضعف قدرتها على مواجهة الأزمات. إنّ التحول نحو اقتصاد المعرفة، والاستثمار في التعليم والتقنية والبحث العلمي، هو الطريق الأمثل للحفاظ على الثروة وتنميتها بصورة مستدامة.كما أن التكامل العربي هو مفتاح القوة الاقتصادية المنشودة. فبدلاً من التنافس الضيق الذي يبدد الطاقات، يمكن للدول العربية أن توزع أدوارها وفق ميزات كل دولة: فبعضها يمتلك الطاقة، وبعضها يمتلك الأراضي الزراعية، وبعضها يمتلك الموقع الجغرافي أو رأس المال البشري. ولو تحقق هذا التكامل على أسس من العدالة والمصلحة المشتركة، لكانت الأمة العربية قوة اقتصادية تقف نداً للأمم الكبرى.ولكي نحافظ على الثروات لا بد من بناء ثقافة مجتمعية جديدة، ثقافة تقوم على الوعي والمسؤولية. فالمجتمع هو الحارس الأول للثروة قبل المؤسسات الرسمية. الأسرة التي تربي أبناءها على ترشيد الاستهلاك، والمدرسة التي تعلّم الطلاب قيمة العمل والإنتاج، والإعلام الذي يرسخ مفهوم التنمية المستدامة، كلهم شركاء في بناء مستقبلٍ آمن. فالثروة لا تُحمى بالقوانين فقط، بل بالعقول والضمائر.وفي خضم الحديث عن الموارد المادية، ينبغي ألا نغفل عن أن أعظم ثروةٍ تملكها الأمة هي الإنسان. إن العقول العربية المبدعة المنتشرة في العالم تشهد بأننا لا نفتقر إلى الذكاء أو الكفاءة، وإنما نفتقر أحياناً إلى البيئة الحاضنة التي تمنح هذه الطاقات فرصة الظهور والمشاركة في البناء الوطني. فالهجرة الفكرية واستنزاف الكفاءات هو نوع آخر من هدر الثروة، لا يقل خطورة عن استنزاف النفط أو المياه.ختاماً، إن بناء مستقبلٍ عربي مزدهر يبدأ من لحظة وعي جماعي بأن الثروة أمانة، وأن الحفاظ عليها مسؤولية مشتركة بين الدولة والمجتمع. وإذا أحسنا استثمار مقدراتنا بعقلٍ متزن، ونشرنا ثقافة العدل والمساءلة، وأعلينا قيمة العمل والإنتاج، فإننا سنضع أقدامنا بثبات على طريق النهوض الحقيقي، طريقٍ يُعيد للأمة العربية مكانتها ويضمن لأجيالها القادمة حياة كريمة ومستقبلاً مستداماً.بقلم /محمد عمر حسين المرحبيكاتب وباحث في الشؤون التربوية والفكرية
المصدر: مقال منشور في موقع الوطنية نيوز الاخباري-الجزائر
https://watanianews.dz/?p=54367
التحميلات المرفقة
نشرت فى 28 أكتوبر 2025
بواسطة Malmrhabi
محمد عمر حسين المرحبي
موقع خاص يحتوي على بعض المقالات والبحوث والكتب النافعة والبرامج الهادفة . نرجو من زوار الصفحة الكرام تنزيل المجتوى المطلوب مع العلم ان جميع الكتب بصيغة bdf آملين ان يتحقق الهدف المنشود من القراءة مع العلم أننا هنا ننقل لكم ما نعثر عليه أثناء البحث وليس كل ما نقل صادراً »
أقسام الموقع
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
47,471


