العماد طقس مورس من عدة شعوب بهدف التّطهير من النّجاسة. ويعتبر مقدّساً لأنّه ينزع عن الإنسان نجاسته الجسدية والرّوحية. مورس الاغتسال المقدّس بشكل واسع في مصر وبابلونية والهند، وفي الديانات السرانيّة الهلنستية. وفي ديانة إسرائيل، عرف نصّ موسى التّغطيس كوسيلة للتطهير بحسب الشريعة: مثلاً لتطهير الأبرص الذي شُفي (لا 14 :8)، لمحو النجاسة الجنسيّة (لا 15 :16-18)، لمحو النجاسة المتأتّية من لمس جثّة ميت (عد 19 :19). ويجب أن تُغتسل الأشياء قبل أن نستطيع استعمالها من جديد (لا 11 :32-40). هذا الاغتسال يمنح الطهارة بحسب الشريعة، وبين الطقوس الفريسيّة حول الطّهارة، نذكر عماد المهتدين جديدًا الذي فُرض في زمن متأخّر على المختونين الجدد. وقد توخّى هذا العماد أن ينقّي الوثنيّ القديم الذي اهتدى الآن، لأنّ العالم الوثنيّ كان في نظر اليهوديّ نجسًا (يو 18 :28؛ أع 10 :28) وخاطئًا (غل 2 :15).
في عماد يوحنا المعمدان، احتلّ هذا العماد مكانة مهمة في الفقاهة الرسوليّة (أع 1 :22؛ 10:37). وتحدّث عنه الإنجيل الرابع بطريقته الخاصة (يو 1 :19-28). منح المعمدان هذا العماد في مياه الأردن لجميع الّذين سمعوا كلام التوبة واعترفوا بخطاياهم نادمين.
ودلّ عماد يوحنا على أنه اختلف عن طقوس الطهارة لدى الفريسيّين في نقطة جوهريّة. فهو يغطّس في إطار التّوبة الأخلاقيّة، فيستعيد جوهر كرازة العهد القديم ليجعلها في منظار ملكوت الله القريب. وقد سمِّي "عماد توبة لغفران الخطايا" (مر 1 :4؛ لو 3 :3). وهو منذ الآن يعلن الخلاص، فيحلّ في شكل من الأشكال محلّ طقوس الغفران في العهد القديم. وتميّز عماد يوحنا عن العماد المسيحي بأنّه يعلن فقط الملكوت. أما العماد المسيحيّ فيتضمّن تدشين زمن الروح (أع 19 :1-6).
العماد المسيحي أبعد من طقس لتطهير الجسد والنّفس، وإنّما هو الدّخول في مملكة المسيح، مملكة المحبّة بقوّة الرّوح القدس. فالمعمّد بالمسيح ينعتق من الإنسان القديم ليلبس المسيح، -الإنسان الجديد- فيلبس المحبّة. ويقول أحد الآباء المغبوطين، أنّه متى تعمّدالإنسان، لم يعد إنساناً بل أصبح مسيحيّاً. وهذا التّعبير قويّ جدّاً. هو لا ينفي طبعاً الإنسانية عن الإنسان وإنّما يدخله في سرّ الحب الأزلي، سرّ الله. هذا الدّخول يعبر به الإنسان من الموت إلى الحياة. حياة جديدة بالمسيح ومع المسيح. فيغدو أيقونة مقدّسة في مملكة الحبّ، وبالتّالي يترتّب عليه مسيرة حياة معيّنة تتوافق ولباسه الجديد، وإنسانيّته الجديدة. فلا يكفي أن أعتمد لأكون مسيحيّاً، لأنّ المسيحيّة مسيرة حياة، منهج حياة ينطلق من المعموديّة الّتي تُحمّلنا رسالة ذات أهمّيّة كبرى ومسؤولية أكبر، ألا وهي رسالة المحبة للعالم أجمع. ورسالة المحبّة لمن لا يعلم مهمّة صعبة وسلوك طريق المحبّة شاق. وليس كما يعتقد البعض أنّ المحبّة مجرّد وداعة أو كلام بصوت هادئ. المحبّة تكون على مثال السّيّد، بذلاً مستمرّاً للذّات إكراماً للمسيح وإكراماً للإنسان الّذي من أجله تجسّد المسيح واتّخذ صورته. نحن لا نولد مسيحيّين ولا نكتسب المسيحية بالوراثة، لأنّ المسيحيّة استحقاق. وإن كان الله أفاض بنعمته علينا بيسوع المسيح دون استحقاق منّا، إلّا أنّه لا يفرض علينا هذه النّعمة وإنّما يدعونا للتّفاعل معها. وإن سأل سائل لماذا نعمّد أولادنا وهم لا يعون هذا السّرّ العظيم، نقول: ولماذا ندخلهم المدارس وهم لا يعون أهمّيّة العلم، ولماذا نؤمّن لهم كلّ حاجاتهم دون أن يسألوا. فالأولى إذن أن نقدّم لهم وبحسب إيماننا الفرح العظيم، الّذي هو "الحياة".
في العماد المسيحي، أنت مسيحيّ إلى الأبد، مهما تحوّلت ومهما تبدّلت، لأنك دخلت كهنوت المسيح فأصبحت كاهناً للأبد. وإن كان العماد المقدّس شرطاً لنكون مسيحيّين، إلأ أنّنا نرى أنّ الكثيرين من غير المعمّدين سائرين على مثال السّيّد، سالكين درب المحبّة ببطولة وشجاعة. لا بل هم وفي قلوبهم العذبة يسلكون منهج المسيح باحثين عن الإنسان بحبّ ليخدموه. فالمسيحيّة ليست ديناً معلّباً، وإنّما هي فكر عميق وحضارة تمتدّ من السّماء إلى الأرض لترفع الأرض إلى السّماء.
والمعمّد يدخل في العائلة المسيحيّة الكبيرة: الكنيسة. ولا يجوز أن يتخلّى عن دوره الفعّال فيها، والّذي هو دور في مخطّط الله الخلاصيّ للبشريّة جمعاء. وعليه أن يؤدّي دوره مهما كان بسيطاً. فليس المطلوب أن نقوم بعمل جبّار لندلّ على مسيحيّتنا، يكفي أن نعمل أعمالاً بسيطة ولكن بفرح عظيم ورجاء كبير. كما يقول يوحنّا الذّهبيّ الفم: "لا يمكن أن تكون مسيحيّاً ولا تؤثّر في النّاس". أنت معمّد بالمسيح إذن أنت لبست المسيح واصطبغت به كما يقول بولس العظيم في رسالته إلى أهل غلاطية 3/26.27.28) فأنتم كلكم أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع، لأنكم تعمدتم جميعاً في المسيح فلبستم المسيح، ولا فرق الآن بين يهودي وغير يهودي، بين عبد وحرّ، بين رجل وامرأة، فأنتم كلّكم واحد في المسيح يسوع.
لبسنا المسيح، واصطبغنا به، فأصبحت هويّتنا الإنسانية هي المسيح. والمسيح ليس فكرة أو وهم مثاليّ أو أيديولوجيّة. بل هو شخص الحبّ المتنقّل بيننا. ومتى لبسناه لبسنا الحبّ، وأصبحنا كتلة حبّ متنقّلة في هذا العالم. ومن المهم جدّاً أن نعي أهمّية عمادنا ودخولنا في سرّ الحبّ العظيم، ولا يجوز بعد أن نبقى قابعين في شقائنا الأرضيّ وسلوكيّاتنا المهينة في حق الثّوب الجديد الّذي نلبسه، ألا وهو المسيح. كما أنّه لا يجوز أن يتحوّل طقس العماد إلى حفلات صاخبة هنا وهناك غير مدركين أهمّيّة ما أصبحنا عليه. وذلك كي لا نتعلق بالقشور ونفقد المضمون وبالتّالي نمتلك هويّة عظيمة ولا نعي المسؤولية الملقاة على عاتقنا.
إنّ السّيّد فتح لنا باب السّماء بمعموديّته ففاض الحبّ الأزليّ علينا وتقدّس العالم بأسره. ونحن كمسيحيين علينا أن نحافظ على هذه النّعمة العظيمة، وأن نسلك كأبناء لله على مثال معلّمنا وننزل إلى أعماق الموت لنصعد معه إلى الحياة الجديدة، الّتي تبدأ هنا ومنذ الآن مع الآخر.
نحن اعتمدنا بالحبّ، والحبّ لبسنا، فلنكن صورة الحبّ الّتي تبهر العالم وتجعل كلّ ركبة تسجد باسم المسيح. اعتمدنا بالحبّ فأصبحنا نوراً للعالم، ولننظر كيف أنّ العالم مظلم لأنّنا بأغلبنا لا ننشر الحبّ والسّلام المعطى لنا.
أنت مسيحي، إذن أنت كتلة حبّ متنقّلة. أنت مسيحي إذن أنت إنسان يدرك معاني الإنسانيّة ويسعى نحو الآخر، كلّ آخر دون خوف وتردّد تحمل إليه حبّ الله بالمسيح الّذي يلبسه.
أنت معمّد، إذن أنت مسيح آخر يجول في الأرض باحثاً عن الإنسان ليحتضنه ويحميه ويدافع عنه ويحترمه كما هو. نحن لسنا مبشّرين بالهداية إلى الحقّ، ولم يقل المسيح: "اذهبوا وبشّروا بالحقّ" ، بل قال: " اذهبوا وأعلنوا البشارة في الأرض كلّها بأنّ الإنسان تصالح مع الله ". نحن مبشّرون بالفرح الأعظم، وهو أنّ الله أتى بنفسه ليحض البشريّة جمعاء، وليجمع الإخوة. والمسيح للجميع وليس حكراً على المسيحيين، إنّما المسيحيون يحملون رسالته، رسالة المحبّة .
يا من تعمّدت في نهر الأردن
عمّدنا بالرّوح القدس والنّار،
وليحرقنا لهيب نار محبتك أيّها السّيّد،
وليتأجّج الحبّ في قلوبنا حتّى تضيق به صدورنا
فيفيض على العالم أجمع.
أنت الّذي يليق لك كلّ المجد والإكرام
مع أبيك وروحك الحيّ القدوس
من الآن وكلّ أوان وإلى دهر الداهرين .أمين.
ساحة النقاش