بساطة في التّعابير، وسلاسة في السّرد، أمران يستميلان القارئ للغوص في رواية الكاتب والرّوائي المصري "محمد أبو بطة". كما أنّ الأسلوب الهادئ والمنساب الّذي امتاز فيه الكاتب، يدعو القارئ للاستمتاع بمتابعة الأحداث دون الشّعور بالملل، أو الرّغبة بالتّوقّف عن القراءة.
قد تشعر وأنت تطالع السّطور الأولى بأنّها رواية عاديّة، يسرد فيها الكاتب قصّة شاب بسيط قرّر السّفر للعمل في القاهرة بهدف تكوين مستقبله، بعد بحث شاقّ عن الحبّ والحبيبة، وانهماك خاصّ بأمور الحبّ وأفكاره. إلّا أنّك وأنت تسافر بين السّطور، متابعاً رحلة (عادل) ومسيرته بين العمل والبحث عن الحبّ، يتبيّن لك فكر الكاتب المتجلّي في عدّة مواقف قد يكون يعبّر فيها عمّا يجول في خاطره أو خاطر أيّ إنسان في مسيرة حياته العمليّة والإنسانيّة. إذ يسرق منك لحظات يدعوك فيها للتّوقّف أمام فكرة الزّواج المختلط بين الأديان، والفرق بين المجتمع الشّرقي المتشدّد وبين المجتمع الغربي المنفتح. ويعير اهتماماً لا بأس به لقدرة الإنسان الغربي على التّعبير عن ذاته بارتياح وبدون أيّ حرج، على عكس الإنسان في مجتمعاتنا، حيث تعبيره عن الذّات مرتبط بنظرة الآخر له.
يُظهر الكاتب عادلاً، شابّاً طموحاً، متّزناً، وجادّاً في عمله، يسبق الآخرين دائماً بخطوة. ولعلّها الميزة الّتي تفرّد بها فسمحت له أن يكون ناجحاً في عمله ومتفوّقاً بين زملائه. ويفتح له الكاتب آفاق البحث عن الحبّ تارّة بخجل، وطوراً بقليل من الجرأة. فكأنّه يريدك أن تستعيد خبراتك السّابقة، أو يريد أن يعبّر عنك وعن أفكارك ورغباتك الّتي عشتها وبقيت مختبئة بينك وبين ذاتك. فعادل يمثّل شريحة كبيرة من الشّباب الّذين يبحثون عن الحاجة الضّروريّة للإنسان والّتي قد تكون أهم من القوت والشّراب، ألا وهي الحبّ.
يبحث عادل عن الحبّ ببراءة الفلّاحين الجميلة، وبقلب يتوق إلى المشاعر الّتي تبعث للقلب نبضاً مختلفاً، وتُمتّع الأنفاس بعبق فريد من نوعه، بين زميلاته في المجموعة الّتي يعمل فيها. فيتنقّل قلبه بين هذه وتلك، ظنّاً منه أنّه سيجد حبيبته بينهنّ. فيصطدم بالخيبات، خيبة تلو الخيبة، إلى أن يتخلّى عن فكرة البحث عن الحبّ والحبيبة، بعد أن تجرّأ وعبّر عن حبّه لزميلة له، شغلت قلبه وعقله بشكل جدّيّ، ظنّاً منه أنّه سيواجه خيبة أخرى. إلّا أنّ الكاتب يقطع عليك تتابع السّرد ليدخلك في عالم من المشاعر الجميلة والرّقيقة، ويغرّد حبّاً بلسان حبيبة عادل (جيهان). فينقلك من أرض الواقع العمليّ، والنّمط اليوميّ المتكرّر، إلى سماء الحبّ المنتظَر بين قلبين، يتجرّأ فيها الأوّل على الاعتراف ثمّ يتراجع، ويخفيه الثّاني، إلّا أنّ عاصفة الحبّ تحرّك أمواجه فيفيض حبّه نهراً عذباً منسكباً بحزن نبيل في قلب المحبوب.
ويأتي هذا البوح فيّاضاً في رسالة من (جيهان) تشكّل نصّاً وجدانيّاً يمتاز بسهولة التّعابير وانسياب الكلمات، كما يمتاز بوصف دقّة المشاعر الملتهبة. فتلقى نفسك متلهّفاً لإعادة قراءة الرّسالة عدّة مرّات، لتكتشف في كلّ مرّة نفحات شعريّة يبثّها الكاتب بأحاسيس خاصّة، يختلط فيها الفرح بالحزن، والأمل بالخيبة.
يقابل الرّسالة مشهد للحبيب (عادل) المتأثّر بصفعة الحبّ الرّقيقة، ويبدع الكاتب في تصوير قوّة الحبّ السّاكن في قلب (عادل). فيتوه عنك تراكم الأحداث المكثّفة بالمشاريع والأعمال، والأحداث اليوميّة الرّوتينيّة، وتغرق في بحر من المشاعر المضمّخة بالألم والشّكوى، يرقّ لها القلب وتدمع لها العين. وما تلبث أن تبحر إلى أرض الحبّ حيث الولادة الجديدة، والفرح الحقيقيّ الّذي يُقْصي كلّ حزن وهمّ. ويسترسل الكاتب في صياغة مشهد بين حبيبين ينعمان بمشاعر انتظراها لسنين طويلة. ويمتّع القارئ بحبّ روحيّ يسمو بالحبيبين إلى الاتّحاد فيصيران واحداً في جسدين.
إلا أنّ أقدار الكاتب عبثت بالحبيبين، وأسقطتهما من علياء المجد إلى حضيض العزلة واللّاحياة. وتلاعب بهما الزّمن وسبّب في غربتهما عن ذواتهما. وذلك بسبب الفوارق الطّبقيّة بين (عادل) و(جيهان). فهي من عائلة مرموقة ومعروفة، آثرت عائلتها رفض (عادل) بالرّغم من مكانته في العمل ونجاحاته المتكرّرة وتفوّقه اللّافت.
وتشاء أقدار الكاتب مجدّداً بالتّرفّق بحالهما وتجمعهما بعد عناء وألم طويلين، على رجاء تمنّياه بشوق وشغف. وهو أن يسعدا أبداً مع بعضهما في حياة مباركة يبنيان فيها عائلة سعيدة، مفعمة بالحبّ والوداد.
ولكنّ غالباً ما تأتي الرّياح بما لا تشتهي السّفن، فتغيّر مسارها وتدفعها لملاقاة حتفها. فعادل الّذي سبق الآخرين بخطوة وكان له النّجاح، وسبق الحبيبة بخطوة، وعاش قصّة حبّ حلم بها منذ أن كان في أحضان قريته، سبقه الموت بخطوة في نهاية مأساوية وحزينة وغير عادلة، ولكنّها أقرب إلى المنطق منها إلى الخيال. إذ أقدم أخو زوجته على التّخطيط لقتله لأنّه أبى أن يتساوى إنسانيّاً مع زوج أخته.
ولعلّ النّهاية بما حملته من ألم وحزن تدعونا للتّأمّل بعنصريّتنا، على مستوى العلاقات الإنسانيّة، وكيف ننظر إلى بعضنا بتعال وتعجرف. كما أنّنا نحدّد القيمة الإنسانيّة انطلاقاً من المنصب والمركز الإجتماعيّ، أو انطلاقاً من الانتماء الدّينيّ أو ما سواه. ولا نقيّم الإنسان بحسب كفاءاته وإنجازاته الشّخصيّة، بل وجب علينا اعتبار الإنسان قيمة بحدّ ذاته بغض النّظر عن أي شيء آخر.
ويلمّح الكاتب في نهاية الرّواية إلى أنّ والد الزّوجة كان على علم بجريمة ابنه إلّا أنّه تغاضى عن الموضوع بحجّة أنّه لا يمكنه أن يبوح لابنته بهذا السّرّ خوفاً عليها. ويتّضح لنا هنا أمراً مهمّاً وهو أن دور الأب منذ البداية ساهم بشكل أو بآخر في سلوك الابن. ولقد أثّرت التّربية في نفس الإبن وكوّنت في نفسه طبعاً متكبّراً ومتعالياً. ولكن هذا لا يمنع من أنّه أنّب ابنه محذّراً إيّاه من أنّ عجلة الزّمن تدور، لترفع غداً المتضعين، وتحطّ المقتدرين. إلّا أنّ هذه الملاحظة البسيطة ليست كافية لتقويم سلوك ابن يمتلكه الغرور، ولا تعيد لابنته حبيبها وزوجها وأبا لأولادها.
ساحة النقاش